المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • وثائق وتقارير
  • 1274

 الميزانية العسكرية- الأمنية الإسرائيلية مُضَخَّمة جداً.  ورغم ذلك فإن أحداً لا يستطيع أن يقوم بإجراء تقليص ذي بال في هذه الميزانية التي تبتلع نسبة عالية من الناتج القومي الخام الإسرائيلي

 

كل من يعرف الأمور عن قرب يعلم بلا شك أن الميزانية العسكرية- الأمنية الإسرائيلية مُضَخَّمة جداً. وعلى الرغم من ذلك فإن أحداً لا يستطيع أن يقوم بإجراء تقليص ذي بال في هذه الميزانية التي تبتلع منذ سنوات طوال نسبة عالية جداً من الناتج القومي الخام الإسرائيلي.

 

أربعة وثلاثون (34) مليار شاقل (حوالي 8 مليار دولار أميركي) هي بالتقريب ميزانية الأمن لسنة 2006، التي أُقرت من قبل الحكومة وينتظر أن تعرض من أجل المصادقة عليها قريباً في الكنيست الإسرائيلي (افتتح دورته الشتوية يوم الاثنين 31 تشرين الأول 2005)..

 

إضافة إلى هذا المبلغ (30 ألف شاقل للمواطن في السنة بالمتوسط) يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضاً مبلغ (11) مليار شاقل وهو من ضمن المساعدات السنوية التي تتلقاها إسرائيل من "العم سام" الذي يُقدم هذه الأموال لإسرائيل كي تبتاع بها بنادق وطائرات من الولايات المتحدة الأميركية.

 

كيف تنفق وزارة الدفاع (الجيش الإسرائيلي) مبلغ المساعدات الأميركية هذه؟ هناك، على سبيل المثال، مبلغ 640 مليون دولار ثمن صفقة طائرات أباتشي "لونغ- بو" والتي يعتقد خبراء أن إسرائيل لا تحتاجها حقاً ... إضافة إلى ذلك تنفق وزارة الدفاع 800 مليون شاقل في السنة على مشروع تطوير دبابة "المركفاه".

 

وبطبيعة الحال فإن الأرقام الرسمية المعلنة لميزانية الأمن لا تشمل الميزانيات الضخمة المخصصة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية (الشاباك والموساد) و"لجنة الطاقة الذرية" حيث ترد ميزانيتها- التي تقدر مصادر أجنبية حجمها بنحو (4) مليارات شاقل في السنة- ضمن بنود احتياط سرية في ميزانية الدولة. كذلك فإننا لم نأخذ هنا بالحسبان "الحصص السمينة" المدرجة ضمن ميزانية وزارة الأمن الداخلي والمخصصة لأهداف ما يسمى بـ"محاربة الإرهاب"، علماً أن ذلك لا يُشكل بالذات الهدف أو الغاية الأساسية لوجود شرطة إسرائيل (التي تخضع لمسؤولية وزارة الأمن الداخلي).

 

وحيث أن الحديث يدور عن مبالغ "محترمة" فإن المواطن الإسرائيلي العادي، القلق، يظن أن هناك بالتأكيد نقاشات مستفيضة ومعمقة تجري بشفافية، وتحت مراقبة أجهزة رقابة وإشراف متطورة، في كل ما يتصل بميزانيات الأمن وسبل وأوجه إنفاقها، وذلك "كما يليق بدولة ديمقراطية يحكمها نظام منطقي من التوازنات والكوابح"؟!

 

لكن أياً من ذلك لا وجود له... فوزارة الدفاع، و خلافاً لجميع الوزارات الحكومية الأخرى، لديها أفضلية وصلاحية في إدارة نظام مالي مستقل، دون أن يكون لدى رجالات وزارة المالية، المؤتمنين باسم الجمهور على حراسة الخزينة العامة، أي تصور أو إطلالة على ما يحدث بالضبط في الوزارة المذكورة. فأية وزارة عادية- كوزارة الصحة مثلاً- تحتاج إلى مصادقة على أية عملية تحويل مالية، في حين يستطيع رجالات (وزارة) الأمن عمل كل ما يحلو لهم طالما كان الحديث يدور عن مبلغ يقل عن 90 مليون شاقل. أما إذا زاد المبلغ عن هذا الرقم فإنهم يحتاجون فقط إلى موافقة (بعد إنفاق أو تخصيص المبلغ) من لجنة برلمانية خاصة. بمعنى أن هذا الإجراء (الموافقة) لا يعدو كونه من ناحية عملية إجراء شكلياً ليس إلاّ.

 

عدا عن ذلك فإن رجالات الأمن يتمتعون بحصانة تامة فيما يتعلق ببنود الميزانية. "على عكس باقي الوزارات، فإن ميزانية الأمن تُلَخَّصُ بسطرٍ واحِد في كتاب الميزانية... لا تفصيل ولا بنود"- هكذا أجمل مؤكداً، قبل أكثر من أسبوع، مسؤول رفيع سابق في وزارة الدفاع. إلى ذلك، ففي اللحظات الحساسة التي يُحسم فيها في مصير مئات ملايين الشواقل إلى هذه الناحية أو تلك، يكون رئيس الوزراء هو الحكم المقرر الوحيد، ومن نافل القول إن هذا الأخير (رئيس الوزراء) يحسم بشكل دائم تقريباً لصالح المؤسسة الأمنية. في الوسط يقف عدد قليل جداً من موظفي وزارة المالية في مواجهة ثُلَّة من رجالات الاستخبارات والقادة وهم أصلاً خبراء ورجالات اقتصاد في زي عسكري. "في كثير من الحالات التي تنشب فيها مسائل خلافية مختلفة، يتوجه وزير الدفاع وكبار المسؤولين في الهيئة الأمنية إلى رئيس الحكومة للحصول على دعم مادي ومعنوي"، حسبما قال د. مومي دهان من الجامعة العبرية والذي يقوم منذ عدة سنوات ببحث ودراسة إجراءات إعداد ميزانية الدولة. وأردف "دهان" مؤكداً "طريقة العمل المتبعة حالياً تعطي وزناً للصراخ والزعبرة أكبر من الوزن الذي تعطيه للاحتياجات".

 

مساومات كما في "بازار تركي"

 

أوري يوغاف، مأمور الميزانيات سابقاً في وزارة المالية، أكد في شهادة تدعم أقوال دهان، قائلاً: "هناك عدد لا يُحصى من الجلسات التي كانت تعقد بحضور ثلاثة أو أربعة موظفين من وزارة المالية مقابل رئيس الوزراء وكل أعضاء هيئة الأركان العامة للجيش ... كانت النقاشات تأخذ طابع التهديد والمساومات التي تشبه تماماً ما يجري في بازار تركي". ويُضيف "يوغاف" مشيراً إلى أنه يتم في الكثير من الأحيان المتعلقة بإقرار الإعتمادات المخصصة للنواحي الأمنية والعسكرية، نسف وتغيير القرارات التي تتخذها الحكومة في الصدد ذاته.

 

"أجل إن ما يجري لهو حقاً بازار تركي"، أقرّ مسؤول رفيع في الجيش. وأضاف موضحاً "المالية تقول لنا إن علينا تقليص مبلغ (4) مليارات شاقل لأنها تعلم بأننا لن نوافق في نهاية المطاف سوى على (تقليص) مليار ونصف المليار شاقل فقط... تجارة خيول، هذا هو التعبير المناسب الذي يسم ما يجري أثناء مناقشات إقرار الموازنات الأمنية. لكن موظفي المالية يعلمون جيداً أن ثمة في الميزانية الأمنية مساحة واسعة للتقليصات، والدليل على ذلك هو رفضهم الشديد لاقتراح بناء ميزانية متعددة السنوات، الذي يتطلب مفاوضات شاقة ومضنية كل سنة مجدداً".

 

المشكلة أن هذه المفاوضات تدور في الغالب حول سفاسف نافلة، إذ يطيب لموظفي المالية التلويح بنقاط الترفيه والرياضة المخصصة لأفراد القوات النظامية أو بالسيارات الفارهة البيضاء المخصصة للضباط، لكن حماسهم المعروف المتعلق بالصراعات حول ميزانيات الرفاه والصحة سرعان ما يتبدد في اللحظة التي يتحدث فيها ضباط الجيش عن الخطر أو التهديد المناوب ("المحيق بإسرائيل") في الشرق الأوسط، أو حتى عن الحاجة إلى طائرة الأباتشي (العمودية) الجديدة.

 

"الحقيقة أن الأمر أصبح لعبة محسومة سلفاً. فكلا الفريقين - رجالات المالية ورجالات الجيش- يدركان أن هذه اللعبة ستحسم في نهاية المطاف لدى رئيس الحكومة، لذا تجد وزارة المالية تتخذ سلفاً مواقف متطرفة" حسبما أكد أخيراً مسؤول كبير في وزارة المالية.

 

لماذا يخشى موظفو المالية الحديث عن بنود ميزانية الجيش "السمينة"؟!

 

لعل اللافت للانتباه هو أن عشرات رجالات الاقتصاد الذين عملوا في وزارة المالية في الماضي والحاضر، رفضوا في غالبيتهم التعليق على كل ما يتصل بميزانية الجيش وأجهزة الأمن، أما الذين وافقوا فقد شددوا وألحوا على عدم ذكر أو نشر أسمائهم. فما الذي يخشاه أولئك الذين كانوا، أثناء خدمتهم في وزارة المالية، يلوحون بكشوفات الرواتب "السمينة" التي يتقاضاها الجنرالات؟! ربما كانوا يخافون من "مواجهة غير لطيفة" قرب كافتيريا سمك السلمون المُدَخَّن في مؤتمر قيسارية المقبل... أو ربما من إشهار "كرت أحمر" في وجوههم عند الدخول إلى مجالس إدارة معينة يسيطر عليها جنرالات وضباط كبار سابقون في الجيش وأجهزة الأمن، فمن المعروف أن الجميع (من كبار الضباط والموظفين الحكوميين السابقين) يخوضون في نهاية المطاف معمعان الأعمال.

 

فمن كان بالأمس مسؤولا في المالية سيجد نفسه في الغد على طاولة اجتماعات واحدة مع الجنرال أو الميجر جنرال الذي طلب منه بالأمس فقط تقليص الحُصص والرواتب الفلكية التي يتقاضاها "ضباطنا البواسل" !.

 

إذن، لعل هذه "المعارك" المزعومة بين وزارتي المالية والدفاع ليست دراماتيكية بالشكل الذي اعتادوا على تصويره لنا في وسائل الإعلام.

 

خلف ستار السِّرية...

 

فلو أن الأمر كذلك لكانت وزارة المالية بالتأكيد تستعد للمعركة كما يجب، ولكانت على الأقل تقوم بدراسة سليمة أو بإعداد قاعدة معلومات يمكن أن تخدمها في إجراء التحليلات الاقتصادية اللازمة توطئة للمناقشات المتعلقة بالميزانية الأمنية. وقد كانت هاتان النقطتان من بين المسائل التي ورد ذكرها في النقد الذي وجهه مراقب الدولة في تقريره الأخير فيما يتصل بعملية بناء الميزانية الأمنية. وعموماً فإن هذه العملية و التي يسمونها "الطيار الأوتوماتيكي" تجري مرة كل سنة بعد عيد "البيسح" [الفصح] اليهودي بقليل، وذلك في وزارة المالية في القدس وفي مقر وزارة الدفاع في تل أبيب، وفي الأخيرة يتولى هذه العملية رئيس قسم المالية في وزارة الدفاع، والذي يشغل أيضاً منصب المستشار الاقتصادي لرئيس هيئة الأركان العامة. وعلى الرغم من أن الحديث يتناول الميزانية نفسها إلاّ أن العمليات الحسابية تتم بطريقة مختلفة لدى الوزارتين. أحياناً تصل الخلافات بين الجانبين إلى حدود وأبعاد تبدو مثيرة للقلق.

 

هذا ما حصل مثلاً عام 2002، أثناء المناقشات حول ميزانية (الأمن) لسنة 2003. ففي جلستها التي عقدت في شهر آب أقرت الحكومة ميزانية تتضمن تقليصاً بمبلغ (3) مليارات شاقل. حسب الأصول والقواعد المرعية، من المفروض أن تقوم الوزارتان (المالية والدفاع) بعد شهرين بطرح الميزانية على طاولة الكنيست لأخذ المصادقة عليها... في هذه المرحلة فوجئ رجالات وزارة المالية حين اكتشفوا أن وزارة الدفاع قامت، للمرة الأولى في تاريخ الدولة، بطباعة كتاب ميزانية مستقل من طرفها، كانت فيه الميزانية الأمنية أعلى بمبلغ (7) مليارات شاقل من الميزانية التي أُقِرَّت في الحكومة.

 

هذا الاختلاف كان سببه، كما تبين فيما بعد، أن رجالات وزارة الدفاع توقعوا تلقي مبلغ (5) مليارات شاقل كان من المفترض وصولها "كمساعدة" من "دولة صديقة" لكن الأخيرة لم تفعل ذلك في الموعد. وكالعادة فقد سوي هذا الخلاف بين المالية والدفاع بـ"فضل" تدخل رئيس الوزراء.

 

مراقب الدولة، الذي قام بتفحص هذا الموضوع بناء على طلب من المالية، نشر من جهته في شهر آب الماضي، تقويماً للوضع يشف عن صورة قاتمة ومليئة بالشوائب، حيث كتب قائلاً: في كل ما يتعلق بميزانية الأمن، تحدُثْ كما يتضح أمور أسوأ بكثير من إصدار كتب (ميزانيات) منفصلة وبالتوازي.

 

وطبقاً لما ورد في تقرير مراقب الدولة ذاته، فإن رئيس الوزراء ووزارة المالية يتوصلان إلى تفاهمات فيما بينهما حول إضافات ميزانية بقيمة مليارات الشواقل لصالح وزارة الدفاع دون أن يطلعا الحكومة على ذلك، علما أن هذه الأموال (المبالغ الإضافية) تأتي في النهاية من خلال تقليص ميزانيات الوزارات الأخرى.

 

في كتاب الميزانية لسنة 2004، على سبيل المثال، والذي نُشِرَ في تشرين الأول 2003 ذكر أن ميزانية الأمن بلغت 46,8 مليار شاقل. في المقابل، تبين أن هذه الميزانية ازدادت في كتاب المحاسب العام، الذي يدقق الميزانية بعد تنفيذ النفقات، لتصل إلى 58,7 مليار شاقل، أي بتجاوز بنسبة 25% ... فمن الذي سمع أو عرف بالأمر؟! لا أحد، لا الكنيست ولا الحكومة ولا الجمهور بالطبع. إذن كيف يحدث أن سقف الميزانية التي يعدونها هو X بينما الميزانية فعليا هي Y؟!

 

باستطاعة رجالات وزارة الدفاع، كما أسلفنا، تحويل مبلغ لا يزيد عن 90 مليون شاقل من بند إلى بند دون الحصول على موافقة من أية جهة، في حين بتطلب تحويل مبلغ أكبر مصادقة من لجنة برلمانية خاصة. يجدر تذكر هذه النقطة أو الملاحظة عندما نقرأ أو نسمع في المرة المقبلة أن الجيش الإسرائيلي يطالب بأموال إضافية لغرض تحصين ناقلات الجند المجنزرة مثلاً، إذ باستطاعة مسؤولي الجيش، نظرياً، تحويل جزء من هذه الأموال الإضافية لشراء "أسطول جديد من السيارات البيضاء دون أن يعرف أحد عن ذلك نهائياً".

 

أوري أريئيل، عضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، حاول إيضاح هذه المسالة: "أحياناً يحصلون- أي الجيش- على أموال إضافية، لنفترض في حالات ارتفاع الفوائد. فما الذي يحدث؟ ما يحدث أنهم لا يستخدمون كل هذه المبالغ الإضافية، وعندئذٍ يتكون صندوق احتياط خاص للجيش. لكن هذا الاحتياط من ناحية عملية مسجل كمصاريف، إنفاق، نظراً لأنهم قاموا بعملية التحويل المالي بأنفسهم. وفي السنة التالية يقومون بالتصديق على هذا الاتفاق في اللجنة البرلمانية الخاصة، وبذلك تنتهي الحكاية".

 

مسؤول كبير في وزارة المالية زاد على ذلك مؤكداً: "تحدث أمور سخيفة، حيث يقوم رجالات وزارة الدفاع بتنفيذ التزامات مختلفة من أموال لم يتفق عليها في إطار الميزانية المقررة، وفي نهاية السنة يقدمون للكنيست فاتورة الحساب التي تصادق عليها اللجنة البرلمانية لاحقاً لتنفيذ الصرف ...".

 

وأردف نفس المسؤول موضحاً "هذا الأمر متاح فقط لأن المعطيات ليست معروفة بحذافيرها أو قابلة للمعرفة والإطلاع من جانب المحاسب العام".

 

في السياق ذاته يؤكد شموئيل سلافين، الذي أشغل سابقاً منصب مدير عام وزارة المالية، أن المسؤولين في وزارة الدفاع والجيش الإسرائيلي يلجؤون، بشكل مفاجىء عند عرض الميزانية العسكرية للمصادقة عليها في الكنيست، إلى طرق تحايل مختلفة من أجل تمرير الميزانية الضخمة أو إدخال إضافات مالية طارئة على بنودها، موضحاً أن ذلك يتم غالباً بحجج "مخاطر وتهديدات طارئة". ولعل المثال الذي بات معروفاً جداً للجمهور هو "تهديد الصواريخ الإيرانية" الذي يقفز في شهر آب من كل سنة (الموعد الذي تطرح فيه الميزانية للمناقشة والتصديق في الكنيست)، خلال السنوات الأخيرة، إلى صدارة العناوين، ولعل الشيء الذي لا يعرفه الجمهور كفاية هو أن "التهديد الإيراني" اعتاد على تغيير أقنعته "المخيفة" تبعاً للوضع السياسي في إسرائيل وأهواء كبار المسؤولين في وزارة الدفاع وهيئة أركان الجيش.

 

يقول سلافين "في كل مرة يطرح الجيش تهديداً مختلفاً". ويضيف "لقد ضخموا موضوع التهديد العراقي- قبل الحرب الأخيرة على العراق- إلى مقاييس هستيرية [من أجل الحصول على ميزانية إضافية كبيرة] ولكن بعد سقوط العراق لم يتطوع أحد لتقليص الميزانية العسكرية، بل قاموا بتضخيم عدو جديد: إيران".

بالإضافة إلى التهديد المركزي المناوب، فقد وفرت الانتفاضة الأخيرة وخطة الانفصال مجالاً واسعاً جديداً للمؤسسة العسكرية والأمنية للقيام بشتى أنواع المناورات والحيل فيما يتعلق بالميزانيات والأموال الإضافية. وقد بدأ ذلك بموضوع "الستر الواقية" حين ادعى قادة الجيش أن "الجنود يقتلون بسبب ضائقة الميزانية" حسبما ذكر في الحملة الإعلامية الواسعة التي قام بها قادة وجنرالات الجيش حول هذا الموضوع في حينه.

 

وعندما انفجرت بعض العربات المصفحة والدبابات في قطاع غزة (نتيجة للعبوات الناسفة التي زرعها المقاومون الفلسطينيون على طريقها ما أدى لمقتل وجرح العديد من الجنود الإسرائيليين) استغل قادة الجيش هذه الحوادث وأقاموا ضجة إعلامية كبيرة تحقيقاً للغرض ذاته (طلب ميزانيات إضافية)، وفقما أكد مسؤول كبير في وزارة المالية رفض ذكر اسمه.

 

كما حدث الشيء ذاته عقب إطلاق صواريخ "القسام" على المستوطنات الإسرائيلية، وقد أثير هذا الموضوع مجدداً بعد الانسحاب من قطاع غزة، عقب إطلاق الصواريخ على بلدة "سديروت" المتاخمة للحدود الشمالية للقطاع الفلسطيني. وبحسب ما ذكره نفس المسؤول فقد أملت أوساط وزارة المالية "بعد الخروج من غزة" أن يشكل ذلك فرصة "لإجراء تقليص في ميزانيات الأمن والدفاع ... ولكنهم يريدون الآن توظيف كل هذه الأموال في تعزيز التحصينات حول المستوطنات والبلدات [القريبة من حدود القطاع] ومن المعروف أن عمليات التحصين هذه ليست لها حدود... إنهم يطالبون الآن بميزانية إضافية عقب إطلاق صواريخ القسام من غزة".

 

إلى ذلك، وفي سياق الحديث عن المناورات والحيل التي يتبعها المسؤولون في وزارة الجيش الإسرائيلي، تجدر الإشارة أيضاً إلى وسيلة أخرى تطرق لها مراقب الدولة في تقريره الأخير، رغم أنها من وسائل التحايل المعروفة والقديمة التي يلجأ إليها الجيش الإسرائيلي والذي يقوم بموجبها ببيع معدات وأسلحة (غالباً من فائضة ترسانته أو فضلاتها) أُبتيعت أصلاً من أموال خزينة الدولة أو من أموال المساعدات ومن ثم يقوم (الجيش) بتحويل مثل هذه المبالغ (ثمن الأسلحة والمعدات المباعة) ليس إلى خزينة الدولة وإنما إلى خزينة المؤسسة العسكرية.

 

 

"متفرقات" بـ 140 مليون...!

 

مؤخراً طلب من اللجنة البرلمانية المنبثقة عن لجنة الخارجية والأمن المصادقة على تحويل مبلغ 600 مليون شاقل لوزارة الأمن لصالح ما وصف بـ"ميزانيات تطوير". وبحسب ما أفاد به عضو اللجنة البرلمانية أوري أريئيل فإن أعضاء اللجنة يتلقون، كما في أي طلب من هذا النوع، سلسلة طويلة من البنود، وهناك في نهاية القائمة بند صغير يمكن تسميته "صندوق صغير"، وهو ما يسميه رجالات وزارة الدفاع "بند متفرقات" ... لكن تصوروا أن المبلغ المطلوب لهذه "المتفرقات" بلغ 140 مليون شاقل (لسنة واحدة).

 

عضو الكنيست أفشالوم فيلان، وهو عضو في اللجنة المشتركة الخاصة لشؤون ميزانية الأمن، لخص حالة التسيب والفلتان في ما يتعلق بإقرار وإدارة الميزانية العسكرية بقوله: "الشيء المُحزن هو أن كل الرقابة المدنية على المؤسسة الأمنية تتلخص في عملية (إجراء) لا تستغرق أكثر من ثلاث أو أربع ساعات. عدا ذلك فإن اللجنة تمثل الرقابة المدنية الوحيدة على ميزانية الأمن. المشكلة تتعلق أساساً بالمؤسسة السياسية التي لا تمتلك عمقاً لمواجهة هذا الموضوع".

 

البنود الأكثر هدراً للأموال في الميزانية العسكرية...

 

وفي ما وصف على أنه "عملية هدر وتبذير لأموال عامة" لخص معدو هذا التقرير أوجه التبذير في ثمانية بنود قالوا إنها "الأكثر هدراً للأموال في ميزانية الأمن" والتي نوجزها بدورنا في النقاط التالية:

  • صفقة طائرات أباتشي "لونغ بو" التي ابتاعها الجيش الإسرائيلي أوائل العام الجاري من الولايات المتحدة الأميركية (إنتاج شركة بوينغ) بتكلفة بلغت 24 مليون دولار أميركي للطائرة الواحدة (640 مليون دولار لكل الصفقة). ويرى خبراء ومعدو التقرير أن الجيش الإسرائيلي لم يكن بحاجة إلى اقتناء مثل هذه الطائرة الباهظة الثمن خاصة في ضوء ما ظهر من حالات إخفاق في أدائها أثناء الاجتياح العسكري الأميركي للعراق (هوت وتحطمت العديد منها في العراق نتيجة حوادث خلل فني) على الرغم مما يقال بأنها الطائرة العمودية المقاتلة الأكثر تطوراً في العالم.
  • تحتل قواعد الجيش الإسرائيلي جزءاً من أفضل الأراضي وأغلاها ثمناً في إسرائيل ولكن فيما عدا ثمنها المرتفع فإن الجيش يضطر أيضاً لإنفاق مبالغ كبيرة على صيانة مبان قديمة قائمة على هذه الأراضي، معظمها أقيم قبل العام 1948.
  • دبابات "مركفاه" مشروع لتبذير غير مبرر، إذ اعتبر معدو التقرير أن الاستمرار في مشروع إنتاج دبابات مركفاه (الإسرائيلية الصنع) والتي تعكف الصناعات العسكرية الإسرائيلية حالياً على إنتاج الطراز الأخير الأحدث منها "مركفاه 4"، لم يعد له أي مبرر أو ضرورة لا سيما في أعقاب تغير التقويمات الإستراتيجية التي أملت إنتاج هذا النوع من الدبابات قبل 33 عاماً (عقب حرب تشرين الأول 1973) والتي تبلغ تكلفة الاستمرار في إنتاجها بالنسبة لدافع الضرائب في إسرائيل حوالي 800 مليون شاقل في السنة على مدى الخمسة عشر عاماً الأخيرة.
  • "شوبينغ في منهاتن": مسؤول رفيع سابق في وزارة المالية قال مؤخرًا "ليست هناك فضيحة أكبر من عشرات الموفدين ضمن بعثات المشتريات العسكرية المتواجدة والمقيمة في الخارج على حساب الخزينة العامة للدولة" ... حيث تحتفظ وزارة الدفاع والجيش الإسرائيلي بـ (28) بعثة وممثلية في 24 دولة في العالم تقدر تكاليف الإنفاق عليها بنحو 200 مليون شاقل في السنة.
  • بند الرواتب: يعتبر بند الرواتب في ميزانية الأمن مشكلة و"وجع رأس حقيقي" بالنسبة لوزارة المالية. إذ ينفق الجيش الإسرائيلي نحو (7) مليارات شاقل في السنة على رواتب أفراد القوات النظامية، إضافة إلى (4) ملايين شاقل تدفع كرواتب وأجور لمدنيين يعملون في إطار الجيش، أي ما يعادل ثلث ميزانية الأمن السنوية.

 

وعلى سبيل المثال فإن تكلفة الراتب الشهري لضابط الصف (ضابط صغير الرتبة) تتراوح بين 15 إلى 18 ألف شاقل شهرياً، في حين يتعدى راتب ضابط برتبة جنرال مبلغ الـ 40 ألف شاقل في الشهر. كذلك فإن رواتب موظفي وزارة الدفاع أعلى بـ 60% في المتوسط من رواتب موظفي ومستخدمي الحكومة الآخرين. هذا ناهيكم بالطبع عن الامتيازات الكبيرة التي يتمتع بها رجالات المؤسسة الأمنية والعسكرية، وعلى سبيل المثال فإن الجيش الإسرائيلي يمنح سنوياً تمويلاً كاملاً لدراسات أكاديمية لأكثر من 1000 عسكري في الخدمة النظامية، بعضهم قبل انتهاء فترة الخدمة مباشرة، ويحصل هؤلاء أثناء دراستهم على رواتب وشروط خدمة مماثلة لما كانوا يحصلون عليه أثناء الخدمة الفعلية.

 

إضافة إلى ذلك ينفق الجيش مبلغ 800 شاقل في السنة لحساب "أنشطة رياضية وترفيه" لكل فرد في الخدمة النظامية، وعلى سبيل المثال فإن أحذية الرياضة المستوردة التي يمول الجيش شراؤها لحساب ضباط الصف تكلف وحدها دافع الضرائب 30 مليون شاقل في السنة.

 

(عن أسبوعية "كل هعير" العبرية، ترجمة "مدار")

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات