سيأتي يوم نتذكر موعد 3 4 حزيران 2003 على الشكل التالي: في اليوم الأول أطلقت <<خريطة الطريق>> حشرجتها الأخيرة، وفي اليوم الثاني لفظت أنفاسها.
كان يجب لهذا التقدير ألاّ يكون مستغرباً في 5 حزيران 2003 بسبب الآثار المستمرة ل5 حزيران 67. ومع ذلك فإن هناك من يستغرب. وهو يعتقد أن <<الخريطة>> انطلقت في العقبة بعد سلسلة احتفالات متنقلة من بطرسبورغ إلى إفيان إلى شرم الشيخ
. هذا الاعتقاد، ببساطة، خاطئ.
لماذا سقطت <<الخريطة>>؟ هناك من سيقول إن قلّة عدلها قتلتها. وهناك من سيتبجّح أن عرباً قضوا عليها لأنها دون طموحاتهم. كلا، سيرد البعض، أن أرييل شارون لم يكن يريدها أصلاً. سيصحح بعض آخر، ربما كان يريدها ولكن أقصى اليمين الإسرائيلي هزمه. وسيخرج من يساجل الجميع: إن جورج بوش لم يمنحها الوقت والجهد اللازمين.
كل من هذه التفسيرات صحيح في حد ذاته. وربما لعب بعضها دوراً في وأد الخريطة لحظة ولادتها. غير أن السبب الأهم للوفاة هو أن الوضع العربي، الرسمي والشعبي، أكثر ضعفاً بكثير من أن يفرض تنفيذها ناهيك عن الجنوح بهذا التنفيذ نحو الحد الأدنى المقبول.
لقد سقطت <<خريطة الطريق>> لمجرد أنها بدت على ما عليه بصفتها برنامجاً نضالياً عربياً في ظل العجز العربي عن أي نضال.
يجب أن يكون المرء مفتوناً بإلحاق وهم مؤذ بنفسه حتى لا يرى الحقيقة العربية كما ظهرت في شرم الشيخ ثم العقبة: لسنا طرفاً في أي معادلة. وقضيتنا ليست أكثر من بند على جدول أعمال العلاقة بين بوش وشارون (في أسوأ الأحوال) أو بين بوش وبعض العالم الخارجي (في أحسن الأحوال).
بلغ الجود العربي ذروته في شرم الشيخ: لا أثر للحرب الأميركية على العراق (أثر هذه الحرب مستمر في كل مكان بما في ذلك الولايات المتحدة)، لا تبرّم من استبعاد ياسر عرفات، لا اهتمام بغياب أو تغييب سوريا ولبنان ولا ذكر لهما في <<الخطاب العربي>>، لا تحفظ على الموقف الأميركي من الإرهاب... وفوق ذلك انتداب للنفس من أجل تدخل في وجهة شديدة الانضباط بما يريده المركز الامبراطوري. وتجري محاولة لتقديم ذلك وكأنه تكيّف واقعي مع مرحلة ما بعد 11 أيلول 9 نيسان. وكان يمكن، ولو على مضض، الارتضاء بهذا التكيّف لو أنه يقدم نفسه بصراحة، بالتالي خطاباً لا يعتمد التدليس واحتقار المواطن. يكفي أن نقرأ التفسيرات المعطاة لغياب عرفات وعمرو موسى وسوريا ولبنان (غير المدعوين) والمغرب (المدعو) حتى نستنتج أن التأقلم مع الإملاء الأميركي يستدعي إمعاناً في خطاب مقطوع الصلة تماماً بوقائع السياسات العربية الفعلية.
يبقى الأمر أقل وطأة من الخطاب التبشيري الوعظي لمضيف القمة في العقبة. فهناك، بالأمس، كرّر بوش أوامره، وشارون اشتراطاته، وبقي أبو مازن، دون خلق الله، ملتزماً بخريطة الطريق نصاً وروحاً (إلى متى؟).
نعود إلى خريطة الطريق لنقرأ ما كان يجب أن يقوله كل من أبو مازن وشارون.
فتحت عنوان <<في مستهل المرحلة الأولى>>، أي أمس، ورد ما يلي: <<تقوم القيادة الفلسطينية بإصدار بيان لا لبس فيه يؤكد حق إسرائيل في الوجود في سلام وأمن، ويدعو إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار وكذلك لإنهاء الأعمال المسلحة وكل أعمال العنف ضد الإسرائيليين في كل مكان. وتقوم المؤسسات الفلسطينية الرسمية جميعاً بإنهاء التحريض ضد إسرائيل (لقد
فعل أبو مازن ذلك وأكثر)... <<تقوم القيادة الإسرائيلية بإصدار بيان لا لبس فيه تؤكد فيه التزامها رؤية الدولتين المؤدية إلى دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة وذات سيادة تعيش في سلام وأمن إلى جانب إسرائيل، حسبما عبّر عنه الرئيس بوش، مع الدعوة إلى الوقف الفوري للعنف ضد الفلسطينيين في كل مكان. وتقوم المؤسسات الإسرائيلية الرسمية جميعاً بإنهاء التحريض ضد الفلسطينيين>> (لم يفعل شارون ذلك، أو أنه فعل أقل منه بما لا يُقاس).
للتدقيق في نصوص الكلمات التي ألقيت خلال اليومين الأخيرين مجال آخر. ولكن يمكن القول إننا، سياسياً، أمام <<الموجة الثالثة>> من محاولات التسوية النهائية للقضية الفلسطينية. كانت الأولى في أواخر السبعينيات ومتصلة بحرب أكتوبر وقد أسفرت عن معاهدة مصرية إسرائيلية اصطدمت بخلافات حول الشق الفلسطيني. وكانت الثانية في بداية التسعينيات ومتصلة بحرب الخليج السابقة وأسفرت عن <<اتفاق أوسلو>> وصلح <<وادي عربة>>. غير أنها، هي الأخرى، اصطدمت بقضايا الحل النهائي وارتدت إلى ما قبل أوسلو إلى حد ما. ويمكن توقع المصير نفسه لهذه <<الموجة الثالثة>>، المتصلة بحرب الخليج الأخيرة، في ظل الوضعين العربي والدولي الراهنين.
ثمة مدخل <<أخلاقي>> لمحاكمة ما يحدث. نحن، بهذا المعنى، أمام كارثة. فالعدوان يكافأ ويحقق انتصاراً، وتمجيد القوة في العراق وفلسطين له ما يبرّره على حساب الحق. والمقارنة بين الجلاد والضحية لصالح الأول. وكل مقاومة للظلم مُدانة. وحقوق الشعب الفلسطيني هي، فقط، فائض (أو <<فضلة>>) حقوق الدولة الإسرائيلية وأمنها وقدرتها التوسعية. وقانون الاحتلال يحدد شرعية الاستيطان... باختصار نحن أمام تسوية تنبني على اللامساواة المطلقة والأرجحية البنيوية لفئة على فئة.
إن المحاكمة الأخلاقية تقود إلى رفض الخريطة فضلاً عن إدانة الترجمة الإسرائيلية (وتلك الأميركية المحتملة) لها.
وثمة مدخل سياسي لفهم ما يجري ولقراءة الواقع واحتمالات تطوره. يقود هذا المدخل إلى اعتبار أن <<الخريطة>> هي فوق ميزان القوى بين العرب وإسرائيل. وهي تعبّر عن <<لحظة>> أميركية في ظل صلة ظرفية لواشنطن بأطراف دوليين وحاجتها إلى قنبلة دخانية لتمرير مشروع كبير في الشرق الأوسط. وتقضي الأمانة منا القول إن فرض تنفيذ <<الخريطة>> بدقة يقتضي حالة عربية تختلف جذرياً عن الحالة الراهنة. أما تلك الحالة المختلفة فهي التي يصبح فيها التدخل الأميركي حاجة لواشنطن لا تلبية لنداء استغاثة أو لاستجداء.
إن ما يمكن تسميته التنفيذ الدقيق ل<<الخريطة>> هو ذلك الذي يمر بإجلاء 400 ألف مستوطن، والانسحاب إلى حدود 67، والتخلي عن القدس الشرقية، ونشوء دولة فلسطينية سيدة وقابلة للحياة، وإيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين... إن هذا التنفيذ يقتضي ممارسة ضغط عربي على إسرائيل يرغم الولايات المتحدة على التدخل مع غيرها. غير أن دون العرب وهذا الضغط الحالة العربية الراهنة: فالاقتصاديات منهارة، والديموقراطية تعاني، والتنسيق في أسوأ أحواله، والنضالية الشعبية منخفضة، والصلات بالجوار مرتبكة، والحليف الاستراتيجي مفقود، والقدرة على استخدام أوراق قوة معدومة، والأنظمة منغلقة، والحياة الثقافية متردية، والصلات البينية ضئيلة...
إن المتفائل وحده هو الذي يعتبر أن الضعف العربي مسؤول عن ولادة <<خريطة الطريق>>. وهو متفائل لأنه يعتقد أن هناك من يقتنص فرصة هذا الضعف من أجل تنفيذ <<الخريطة>> كما نعرفها.
إن المتشائم (الواقعي) هو الذي يعرف أن الضعف العربي مسؤول عن موت <<خريطة الطريق>>. إن الوهن الذي تعيشه المنطقة، والذي تجلى في شرم الشيخ والعقبة، يشجع الإسرائيليين على <<طريق>> أخرى ويغري الأميركيين برمي <<الخريطة>> جانباً.
(السفير 5 حزيران)