لا يمكن إنهاء التمييز الجماعي والتاريخي والمنهجي تجاه مجموعة ما إلا باتباع سياسة تفضيل تصحيحي (أو تمييز إيجابي) مبني على أساس جماعي ومنهجي طويل الأمد، لكي نستطيع محو آثار الغبن التاريخي. وعندما تطالب بحقوق جماعية للأقلية، انما نطالب بذلك لأية أقلية في أي مكان وزمان.
بقلم: المحامي نمر سلطاني
لأول مرة يطرح موضوع الحقوق الإجتماعية للأقلية الفلسطينية في إسرائيل وبقوة على الطاولة من كافة جوانبه. حدث ذلك في الناصرة، عاصمة الأقلية الفلسطينية في إسرائيل وبتنظيم من "مدى - المركز العربي للدراسات الإجتماعية التطبيقية" في حيفا.
كان من الطبيعي أن يبادر الفلسطينيون إلى طرح هذا الموضوع من وجهة نظرهم هُم، لا من وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية السياسية والأكاديمية، لأنها قضيتهم بالدرجة الأولى. ولا شك في أن الخوض في هذا الموضوع الآن ليس بالأمر السهل، على ضوء الرفض الإسرائيلي لإعطاء حقوق جماعية حقيقية وذات شأن "لفلسطينييها"، وعلى ضوء تصوير المؤسسة لمن يطرح مثل هذا الشأن من العرب كمتطرف وانفصالي.
ربما كان من الممكن أن يعقد مثل هذا المؤتمر منذ سنوات عدة، لكن انعقاده في الوقت الراهن يبدو "مثاليا" من حيث نضوج الظروف لبداية تبلور علاقات القوة في الداخل والخارج. وذلك بالرغم من أن بعض الآفاق ما زالت غائمة.
هل كان بالإمكان عقد مثل هذا المؤتمر قبل عملية أوسلو، حيث أصبح واضحا أن الأقلية الفلسطينية خارج سياق فض النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني؟
لقد اتضح في أوسلو أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تتحدث بإسم هذه الأقلية، وأنها تحولت إلى شأن إسرائيلي داخلي محض.
ومن جهة أخرى: هل كان بالإمكان عقد مثل هذا المؤتمر لولا انهيار عملية أوسلو؟ ولولا انتفاضة الأقصى وأحداث أكتوبر والهجمة التشريعية والسياسية والإسرائيلية في السنتين الأخيرتين على فتات الحقوق الفردية الليبرالية التي حصل عليها الفلسطينيون في إسرائيل؟
في مثل هذه الظروف المعقدة تثور العديد من الأسئلة حول العلاقة مع الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة والشتات. فإذا كان الشعب الفلسطيني حتى الآن لم يحصل على حقوقه الجماعية (وعلى رأسها حق تقرير المصير)، فكيف سيحصل الفلسطينيون في إسرائيل على حقوق جماعية؟ لكن، من ناحية أخرى- لماذا نفترض أن هناك تناقضا بين الأمرين؟ لماذا لا يكون النضال الأول مكملا للنضال الثاني؟
على أية حال، فإن قضية منح الحقوق الجماعية لفلسطينيي الداخل بمعزل عن القضية الفلسطينية - مع أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني - تظل موجودة في ثنايا النقاش. وسبب ذلك يعود إلى التداخل والتشابك بين الداخل والخارج الإسرائيليين وهاجس "يهودية الدولة" والحفاظ عليه. وعندما يبرر اليسار الصهيوني دعمه لحل الدولتين أو للإنفصال عن الفلسطينيين، يقول أن هدف ذلك هو الحفاظ على طابع الدولة اليهودي. لقد لاحظنا في السنتين الأخيرتين أن اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا يستعمل مصطلح "فلسطينيين" بدلا من "عرب إسرائيل". بذلك يكون اليمين قد ترك مقولة غولدة مئير الشهيرة التي تنكر وجود الشعب الفلسطيني. لكن هدف اليمين ليس التأكيد على هوية فلسطينيي الداخل القومية، التي حافظوا عليها دائما، بل التحريض واستغلال أجواء الشوفينية القومية في المجتمع الإسرائيلي للإنقضاض على حقوق الأقلية الفلسطينية.
· التنظير والتمثيل
أثار المؤتمر هذه الأسئلة كلها كما أثار سؤالين أوليين آخرين: التنظير والتمثيل. القضية الأولى تتعلق بالعلاقة بين البحث الأكاديمي والواقع. هل الحديث عن الحقوق الجماعية في ظل الظروف التي نعيشها، والتي سردنا بعضها باقتضاب أعلاه، هو أمر نافع؟ وإذا كان للبحث الأكاديمي أن يشطح به الخيال، ألا يجب على الأكاديميين أن يأخذوا الواقع بالحسبان؟ ألا يجب أن نلاحظ كيف يتم تفسير هذا النقاش عند الطرف الآخر؟ ألا يمكن أن يكون هذا الحديث ذريعة أخرى للطرف الآخر لكي ينزع بقايا الحقوق عن الأقلية؟ وعلى سبيل المثال - أليس حديث النخب الإسرائيلية عن الخوف من الإنفصالية المزعومة يعد تبريرا للوضع القائم وتكريسا له؟
في الاجابة على هذه الاسئلة، وكمقدمة لها، يتوجب على البحث الأكاديمي أن ينطلق من الواقع ومعوقاته ليس من أجل التخبط به بل من أجل الخروج منه وتجاوزه. الحلم والخيال يجب أن يكونا وسيلة التجديد والإبتكار، والأهم - لتغيير الواقع. في بعض الأحيان، لانستطيع أن نغير الواقع من خلال لغة هذا الواقع وأدواته، لذلك علينا أن نمتلك هذه اللغة وهذه الأدوات. ما يبدو خيالا جامحا وهذيانا لا شفاء منه في هذه الأيام قد يصبح واقعا محققا في المستقبل. وعلى ضوء التغييرات السريعة التي تمر بها المنطقة فقد يكون هذا المستقبل منظورا.
بالإمكان طرح هذا السؤال في الإتجاه المعاكس، مثلما فعل البروفسور عادي أوفير في المؤتمر. بمعنى: إذا كان الوضع الشائك يلقي بظلاله على كل الإقتراحات ويجعلها تبدو خيالية، فلماذا إذا لا نتحرر من الواقع تماما ونتحدث عن أكثر الإقتراحات جموحا؟!
لا شك أن مثل هذا المؤتمر يشكل حافزا للكتابة والنقاش في هذا الموضوع وبالتالي سيلقي ظلاله على الواقع وحَجَرَه في البحيرة الراكدة، محركا الراكد، وصانعا ردود الفعل، حتى يحدث ما قد لا يكون بالحسبان.
أما القضية الثانية فهي قضية التمثيل. بمعنى: هل يمثل الأكاديميون، أو المثقفون إذا شئتم، الأقلية التي يتحدثون عنها أو باسمها؟ ومتى يصح أن نقول أنهم يمثلونها، ومتى يتوقفون عن ذلك؟ بمعنى - ما هو الحد الفاصل بين شرعية وأحقية وأهلية هذا التمثيل وبين عدمها؟
طرح رائف زريق هذا الموضوع في مداخلته في المؤتمر. بالرغم من شرعية طرح السؤال، إلا أنني أرى أن مثل هذا السؤال يمكن أن يكون أداة شلل فكري وسياسي وإلخ. فما هو التمثيل الذي نقصده؟ هل على النخب الثقافية أن تُنتخب انتخابا هي الأخرى؟ وما الفرق حينها بينها وبين النخب السياسية؟ إن ما يميز النخب الثقافية هو كونها غير محكومة بقواعد اللعبة السياسية وبالتالي فإنها أكثر حرية وقدرة على التفكير الخلاق. والأهم من ذلك كله: هل نحن كأقلية فلسطينية نعرف ماذا نريد، وقررنا ما نريد؟
معظم المشاركين في المؤتمر (ما عدا ثلاثة - هنري ستاينير ورائف زريق ويوآف بيلد) يرون أنه آن الأوان لكي تتحدث الأقلية عن حقوق جماعية. وقد عرض المشاركون عدة صيغ لحلول محتملة. مثلا: الحكم الذاتي الثقافي، والمشاركة في تقاسم القوة وإعطاء الأقلية حق النقض – الفيتو - بكل ما يتعلق بمكانة الأقلية وحقوقها المباشرة (حسن جبارين)، والأطر الفدرالية (إيريس يونغ)، والدولة الثنائية القومية داخل إسرائيل (نديم روحانا)، والدولة الثنائية القومية على كامل التراب بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهكذا.
أثيرت خلال مناقشة هذه القضايا أسئلة كثيرة شائكة. على سبيل المثال: هل حق الفرد ينبع من كونه عضوا في مجموعة، أم أن حقه في الإنتماء الجماعي هو جزء لا يتجزأ من حقوقه الفردية كما ترى الليبرالية؟ ومن الذي يحتاج إلى حق ما بناء على انتمائه الإجتماعي بحيث يوفر له هذا الحق حماية لهذا الإنتماء؟ هل هو حق للجميع أو أنه فقط للأقليات المهمشة اجتماعيا وسياسيا؟ لقد كان ضروريا في هذا السياق التفرقة بين أنظمة الحكم الليبرالية وغير الليبرالية. في الدول الليبرالية، يفترض أن تكون الدولة محايدة وليست لديها إيديولوجية خاصة. وإذا كان هناك هدف للدولة فهو أولوية حقوق الفرد على أي شيء آخر. في الدول غير الليبرالية، فالدولة آيديولوجية وتخدم مصالح مجموعة معينة دون غيرها. في الدول الليبرالية تنبع حقوق الجماعة من حقوق الفرد. أما في غير الليبرالية فإن حقوق الفرد تنبع من الجماعة. يدعي البعض أن الدول الليبرالية وحدها تضمن معنى وفائدة للحقوق الجماعية. أما في الدول النقيض فلا معنى للحقوق الجماعية لأن بنية الدولة تُخضع كل الحقوق لآيديولوجيتها.
على أي حال، كما يدعي هؤلاء، إذا طالبنا بحقوق جماعية فعلينا أن نطلب ذلك لكل المجموعات في داخل الدولة غير الليبرالية. وقد مثل مثل هذه الإدعاءات في المؤتمر يوآف بيلد. وهو ادعاء ليس دقيق بالضرورة. من ناحية، فإن الدولة، سواء كانت ليبرالية أو غير – ليبرالية، هي غير محايدة. أضف إلى ذلك أن الدولة الليبرالية تنطلق من مقولة أن الفرد ذو ذاتية مستقلة ويستطيع اتخاذ قراراته وخياراته في الحياة بشكل حر ومستقل. لكن هذه المقولة لا تستطيع أن تصمد طويلا أمام الواقع. لقد بات واضحا للعيان أن ذلك ليس إلا وهما في عصرنا الحديث. ومن ناحية أخرى فإن الدول غير الليبرالية تعطي حقوقا جماعية لمجموعة إثنية أو قومية أو ما إلى ذلك على حساب مجموعات أخرى. في هذه الحالة فإن الحل هو بتغيير الطابع غير الليبرالي للدولة. بمعنى - أن نجرد المجموعة المهيمنة من امتيازاتها. لكن هذا الحل غير كاف لأن المجموعة المهيمنة هي أغلبية بالمعنى الفعلي أو بمعنى السيطرة على موارد الدولة. لذلك هناك حاجة ماسة لإعطاء حقوق جماعية للأقلية بالمعنى الفعلي أو بمعنى الدونية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية. هذه الحقوق تساعد هذه الأقلية على تجاوز حالة الدونية (حقيقية أم متخيلة) عن طريق تعزيز هويتها الذاتية الجماعية (القومية أو الثقافية أو الدينية).
الإدعاء بأنه يجب إعطاء الحقوق الجماعية لكل المجموعات وليس لمجموعة واحدة فقط في الدول غير الليبرالية (أي ليس فقط الأقلية) هو ادعاء نظري خاطيء. وذلك لأنه يساوي بين موقف المهيمن والمهمَّش، وبذلك يتجاهل وضعية عدم التساوي. الأغلبية لا تحتاج إلى حقوق جماعية بشكل خاص، من منطلق كونها أغلبية وبحكم كونها كذلك فإنها تملك الأفضلية. زد على ذلك، لا يمكن إنهاء التمييز الجماعي والتاريخي والمنهجي تجاه مجموعة ما إلا باتباع سياسة تفضيل تصحيحي (أو تمييز إيجابي) مبني على أساس جماعي ومنهجي وعلى مدى طويل، لكي نستطيع محو آثار الغبن التاريخي. عدا عن ذلك، وهذا ادعاء مثله جميل دكوَر، فعندما تطالب بحقوق جماعية للأقلية فإنك تطالب بذلك لأية أقلية في أي مكان وزمان. بمعنى - أن هذه الحقوق يجب أن تعطى للأغلبية في حالة تحولها إلى أقلية مهمَّشة تحتاج إلى حماية لكي تحافظ على هويتها.
اثيرت في المؤتمر نقطة اخرى هي قضية حقوق السكان الأصلانيين في القانون الدولي (وعلى سبيل التخصيص - الهنود الحمر في أمريكا الشمالية). في هذا الشأن قالت كاتريونا درو أن الفرق بين الشعب الفلسطيني والشعوب الأصلانية يكمن في أن الأول حظي باعتراف متكرر من المجتمع الدولي بحقه في تقرير المصير بينما الأخيرة ما زالت تناضل من أجل الإعتراف بهذا الحق. ومع ذلك، تقول درو، بالإمكان القول إن الأقلية الفلسطينية في الداخل هي شعب أصلاني وفقا لتعريف القانون الدولي. وتعريف الأقلية كأصلانية يعزز من ادعاءاتها بخصوص حقوقها في الأرض. وفي الحقيقة، لو فحصنا موقف القانون الدولي مليا في وقتنا الراهن بخصوص ماهية "الشعوب الأصلانية" لما وجدنا تعريفا متفقا عليه. أما التعريف الذي عرضته كاتريونا درو فهو ليس تعريفا (وهو البند الأول للعهد الدولي رقم 169 المتعلق بالشعوب الأصلانية والصادر عن منظمة العمل الدولي - 1989). هذا البند يوضح من هم الأشخاص والمجموعات الذين تتوجه إليهم وتسري عليهم الوثيقة. ومن يراجع البروتوكولات التي سبقت إقرار العهد الدولي المذكور يستنتج أن منظمة العمل الدولي لم تدخل تعريفا للوثيقة بشكل متعمد على ضوء تجربتها في الوثيقة السابقة (والتي تحمل رقم 107).
في إجمال هذه النقطة - لا أرى أية عوائق في وجه تعريف الأقلية الفلسطينية في إسرائيل كأقلية أصلانية، وذلك بالإضافة إلى كونها "أقلية قومية" في القانون الدولي. لا أظن أن لهذا التعريف أو ذاك سيكون هناك تأثير على أرض الواقع أو على قضاء القانون بالنسبة للأقلية الفلسطينية، ولكن ما من شك أن هذا التعريف الأصلاني يعزز الإنتماء والكبرياء ويؤدي بالتالي إلى تقوية وتدعيم الذاتية الفردية والجماعية. هذا التعريف يغير من نظرة الذات ومن نظرة الآخرين اليها.
* في ضوء ما اثير في المؤتمر الريادي هذا من قضايا، ليس لنا الآن إلا أن نستمر في تطوير الفكرة وبلورتها لكي نعرف ماذا نريد وإلى أين نمضي من هنا. كما أننا في انتظار أن يقوم مركز "مدى" بإصدار كتاب يضم بين دفتيه هذه المناقشات والمحاضرات المثرية.
* الكاتب هو منسق مشروع الرصد السياسي في "مدى - المركز العربي للدراسات الإجتماعية التطبيقية" في حيفا.
المصطلحات المستخدمة: