دائرة الإحصاء تستثني السكّان البدو الذين يقطنون في القرى غير المعترف بها في النقب. ففي ما يتعلّق بهؤلاء السكّان، تمتنع دائرة الإحصاء عن نشر معطيات عدديّة أو سواها، حول وضعهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والصحّيّ. هؤلاء السكّان لا يظهرون في أيّة فئة. وفي حالات قليلة، يُشار إليهم بعبارات على نحو "البدو في المنطقة" أو "التجمّعات البدويّة المتشتّتة". يُستشفّ من هذه المصطلحات أنّ هذه الشريحة السكّانية هامشيّة، غير معروفة أو غير معترف بها، مشتَّتة على هيئة "خيمة على كلّ تلّة" (على حدّ تعبير "دائرة البدو")، ولا حاجة إلى أخذها بعين الاعتبار
ظاهرة عدم شمل المواليد في الإحصائيّات الرسميّة هي ظاهرة معروفة، وكانت سائدة في المناطق الخاضعة للاستعمار، حيث جرى تغييب للأصلانيّين وطمْس لوجودهم وإنكار له (لهذا الوجود) في الحيّز، وكذلك جرى تغييب للمعطيات التي تشير إلى وجوده.
هذا التغييب الرسميّ أتاح للنظام أن يعرض، دون أيّة معيقات، صورة وضع يدّعي من خلالها أنّ الأمور تجري كما ينبغي، بشكل طبيعيّ وحضاريّ. من ناحية أخرى، ظهر السكّان الأصلانيّون، في السياسة الرسميّة، عندما "جرت معالجتهم" على أنّهم معضلة وطنيّة، تفسد النظام العامّ الذي يسير على ما يرام!
دائرة الإحصاء المركزيّة هي الجسم الرسميّ المسؤول عن جمع وإعداد معطيات إحصائيّة في إسرائيل، إذ تقوم بنشر هذه المعطيات، في المجالات الاجتماعيّة والصحّيّة والاقتصاديّة والتجاريّة والصناعيّة، وفي مجالات عديدة أخرى، ويأتي هذا ضمن واجبها المشرّع في القانون بموجب تعليمات قانون الإحصائيّات للعام 1972. وهذه الدائرة هي الجسم المسؤول رسميًّا عن جمع ونشر معلومات ومعطيات حول شرائح السكّان كافّةً، وذلك في سبيل تقديمها للمستويات التي تخطّط سياسة توفير الخدمات وفق احتياجات السكّان جميعًا.
صحيح أن دائرة الإحصاء تسير على هذا النهج في ما يتعلق بالشرائح السكّانية المختلفة، إلاّ أنّها تستثني السكّان البدو الذين يقطنون في القرى غير المعترف بها في النقب. ففي ما يتعلّق بهؤلاء السكّان، تمتنع دائرة الإحصاء عن نشر معطيات عدديّة أو سواها، حول وضعهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والصحّيّ. هؤلاء السكّان لا يظهرون في أيّة فئة. وفي حالات قليلة، يُشار إليهم بعبارات على نحو "البدو في المنطقة" أو "التجمّعات البدويّة المتشتّتة". يُستشفّ من هذه المصطلحات أنّ هذه الشريحة السكّانية هامشيّة، غير معروفة أو غير معترف بها، مشتَّتة على هيئة "خيمة على كلّ تلّة" (على حدّ تعبير "دائرة البدو")، ولا حاجة إلى أخذها بعين الاعتبار. وكنتيجة لذلك، فإنّ المعلومات الضئيلة المتوافرة هي أيضًا "مغلوطة ومضلِّلة". وبهذا التعامل، خلقت دائرة الإحصاء المركزيّة واقعًا من الإقصاء وحجب المعلومات حول هذه الشريحة السكّانية، أو - على الأقلّ- ساهمت في خلق هذا الواقع.
لا شك أنّ إقصاء معلومات من هذا النوع أو حجبها قد ترك تأثيرًا حاسمًا على كلّ الصُّعُد الحياتيّة للسكّان البدو في النقب، ابتداءً من الاعتراف بوجود هؤلاء السكّان، الاهتمام بحقوقهم الأساسيّة، كتوفير مياه الشرب لبني البشر، وصولاً إلى ضمان سريان قوانين الدولة عليهم وتطبيق مبدأ المساواة. على سبيل المثال، لم تُتَح إمكانيّة ضمان سريان تعليمات القانون في ما يتعلّق بشؤون التربية والتعليم، بسبب رفض دائرة الإحصاء المركزيّة شمل سكان القرى غير المعترف بها في معطياتها. (يجري تطبيق قانون التعليم الإلزاميّ (تعديل رقم 16) لعام 1984، وأنظمة التعليم الإلزاميّ (السارية في رياض الأطفال) للعامين 1999 وَ 2001، بشكل تدريجيّ، بواسطة تعليمات تصدرها وزارة المعارف وفق مقياس تصنيف السلطات المحلّيّة وتدريجها وفق المستوى الاجتماعيّ الاقتصاديّ للسكّان). ولكن، لكون دائرة الإحصاء لا تقوم بشمل السكّان البدو ضمن مقياسها الاجتماعيّ- الاقتصاديّ، لم يطبَّق القانون عليهم. هكذا حُرم نحو 12,000 طفل في سنّ الثالثة والرابعة من التمتّع بالحقّ في التعليم الإلزاميّ في القرى البدويّة. وفي ممارسة أخرى، تجلّى الأمر حين قرّرت الحكومة منح إعفاء ضريبي لسكّان بئر السبع والنقب (قانون النقب -2001). "نسيت" الحكومة أن تشمل ضمن هذا التحسين الثمانين ألف عربيّ في النقب، ولم تطبّق عليهم قانون النقب، لأنه "لا وجود لهم". ولكي يحصلوا على حقوقهم، كان لا بدّ من اقتراح مشروع قانون خاصّ، بادر إليه السكّان وممثلوهم في الكنيست.
وكان مركز "عدالة" قد توجّه إلى دائرة الإحصاء المركزيّة بطلب وضع حدّ لسياسة الإقصاء تلك، بيد أنّ المسؤولين في تلك الدائرة لم يقتنعوا بضرورة شمل السكّان البدو في المعطيات المعروضة أمام الوزارات الحكوميّة، متذرّعين بأنّه لا يمكن جمع هذه المعطيات؛ ذلك أنّ هذه القرى غير معترَف بها، ولذا ليس للقرى البدويّة حدود معرّفة ومحدّدة، وبناء على ذلك، لا يمكن إجراء عمليات إحصائيّة دقيقة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الحجج الواهية تتداعى مباشرةً حين نعلم أنّه يمكن استقاء معطيات حول السكّان البدو وعددهم من مصادر عديدة. إذ يمكن العثور على معطيات حول عدد السكّان، على سبيل المثال، في سجلّ تعداد السكّان الذي أعدّته دائرة الإحصاء المركزيّة في العام 1995. في ذلك السجلّ، تمّ إجراء إحصائيّات حول القرى غير المعترف بها، بيتًا بيتًا وفردًا فردًا، وفق خرائط وتصوير جوّيّ (من خلالها يحدّدون بيوت أهل النقب ، وبحسبها يقومون بهدمها لاحقاً). كما تُمْكِن العودة إلى سجلّ السكّان، في بطاقات الناخبين (في توزيع المدارس في القرى غير المعترف بها)، والعثور هناك على عدد السكّان الدقيق. أمّا المعطيات حول عدد الطلاب، فيمكن العثور عليها في سلطة تعليم البدو، وفي الإمكان الحصول على معطيات اقتصاديّة حول السكّان في مؤسّسة التأمين الوطنيّ وفي مكاتب الرفاه الاجتماعيّ.
من يعرف واقع سكّان القرى غير المعترف بها، يعرف أنّ هناك أسبابًا كثيرة لعدم إدراجهم في المعطيات، لكنّ أحد هذه الأسباب هو بالتأكيد محاولة الامتناع عن كشف الوضع القاسي للسكان هناك بشكل رسميّ، لأنّ أيّ كشف كهذا يخلق تحدّيًا جدّيًّا أمام السياسة السلطويّة تجاه العرب البدو. ففي الالتماسات إلى المحكمة العليا، حاول السكّان كشف القليل من هذا الواقع، وكان لهذا الكشف قوّة ذات أهمّيّة من الصعب تجاهل وجودها. ليس من قبيل الصدفة أنْ أكّد رئيس المحكمة العليا، القاضي أهرون باراك، قبل ثمانية أعوام، في التماس ممثلي الجمهور البدويّ لربط المدارس بالكهرباء ما يلي:
"حقًّا، لا يمكن البتّة قبولُ الوضع القائم المتمثّل في كون مدارس الطلاب البدو- موضوع الالتماس- غير موصولة بالكهرباء، بعد خمسين عامًا من إقامة دولة إسرائيل، ويشكّل شهادة بؤس لدولة إسرائيل. لا يمكن أن يستمرّ هذا الوضع".
وفيالمقابل،يكشفلناالجدلفيصفوفالجمهورالإسرائيلي،بمافيذلكالمؤسّساتيّ،صورةمناقضةفيمايتعلّقبوجودأوغيابمعلوماتمنهذاالنوع. فعلىسبيلالمثال،عقدتجامعةحيفامؤتمرًاحول "المشكلةالديمغرافيّةوالسياسةالديمغرافيةلإسرائيل"،برزتفيهالمعطياتحولالبدو. عرضالأكاديميّونالذينشاركوافيالمؤتمرمعطياتحولنسبةالتكاثرلدىالبدو،وزعمواأنّهينبغيالعملمنأجلالحدّمنهذهالنسب،التيتشكّلخطرًاحقيقيًّاعلىالحفاظعلىأغلبيّةيهوديّةفيدولةإسرائيل. وهنايُطرَحالسؤال: منأينجُمعتالمعطياتلهذاالمؤتمرالعنصريّ؟كيفتظهرفجأةمعطياترسميّة "دقيقة" حولالجوانبالحميميّةجدًّافيحياةالنساءوالرجالالبدو؟
ولكن "المعلومات" حول وجود البدو تصل كذلك إلى المؤسّسات الرسميّة. هكذا مثلاً سنّ الكنيست قانون طرد الغزاة (قانون أراضي الجمهور [طرد الغزاة] [تعديل] لعام 2005)، الذي يُظهر أنّ السكّان الأصلانيّين في النقب بخاصّةٍ هم الذين يسيطرون على أراضي الدولة، وبناء عليه، ينبغي اتّخاذ خطوات صارمة لمنعهم من الدخول إلى مناطق معيّنة. القانون يخوّل السلطات المحلّيّة اليهوديّة طرد "البدو الغزاة" وتقديمهم إلى المحاكمة. هذا القانون يماثل في جوهره "Group Areas Act"، الذي عليه قامت سياسات التمييز العرقيّ (الأبرتهايد) في جنوب أفريقيا في العام 1950، والذي مكّن "الجيران البيض" من طرد السود من "المناطق المحظورة" عَبْر إخلاء تلك الأماكن منهم وهدم بيوتهم. وفي المقابل، يصادق المجلس القطريّ للتخطيط والبناء على إقامة مزارع منفردة بملكيّة يهوديّة، من أجل القيام بعمليّات ضبط النظام أو المحافظة على الأمن ضدّ العرب البدو الذين ينوجدون في "المناطق المحظورة". بيد أنّه أمام هذه "المعلومات" الرسميّة، ليست ثمّة معلومات رسميّة، أو اعتراف، في ما يتعلّق بإبعاد البدو عن أراضيهم منذ سنة 1948، وليست ثمّة أسماء رسميّة للقرى التي هُجّروا منها بُعَيْد قيام دولة إسرائيل.
من هنا يتبيّن أن المعلومات حول البدو هي بمثابة غائب- حاضر؛ فتاريخهم، ووضعهم الاجتماعيّ الاقتصاديّ، وملكيّتهم للأرض- كلّ هذه هي معطيات غُيِّبت من السجلاّت الرسميّة. وفي المقابل، المعلومات المتوافرة حولهم تتطرّق إليهم فقط بوصفهم تهديدًا بشريًّا جسديًّا للنظام الرسميّ.
إنّ خلط المعلومات والتعامل معها كغائب- حاضر يفسح المجال لتغذية الأفكار المسبقة ولتطوير سياسة عنصريّة ضدّ الأصلانيّين العرب في النقب. كذلك، إنّ عدم الاعتراف الرسميّ بالمعطيات المتعلّقة بوضعهم يسهم في الحؤول دون إجراء نقاش عامّ عقلانيّ حول مكانتهم المدنيّة التي تعاني الغبن والإجحاف.
(*) محام. المقال ظهر في النشرة الألكترونية لمركز "عدالة".