المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • وثائق وتقارير
  • 1244

من المعلوم أن يغئال عمير قاتل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، الذي أحيَّتْ إسرائيل في وقت سابق من هذا الشهر الذكرى السنوية العاشرة لاغتياله، قد انبثق من بين صفوف تيار الصهيونية- الدينية، أو بتسميته الأخرى التيار القومي- الديني المسيحاني. وقد تعالت منذ حادث الاغتيال، ولا زالت تتعالى من حين إلى آخر، أصوات من داخل صفوف هذا التيار تدعو إلى إجراء مراجعة ووقفة تقييم جذرية لطريق ومنهج ومستقبل الصهيونية الدينية ولا سيما في ظل احتدام الصراع بين المعسكرات الرئيسية المتنازعة في الدولة العبرية "الديمقراطية واليهودية" حول طابع هذه الدولة وهويتها ومستقبلها خاصةً في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة.

 

 

إحياء ذكرى اغتيال رابين شكَّلَ مناسبة جديدة لدى بعض مفكري وكتّاب تيار الصهيونية الدينية لتأمل ما إذا كانت هناك تغييرات وتحولات جادة قد طرأت على تفكير ومنهج عمل القوى والأحزاب والمجموعات المكونة لهذا التيار بعد مرور عشر سنوات على حادث الاغتيال السياسي الأول في تاريخ إسرائيل، وهو ما عبَّرَ عن نفسه في عدد من التقارير والمعالجات التي نشرتها الصحف العبرية خلال الفترة الأخيرة والتي نقدم فيما يلي عرضاً ملخصاً لبعضها:

 

لماذا يقف التيار الصهيوني- الديني في عين العاصفة منذ عقدين على الأقل؟

 

يقف المجتمع الصهيوني الديني منذ عشرين عاماً أو أكثر في عين العاصفة الإسرائيلية. ففي الحدثين المركزيين اللذين طبعا بطابعهما العقد الأخير:- اغتيال إسحاق رابين وتنفيذ خطة الانفصال – احتل هذا المجتمع في الحدث الأول مكان المُتهَّم وفي الثاني مكان مُوجِّه الاتهام.

 

في الماضي كانت الصورة مختلفة، فقد عاشت الصهيونية الدينية وعملت كمجموعة هادئة، مندمجة ومتطلعة إلى تحقيق الإجماع (الصهيوني القومي). فكيف تحول هذا اللاعب الثانوي إلى شخصية مركزية في المشهد الجماعي الإسرائيلي وفي الأحداث الفاجعة والمفصلية التي تشهدها إسرائيل؟

 

لقد سعت الصهيونية- الدينية دوماً إلى الإسهام بدور على امتداد صيرورة المشروع الصهيوني. في البداية اصطدمت هذه الرغبة بعدم اكتراث أو حماس من جانب الصهيونية العلمانية... بيد أن تلك الأيام الغابرة التي اقتصر فيها إسهام أتباع الصهيونية الدينية على أدوار ووظائف ثانوية، ولّت وانقضت وأمسى أبناء وبنات هذا التيار متغلغلين في نسيج الحياة الإسرائيلية ومندمجين في العمل والإنتاج في كل زوايا وأركان البيت الإسرائيلي.

 

بيد أن هناك جانبًا آخر، مقلوبًا أو معاكسًا في نظرة الصهيونية الدينية إلى المجتمع الإسرائيلي. وكما هو معروف فإن أحد التيارات المركزية في الصهيونية يرى فيها (في الصهيونية) بديلاً للدين. فالصهيونية من وجهة نظر هذا التيار تمثل مشروعاً لمغزى وأسلوب حياة يهودي في عالم لم يعد فيه الدين ذا صلة، أو أنه على الأكثر مجرد ذاكرة وتقاليد لا ينطويان على قوة إلزام. هذه الرؤية المتنفذة تزج وتبقي الصهيونية- الدينية في صراع وجودي هائل ... لذلك، وإلى جانب الرغبة في الاندماج في الواقع الإسرائيلي، هناك وعي كامن في الصهيونية الدينية قوامه التعارض والرفض تجاه هذا الواقع.

 

المجتمع الديني- الحريدي، الذي أدرك بوضوح التهديد والخطر الكامن في المشروع الصهيوني، رفض هذا المشروع وحلَّ التناقض منذ البداية عن طريق التميز والانفصال عن الصهيونية. في المقابل فإن الصهيونية- الدينية تخبطت منذ ظهورها في ازدواجية واضحة فيما يتعلق بنظرتها وموقفها من الصهيونية العلمانية. وبغية تسويغ الشراكة الإشكالية طور منظّرو الصهيونية الدينية رؤيةَ لاهوتيَّة أعطت معنى وتفسيراً دينياً للصهيونية وأوضحت أن التعاون مع هذه الصهيونية (العلمانية) لا يتعارض مع الدين اليهودي بل هو على العكس عمل وسلوك ديني... هذه الرؤية الصهيونية- الدينية المسيحانية التي أرساها الحاخام أبراهام إسحاق كوك، أسبغت على المشروع الصهيوني، بروحه العلمانية ومؤسساته، مغزى دينياً ورأت فيها وسائل وأدوات في الصيرورة (التحقق) الخلاصي الإلهي (...). غير أن هذا "الحل السحري" للتناقض الديني (مع الصهيونية العلمانية ومشروعها) ينطوي على إشكالية، إذ أٌقيم بين الصهيوني المتدين وبين الصهيوني العلماني سور عالٍ ومنيع، حتى وإن كان شفافاً أو غير مرئي. فاندماج الصهيونية الدينية في إسرائيل العلمانية ليس طبيعياً البتة. وهو منوط بمحاولة دائمة لرؤية "الآخر" بشكل "أعمق" و "أصّح" مما هو يفسر نفسه.

 

إلى ذلك فإن الواقع الإسرائيلي لم يتطور دائماً بمقتضى التفكير الديني، وتاريخ الدولة يحفل بصراعات وأزمات عديدة نشبت حول مكانة الدين في الدولة وهددت مراراً وتكراراً بتقويض السد الثيولوجي الغيبي. لكن الصهيونية- الدينية ظلت في المحصلة تتمسك بعقيدتها وقناعتها المتعلقة بإمكانية تفسير الوجود اليهودي- العلماني عن طريق منظومة من التبريرات والمسوغات الدينية.

 

الدولة كمحطة انتقالية...

 

وحيث أن الدولة العلمانية هي، من وجهة نظر مفكري تيار الصهيونية الدينية، مجرد محطة انتقالية في الطريق إلى الهدف الحقيقي (الخلاصي) فقد سعت القوى الصهيونية الدينية على الدوام إلى بث الرسالة والقيم والقواعد الدينية في صفوف المجتمع والدولة والعمومية الإسرائيلية وذلك عن طريق التشريعات الدينية. فضلاً عن ذلك، اعتقدت هذه القوى دوماً أنه طالما كانت الدولة بتنظيمها العلماني مجرد مظهر عابر ومؤقت، فإنه لا حاجة إذاً إلى البحث فيها وفي أبعادها ومعانيها، ولذلك أعفْى الحاخامات أنفسهم منذ البداية من إعطاء تفسير ديني- توراتي للدولة والنظام وكل ما يرتبط بهما من مؤسسات وإفرازات.

 

وكما يُلاحظ فإن الهلاخاه (الشريعة الدينية اليهودية) تخلو اليوم من نظرة تحليلية جادة للظاهرة السياسية- الاجتماعية المركزية في العالم اليهودي المعاصر، ظاهرة دولة إسرائيل. وفي الحقيقة فإنه لم تنشأ أبداً وفي أي وقت مضى فجوة كبيرة بين "الهلاخاه" والحياة (الإسرائيلية) إلى الحد الذي بلغته هذه الفجوة في الوقت الحالي. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يشكل أحد منابع الصراع الشديد بين الدولة والدين اليهوديين.

 

عملية متواصلة منذ اغتيال رابين...

 

تحتل الصهيونية- الدينية مكانة مركزية في الحياة الإسرائيلية وذلك لأنها تصارع من أجل رؤيتها الثيولوجية ضد تيار التاريخ. وإذا كانت هذه الصهيونية (الدينية) تقف بالفعل في عين العاصفة، بل وتثيرها، فذلك لأنها، وخلافاً لباقي اللاعبين في الساحة السياسية والاجتماعية، لا تصارع فقط من أجل مصالح ومراكز نفوذ وميزانيات ورؤية أمنية أو أيديولوجية اجتماعية. ومن هنا فإن مغزى وجود الصهيونية الدينية وركيزتها الثيولوجية وقدرتها على التحرك والعمل في ظل تناقض وصراع غير محلولين، كلها أضحت اليوم ملقاة في كفة الميزان. لذلك يتعين على تيار الصهيونية- الدينية التحرر من اللغة اللاهوتية الشمولية التي تنظر من خلالها إلى الواقع. فهذه اللغة مآلها أن تدفع جمهوراً أساسياً في المجتمع الإسرائيلي نحو رفض الواقع الواقعي ونحو الصراع ضده، وهي عملية بدأت في الفترة التي اغتيل فيها رئيس الوزراء (إسحاق رابين) وآلت إلى التفاقم والاشتداد في هذه الآونة.

 

إن على هذه الصهيونية أن تلتقط هذه اللحظة لإجراء التصحيح المطلوب قبل فوات الأوان، لا سيما وأن الأضرار الدينية والثقافية والتربوية تمضي نحو المزيد من التفاقم.

 

ما الذي تغيّر؟

 

في منتصف الليلة التي قُتِلَ فيها إسحاق رابين صرحت شولاميت ألوني "منذ الغد لن تكون الدولة نفس الدولة" ... وفي صبيحة اليوم التالي تحدث يوسي سريد بلهجة مشابهة "من الأمس لم تعد دولة إسرائيل نفس الدولة". لقد عبَّرَ الاثنان عن شعور خيَّمَ في ذلك الأسبوع على كل المناقشات الإعلامية والأحاديث الشخصية ... اليوم، وبعد مرور عشر سنوات، يمكن القول إن هناك شيئاً واحداً قد تغير على وجه التأكيد وهو أن سريد و ألوني لم يعودا وزيرين وأن المواقف التي عبرا عنها لم تعد ممثلة حول مائدة الحكومة. مع ذلك فإن عشر سنوات هي فترة كافية من أجل تفحص ومعرفة ما الذي تغير حقاً في المجتمع الإسرائيلي، إن كان هناك من تغير بالفعل، في أعقاب اغتيال رابين.

 

كما هو معروف، فإن الموضوع المركزي الذي أُثير عقب الاغتيال، هو طابع الخطاب السياسي وحدوده. في الأسبوع التالي للحادث كانت الآراء منقسمة حول مسألة كيف سيؤثر حادث الاغتيال على الخطاب. من جهة، ظهرت تقديرات متشائمة كتلك التي عبَّرَ عنها الصحافي أمنون دنكنر (محرر صحيفة "معاريف" حالياً) والذي توقع قائلاً "أُفُقنا أضحى متكدراً وقاتماً ... كل الأمور والأشياء التي اعتقدنا أنها غير ممكنة عندنا (في إسرائيل) أصبحت الآن مطروحة على الطاولة. ففي اللحظة التي أصبحت فيها أمتنا من أسوأ الأمم، فلا شك أن حرب الأخوة-الحرب الأهلية- أمست ممكنة أيضاً".

 

على الجانب الآخر كان هناك من عبَّرَ عن تقديرات أكثر تفاؤلاً، مثل البروفيسور شلومو أفنيري الذي توقع اعتدالاً في الخطاب السياسي: "بعض التفوهات المنطوية على عنف وانعدام مسؤولية من جانب زعماء سياسيين لن تتكرر(...) ستكون هناك يقظة وتنبه أكبر من جانب المؤسستين السياسية والقضائية فيما يتعلق باللجوء للقانون من أجل منع مظاهرات غير قانونية(...) أتوقع أيضاً محاسبة للنفس، على الأقل لدى قسم من الحاخامات والزعماء المتدينين".

 

بعد مرور عشر سنوات نجد ممثلي تيارين سياسيين متنازعين، رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية (وغزة سابقاً) بنتسي ليبرمان من جهة، والسكرتير العام لحركة "السلام الآن"، ياريف أوبنهايمر، من جهة أخرى، يتبنيان ذات التحليل المتفائل.

 

يقول ليبرمان "جمهورنا- أي المستوطنين- كان يراعي على الدوام الرسمية، وليس صدفة أن النضالات التي خاضها هذا الجمهور حول خطة الانفصال كانت أقل عنفاً من النضالات التي دارت حول اتفاقيات أوسلو في حينه. هذا الأمر لم يحدث فقط بتأثير الاغتيال (اغتيال رابين) ولكن بالتأكيد كان لدروس وعبر الحادث تأثير معين".

 

من اللافت أن أوبنهايمر يمتدح الخصوم اليمينيين إزاء ما طرأ لديهم من اعتدال حسب رأيه "رفاقي من اليسار لن يستسيغوا ما سأقوله، ولكن سلوك اليمين أثناء (تنفيذ خطة) الانفصال برهن على أن الجزء الأعظم من هذا المعسكر (اليميني) استخلص عبراً من مقتل رابين، حيث أضفى اعتدالاً كبيراً على تفوهاته وطابع نشاطه ...". ومضى سكرتير عام "السلام الآن" في إطرائه للمعسكر اليميني بقوله "فيما عدا حادثي القتل (الجريمتين اللتين ارتكبهما مستوطنون متطرفون أثناء تنفيذ الانسحاب من قطاع غزة وراح ضحيتهما ثمانية مواطنين فلسطينيين في شفاعمرو وقرب مستوطنة "شبوت راحيل" شمال رام الله) لم تقع أحداث عنف تذكر". وتابع أوبنهايمر "العدد القليل للرافضين [المستوطنين الذين رفضوا الانصياع لأوامر الإخلاء] يثبت أن غالبية الجمهور الديني- القومي أصبحت حتى في هذا المجال أكثر نضجاً وديمقراطية من قادتها".

 

"العنف السياسي تفاقم بعد الاغتيال"...

 

لكن هذا التوافق اللافت لم يكن مقبولاً لدى البروفيسور يورام بيري، رئيس معهد هرتصوغ للإعلام والمجتمع والسياسة في جامعة تل أبيب، والذي نشر مؤخراً كتاباً حول اغتيال رابين كجزء من "الحرب الثقافية الإسرائيلية".

 

فعلى عكس الآمال والتوقعات التي عبَّرَ عنها الكثيرون، يعتقد بيري أن العنف السياسي في إسرائيل ازداد في أعقاب اغتيال رابين "بعد أن قتل رئيس حكومة، أصبح كل شيء يقل عن ذلك، يعد بمثابة هبوط في مستوى العنف ... لعلنا نبتهج لعدم وقوع تبادل لإطلاق الرصاص بين المستوطنين والجنود أثناء تنفيذ الانفصال، لكن لو قمنا بعرض الأفلام التي جرى تصويرها أثناء الانفصال أمام جمهور سويدي لكان هذا الجمهور سيصدم إزاء مستوى العنف". ودلل بيري على هذا السياق مشيراً إلى حوادث العنف التي لقي فيها ثمانية فلسطينيين مصرعهم برصاص مستوطنين يهود إضافة إلى "انتحار يهوديين تعبيراً عن الاحتجاج على الانفصال".

 

مع ذلك عبَّرَ بيري عن موافقته على أن "الانفصال برهن على أن الخطر بنشوب حرب أهلية (بين اليهود في إسرائيل) هو خطر ضئيل". ولكن من جهة أخرى، أردف مستدركاً "اتضح أن خطر التمرد على المرجعية السلطوية وعلى المؤسسات الديمقراطية بات كبيراً جداً".

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, راحيل, المسيحانية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات