غياب عرفات في وقت يكون فيه مستوى العنف مرتفعاً مع اسرائيل، يمكن أن يعزز القوى الميدانية المتطرفة ويحشر في الزوايا الشخصيات المتماثلة مع عملية المفاوضات. ومن الجهة الأخرى، فإن استبدال القيادة أثناء مفاوضات مع اسرائيل، أو في وقت وقف إطلاق نار، أو في فترة هدوء يمكن أن يعزز المؤيدين للمفاوضات.
العوامل المؤثرة
في الوقت المناسب تشمل "تركة" عرفات السياسية عدة وظائف رسمية وغير رسمية، تنظيمية في فتح ومنظمة التحرير وسياسية من جانب منظمة التحرير، وتمثيل الفلسطينيين في الحلبات العربية، الاسلامية والدولية، ومن جانب السلطة الفلسطينية. والحدود بين هذه الوظائف غير واضحة بشكل حازم، ومن الصعب معرفة الصلاحية التي يستند إليها عرفات في تعاطيه مع هذه وتلك من القضايا. وكان هذا الغموض يخدمه، ولكن ذلك سيربك ورثته عند محاولة تقسيم التركة في ما بينهم. وبحسب طبيعة النظام الذي أقامه عرفات، ليس من المتوقع أن يتم تتويج خليفة له قبل أن يترك الساحة. وفي غياب "ابن وريث" (نموذج الوراثة في نظامي البعث في سوريا والعراق، وكما يمكن أن يحدث في نظام مبارك في مصر) ليس من المنتظر أن يحدد عرفات وريثاً رسمياً، لأنه في الظروف القائمة في الساحة الفلسطينية يمكن لخطوة كهذه أن تمس بمكانته كزعيم أعلى ووحيد وضروري.
ومع غياب عرفات تنشأ الحاجة أو على الأقل الرغبة لإشغال المناصب في الهيئات المكونة للسلطة. وقسم من هذه المناصب، هي مناصب رسمية يشغلها عرفات شخصياً، كما أن مناصب أخرى يمكن أن تنشأ مع غيابه عن الساحة. وفي الحالين ليس هناك ما يضمن نجاح الفلسطينيين في ملء الفراغ السياسي الذي سينشأ في كل هذه الميادين. ومنذ اليوم تتحدث مصادر عليا في السلطة الفلسطينية عن أسلوب "الترويكا" كحل محتمل. وحتى إن جرى تعيين الوريث بشكل مرتب، لا يبدو انه سيتم العثور على شخصية واحدة يمكن الاتفاق على تسليمها كل صلاحيات عرفات. ولذلك من المنطقي تقسيم الوظائف الرسمية بين مختلف الورثة. وبذلك تتضاءل قوة كل منصب، إذ أن قوة عرفات كانت في الأساس في الجمع بين الصلاحيات الكثيرة وتركيزها بيده. والسؤال الاساس هو إن كان بوسع الحلبة الفلسطينية أن تنشئ قيادة وطنية متفق عليها بعد غياب عرفات. ومن الوجهة الظاهرية، فإن المنصب الرسمي المركزي الذي يملكه عرفات من وجهة نظر ورثته هو رئاسة السلطة الفلسطينية، فنقل مركز الثقل من قيادة "الخارج" إلى قيادة "الداخل" ستحول رئاسة منظمة التحرير في حال الفصل بين المناصب إلى رئاسة منظمة تمثل قيماً وأفكاراً أكل الدهر عليها وشرب. وكذلك فإن المنصب "العسكري" الرسمي لعرفات يصعب توريثه لأنه لا يقف على رأس هيكلية مرتبة يمكن إخضاعها للوريث.
وفي محاولتنا رسم صورة الزعامة الفلسطينية المستقبلية المحتملة، علينا أن نميز بين تقاليد وجود قيادة سياسية متفق عليها وبين نمط سلطة مشرذمة عملياً: فالاولى تعرب عن تطلعات وطنية نحو الاستقلال والرسمية، "روح وطنية" نقشت على رايتها "الوحدة الوطنية" وتقاليد وجود قيادة وطنية تمثل القضية الفلسطينية أمام العالم واسرائيل. أما الثانية فإنها تعبر عن واقع متواصل لسياسة "فرّق تسد" وضعف في الاداء الحكومي بقيادة عرفات، الأمر الذي خلق توازنات قوى على الارض تجعل من الصعب على جهة أن تفرض سطوتها على جهة أخرى.
وتوقع الفصل عن غزة وشمالي الضفة الغربية يؤثر الآن على القيادة ميدانياً في الأماكن التي ستنسحب منها اسرائيل، وعلى المكانة النسبية لـ"المطالبين بعرش" القيادة الفلسطينية. ولهذا السبب نشب صراع على السلطة في غزة مع ملامح تمرد على صلاحيات عرفات، وهو صراع يشكل "مقدمة" لصراع سيجري بداهة بعد غياب عرفات. وإذا حسم هذا الصراع قبل غياب عرفات، فإن المناطق التي يسيطر عليها المنتصرون ستحظى باستقرار نسبي مقارنة مع المناطق الأخرى، كما أنهم سيحظون بمكانة أفضل في الصراع على القيادة السياسية التمثيلية. وفي غياب ترتيبات مع اسرائيل للتنقل بين غزة والضفة الغربية سيتعاظم تضارب المصالح بين قسمي فلسطين، فعناصر القوة التي ترتكز إلى قواعد في الضفة لن تستطيع الإعراب عن نفسها بشكل كاف في غزة.
ومنذ الآن تقف حركة حماس أمام مفترق طرق استراتيجي. فتدابير القوة التي اتخذتها اسرائيل ضد الجهات الارهابية عموماً وضد المنظمات الاسلامية خصوصاً، أضعفت هذه الحركة وحسنت من فرص إقامة سلطة التيار المركزي في المناطق التي ستنسحب منها اسرائيل. ومع ذلك، ورغم ضعفها، تستطيع حماس عرقلة عملية بلورة سلطة منظمة والمساس بقدرة سلطة كهذه على التوصل الى "صيغة تفاهم" مع اسرائيل على حسابها. ويخدم حماس في ذلك التفسير الفلسطيني لخطة الفصل (ليس "غزة أولا" وانما "غزة فقط")، والصورة الفاسدة للشخصيات المركزية في السلطة والمنسوب العالي للتدخل الاجنبي (مصر، الاردن، بريطانيا، الولايات المتحدة واسرائيل). وفي كل حال فإن هذه الحركة سوف تضطر لتحديد القدر الذي تتقبل به سطوة السلطة، ان استجابت لدعوة المشاركة فيها، وكيف ستواجه المطالب المحتملة بضبط النفس في مجال الإرهاب للحيلولة دون ردود فعل إسرائيلية.
وسوف تؤثر على الطريقة التي يتعامل بها الفلسطينيون الصورة التي يغيب فيها عرفات عن المسرح: موت طبيعي فجائي، احتضار جراء مرض، اغتيال إسرائيلي أو من جهة أخرى مكانته السياسية وقت غيابه، الظروف التي تمر بها المفاوضات مع اسرائيل ومستوى العنف في حينه.
واحتضار عرفات قبل غيابه يمنح مهلة للقوى الميدانية للاستعداد وتحسين فرص بلورة سلطة والمحافظة على النظام. ومن الجهة الأخرى، اذا أزيح عرفات بشكل فجائي، يمكن للصراع على التركة أن يرتدي صورة عنيفة، وفي إطار الصراع على الخلافة من المنطقي أن توجه التهمة لإسرائيل بموت عرفات، وسوف يتم استغلال الوضع لتصعيد العنف، سواء بالعمليات التخريبية أو بالعمل "الشعبي".
كما ان مكانة عرفات وقت غيابه ستكون عاملاً مؤثراً. فـ"تركته" و"وصيته" ستحظيان بصدى شعبي واسع جداً إن مثل عرفات رمزية "الزعيم المحاصر"، في حين انه بقدر ما تتعاظم نداءات تحدي سلطته بقدر ما تبهت هذه الصورة.
أما بخصوص الظروف الأخرى، فإن غياب عرفات في وقت يكون فيه مستوى العنف مرتفعاً مع اسرائيل، فإن ذلك يمكن أن يعزز القوى الميدانية المتطرفة ويحشر في الزوايا الشخصيات المتماثلة مع عملية المفاوضات. ومن الجهة الأخرى، فإن استبدال القيادة أثناء مفاوضات مع اسرائيل، أو في وقت وقف إطلاق نار، أو في فترة هدوء يمكن أن يعزز المؤيدين للمفاوضات. وهذا، خصوصاً في ضوء حقيقة أن استبدال القيادة يمكن أن تفسر كبداية إصلاح في قيادة السلطة الفلسطينية، الذي هو مطلب أساسي في "خريطة الطريق"، التي يمكن لتنفيذها عملياً بعد غياب عرفات أن يوفر من جديد زخماً لمعالجة أميركية للمفاوضات السياسية.
ورثة الرمز
إن التعيين الرسمي لقيادة سياسية متفق عليها، لا يعني بالضرورة أيضا توريث هذه القيادة المكانة الرمزية لعرفات. ففي نظر شعبه يمثل عرفات أربعة إنجازات حققها منذ بداية عهده في رئاسة النضال الفلسطيني: نضال الفلسطينيين أنفسهم ضد اسرائيل (مقابل "العجز" العربي)، "استقلالية القرار الفلسطيني"، و"حدانية التمثيل" من جانب منظمة التحرير، الاعتراف الدولي والانجازات الاعلامية والدبلوماسية الفلسطينية.
وبالنسبة لمكانة عرفات كـ"رمز نضالي"، فإن مشاركته في العملية السياسية الصادقة أولا شوشت في نظر الجمهور الفلسطيني مكانته الرمزية كـ"محارب". وعلاوة على ذلك، فإن الانتفاضتين ونضال حماس وحزب الله ضد اسرائيل أضافت إلى قاموس "المناضلين" ضد اسرائيل أشخاصاً آخرين أكثر حدة. فقد تخلت فتح منذ زمن عن شعار "الكفاح المسلح" كـ"طريق وحيد لتحرير فلسطين" "من النهر الى البحر" ولا يبدو أن في التيار المركزي الفلسطيني من يميل إلى إحيائه. فالكفاح المسلح في نظر فتح يشكل وسيلة مشروعة إلى جانب النضال السياسي. وبالمقابل تجذر شعار الكفاح المسلح في رؤية التيار الاسلامي، الذي يرى فيه كثيرون في المعسكر الفلسطيني "وريثاً" حقيقياً لحركة فتح في بداية عهدها.
ويبدو أن الإنجاز الفلسطيني في تمثيل الذات (أي تمثيل الفلسطينيين عبر مندوبيهم بواسطة منظمة التحرير لا تحت غطاء الدول العربية، كما كان الأمر حتى سيطرة عرفات على منظمة التحرير عام 1968) ليس مرتبطاً بعرفات ولن يتضرر من غيابه. فالظروف الدولية التي وفرت الشرعية في الماضي للوصاية العربية أو لتمثيل الفلسطينيين بواسطة أية دولة عربية (الاردن، مصر أو حتى عراق قاسم) تبدلت باعتراف دولي واسع بحق تقرير المصير للشعوب. لذلك فإن تمثيل الفلسطينيين لأنفسهم بات حقيقة واقعة، ولا تملك الدول العربية الهامة أو ذات الصلة (مصر، الاردن، سوريا) القدرة أو الرغبة في مصادرة التمثيل الفلسطيني أو أخذ حق التصرف رسمياً فيه. وهكذا يمكن الافتراض أن أية قيادة فلسطينية تنشأ ويقبلها الفلسطينيون أنفسهم سوف تقبلها الدول العربية والأسرة الدولية كقيادة مؤهلة لاتخاذ القرارات حول حقوق الفلسطينيين. وإضافة إلى ذلك، فإنه تسمع في التيار المركزي الفلسطيني أصوات تدعو إلى اعتماد أكبر على الاردن وعلى مصر لدرجة تجديد أفكار التفاوض بواسطة "وفد أردني فلسطيني مشترك" وكونفدرالية أردنية فلسطينية. ومن الجائز أن غياب عرفات الذي جسد النضال من أجل التمثيل الذاتي عن المسرح سوف يشجع هذه الميول.
ومع غياب عرفات يبدو انه ستغيب عن العالم فكرة "وحدانية التمثيل" الفلسطيني لمنظمة التحرير. وقد استند هذا المبدأ إلى موافقة مختلف الفصائل والنخب المحلية على أن تمثيل المصلحة الفلسطينية في المفاوضات أو في الحلبة الدولية سيتم تحت رعاية منظمة التحرير بقيادة عرفات. ولكن من الوجهة العملية، فإن إقامة السلطة الفلسطينية ضربت هذا المبدأ. واضمحلال المبدأ فتح كوة لتمثيل مستقل لمراكز قوة مختلفة لجهات غريبة من دون صلة بالقيادة السياسية. وعلاوة على ذلك فإن حماس ادعت في الانتفاضة الاولى أنها تمثل أربعين في المئة من الفلسطينيين ولذلك فإنها تستحق تمثيلاً مناسباً.
ولقد سلم التيار الاسلامي بأولوية التيار العلماني (فتح منظمة التحرير السلطة الفلسطينية) سواء بسبب الإقرار بمزايا المكانة الدولية لعرفات أو بسبب أن الخشية الدينية من مواجهة داخلية (الفتنة الداخلية المحرمة في الاسلام) تغلبت على الاعتبارات الأخرى. وحتى لو لم يكن من المتوقع أن تطلب حماس لنفسها "وحدانية التمثيل" فإن من المعقول أن يشكك التيار الاسلامي، بعد غياب عرفات، وفي ظل الصراع من أجل تبلور القيادة الجديدة، في "وحدانية تمثيل" منظمة التحرير ويطالب بأن يكون شريكاً في التمثيل.
الميراث الرسمي- فتح ومنظمة التحرير
وكما سلف، فإن وجود قيادة سياسية متفق عليها ينبع من التمسك بالروح الوطنية ومن الحاجة إلى التمثيل في الحلبة الدولية. وعلاوة على ذلك، ليس في وجود قيادة كهذه ما يمس بمصالح قوى السلطة على الارض، طالما أنها لا تسعى إلى فرض سيطرتها داخل "فلسطين". لذلك من المنطقي الافتراض ان الفلسطينيين سوف ينجحون في نهاية المطاف في تتويج قيادة ربما جماعية تواصل الانشغال بالجانب السياسي التمثيلي.
ولم يبق من الآباء المؤسسين لفتح ومنظمة التحرير سوى عدد قليل، وعدا عرفات ليس بينهم شخصيات ذات قامة زعامية أو صاحبة سيطرة على مراكز قوى على الأرض. وهكذا يمكن القول إنه مع غياب عرفات سينزل عن المسرح الفلسطيني أيضاً "الحرس القديم" في الحركة الفلسطينية. و"تبديل الحرس" هذا يرمز الى نقل المشعل الى أيدي قادة "الداخل"، لأنه ليس لـ"الخارج" جيل صاعد على الارض. وبقايا القيادة القديمة لمنظمة التحرير التي بقيت في الخارج (مثل فاروق القدومي) تفتقر الى أي تأثير في الداخل، في حين أن أعضاء "جيل الاستمرار" المتماثلين مع "الخارج" في داخل السلطة الفلسطينية (ابو مازن، ابو علاء، هاني الحسن) لا يملكون السيطرة على القوى المسلحة التي ستقدم لزعامتهم الدعم الميداني.
ويشغل عرفات سلسلة مناصب رسمية في فتح، منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تستدعي تعيين بديل رسمي له فيها. وتشمل مناصبه الوظائف التالية: رئيس السلطة الفلسطينية، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، رئيس اللجنة المركزية لحركة فتح والقائد الأعلى لقوات منظمة التحرير. ومن هذه الوظائف نال عرفات مع مر السنين صلاحيات ووظائف أخرى: "القائد الأعلى للقوات المسلحة الفلسطينية"، ورئيس الهيئات والمنظمات غير الحكومية المتفرعة عن السلطة الفلسطينية (وخصوصا في الميادين الاقتصادية مثل المياه، الطاقة، الصناعة).
وقد جدد النظام الداخلي لمنظمة التحرير سيرورة تعيين رئيس اللجنة التنفيذية. ومع شغور المنصب يفترض بأعضاء اللجنة أن ينتخبوا رئيساً من بين صفوفهم. ولأن حركة فتح تمتلك أغلبية في اللجنة التنفيذية، فمن المنطقي الافتراض أن ينتخب الرئيس من بين أعضاء فتح في هذه اللجنة. والى حين انتخاب رئيس جديد فإن رئيس المجلس الوطني الفلسطيني (في صيف 2004 سليم الزعنون، أبو الاديب عضو اللجنة المركزية لفتح) هو من يتسلم رئاسة اللجنة التنفيذية بشكل مؤقت، ومن كلام عرفات نفسه يمكن أن نفهم انه يتطلع لأن يشغل فاروق القدومي في النهاية هذا المنصب.
إن أنماط الوظائف الرسمية داخل فتح أكثر تعقيداً. فحركة فتح مبنية كحركة "ثورية" حيث في "قاعدتها" كادر الحركة الذي يرسل مندوبيه الى "المؤتمر العام". وينتخب المؤتمر العام "المجلس الثوري" الذي يعد مئة وعشرين عضواً. وهذا المجلس ينتخب من بين أعضائه "اللجنة المركزية" للحركة. وليس في فتح منصب رئيس، حيث تعتبر اللجنة المركزية رسمياً "قيادة جماعية". ورسمياً تضم اللجنة المركزية واحداً وعشرين عضواً. غير أن أربعة منهم توفوا ولم يتم استبدالهم بعد. كما ان أربعة منهم اختاروا عدم العودة إلى مناطق السلطة بعد اتفاقيات أوسلو، الأمر الذي جعل المجموعة السياسية ذات القدرة على اتخاذ القرارات في فتح تعد اثني عشر عضواً هم أعضاء اللجنة المركزية الموجودون في مناطق السلطة. وهؤلاء يشملون "الحرس القديم" الاعضاء في الحركة منذ عدة عقود (أو حتى من بدايتها) وصولا إلى "الشباب" من أراضي السلطة الذين أضيفوا الى القيادة بعد عام 1993.
ومنصب عرفات كقائد أعلى للقوات الفلسطينية لا يرتبط بالضرورة بهذه المناصب. ويمكن الافتراض ان رؤساء السلطة الفلسطينية سيعملون فور غياب عرفات على التوريث بشكل نظامي، ولكنهم سيعرفون أن هذه مجرد خطوة رسمية بحتة وسوف يستعدون للصراع الحقيقي على الخلافة. وطالما بقي عرفات على قيد الحياة وحتى إن كان مريضاً جداً فإنهم سيبدون حذراً من الظهور كمن يتسرع في وضع اليد على التركة، ولكنهم سيستعدون لضمان الحفاظ على مكانتهم ووسائل السيطرة التي لديهم في أي حكم يأتي كشرط ضروري لبقائهم. ولكن الكثيرين منهم سيكتفون بالمحافظة على حصتهم في السلطة ولن يخوضوا صراعاً من أجل كسب السلطة كلها.
الميراث الرسمي- السلطة الفلسطينية
جرت انتخابات مؤسسات السلطة الفلسطينية في مطلع عام 1996. ومنذ ذلك الحين جرى التخطيط لإجراء الانتخابات في كانون الثاني 2003، ولكن تم تأجيلها من دون تحديد موعد آخر بدعوى أن اسرائيل أعادت احتلال المدن الفلسطينية. وبموجب القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية لعام 1997، وبحسب مسودة دستور السلطة الفلسطينية لعام 2001، فإنه في حال وفاة الرئيس تنتقل صلاحياته بشكل مؤقت لرئيس المجلس التشريعي، وينبغي إجراء انتخابات للرئاسة خلال ستين يوماً. والترشيح للرئاسة حزبي، وبوسع كل حزب أن يرشح واحداً فقط. وفي صيف 2004 عمل عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، رفيق النتشة (ابو شاكر) رئيساً للمجلس التشريعي. غير أن من الواضح أن تعييناً كهذا لا يعبر عن نقل صلاحيات الرئيس له إلا من الناحية الظاهرية فقط.
ومع غياب عرفات والتقاسم المحتمل لمناصبه الرسمية والعملية فإن من المحتمل أن يتحول الهيكل الرئاسي للنظام الفلسطيني، الذي فصل على قياس عرفات، الى هيكل غير متناسب مع الزمن. لذلك بالامكان التقدير أن الفلسطينيين سوف يفضلون الانتقال الى نظام الحكم البرلماني. وهذا النظام جاء ذكره في إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988 كأسلوب الحكم المفضل ولكن تم إهماله عند إقامة السلطة الفلسطينية. وثمة أصوات في السلطة الفلسطينية تدعو الى تبني هذا الاسلوب الذي لا يتطلب الانتقال اليه أية تغييرات رسمية، اذ بالوسع الاستناد الى التعديلات التي أجريت (في آذار 2003) في أعقاب المطالب الاميركية.
وبين الفلسطينيين من يفضل إجراء انتخابات قبل أن يغيب عرفات عن المسرح السياسي على خلفية الاستعداد الاسرائيلي للانفصال عن غزة. وفي نظر هؤلاء، فإن الانتخابات الحرة في جميع المناطق (حتى أيلول 2004) ستسهم في التهدئة وفي العودة الى العملية السلمية. وحسب قولهم، فإن ذلك سيعزز شرعية السلطة الفلسطينية وقدرتها على إظهار الزعامة وفرض النظام والقانون على الجهات الارهابية. وسوف تتيح الانتخابات للتيار الاسلامي إثبات دعم الجمهور له وتقيده بـ"إرادة الناخب"، بحيث ان حصل على مقاعد في البرلمان، فإن ذلك سيقود الى "مأسسته" وتحييد الجانب الارهابي فيه. وجرى الحديث كذلك عن أن إجراء الانتخابات سوف يشجع إشاعة الديمقراطية في الحكم الفلسطيني بروحية "خريطة الطريق" وخصوصاً نقل الصلاحيات من الرئيس الى رئيس الحكومة، ويفرض وقف نار يمكن إطالته وتثبيته.
ومن المنطقي أن يدعو الفلسطينيون والاسرة الدولية بعد وقت قصير من غياب عرفات الى إجراء انتخابات ديمقراطية على الأقل لمؤسسات السلطة، ان لم يكن لمؤسسات منظمة التحرير وفتح. وإجراء انتخابات كهذه سيضع اسرائيل أمام عدة معضلات. هل بسبب الانتخابات ستسمح اسرائيل بحرية حركة أناس كانت اسرائيل تفضل اعتقالهم؟ وكيف سيتم التعامل مع نتائج الانتخابات (حتى تلك التي تعزز قوة حماس)؟ وكيف سترد على المطالب الدائمة (بما في ذلك التي تعرضها جهات دولية) بتسهيل حياة الفلسطينيين وعمل مؤسساتهم (الممر الآمن، تسليم الاموال، وما شابه).
إن توازنات القوى بين الفصائل في الحلبة الفلسطينية غامضة ومتحركة جدا، وتعطي تقديرات مختلفة لجهات السلطة الفلسطينية فتح والمستقلين في السلطة حوالى أربعين في المئة من الدعم في أوساط الجمهور. ولكن من الصعب معرفة حصة فتح التنظيم (وهي منظمة "مقاتلة" في نظر الجمهور وصورتها في نظر الجمهور أقوى من صورة مؤسسات السلطة، ولكن ليست أقوى من صورة عرفات).
وتشير المعطيات إلى أن حماس كتنظيم تحظى كحد أقصى بدعم في صفوف الجمهور لا يتجاوز الثلاثين في المئة. غير أن ترجمة هذه النسبة من الدعم الى تمثيل منتخب يستدعي انكشاف قيادة حماس. وإجراء انتخابات في ظل تهديد اسرائيل باغتيال قادة حماس يؤثر في اتجاهين: ردع المنظمة عن النشاط السياسي العلني لأسباب أمنية من جهة، وتعظيم سمعة المرشحين الذين هم "في قائمة الاغتيال" من جهة أخرى.
وفي الوقت نفسه فإن على جدول الاعمال إجراء انتخابات للبلديات والمجالس المحلية في الضفة والقطاع. وقد أقر قانون انتخاب المجالس المحلية في السلطة الفلسطينية عام 1996، ولكن الانتخابات الموعودة لم تجر أبداً. ومنذ إقامة السلطة ازداد عدد المجالس المحلية بشكل كبير، وحالياً هناك أكثر من مئة بلدية وأكثر من ثلاثمئة وخمسين مجلساً محلياً. وفي الماضي (في انتخابات 1972 و1976) كانت الانتخابات المحلية مقياساً للمزاج الوطني الفلسطيني. فالسيطرة على المجالس المحلية تمنح القيادة الوطنية قاعدة قوة هامة لتنفيذ سياسة وطنية. وثمة من يرى ان من الافضل لإسرائيل أن تسمح بإجراء انتخابات كهذه سواء من أجل اختبار الوضع على الارض أو من أجل تجنب المصاعب التي يمكن أن تنشأ جراء إجراء انتخابات عامة فور غياب عرفات. وبحسب هذه المقاربة تستطيع اسرائيل التأثير على نشوء قيادة "من تحت" بتقديم بوادر حسن نية محلية تجاه رؤساء البلديات الذين يسيطرون على مدن يسودها "الهدوء" وينتهجون خطا معتدلا، من جهة، وعن طريق الضغط على رؤساء البلديات المتطرفين (مثلا رؤساء بلديات من حماس) من الجهة الأخرى. ولكن ثمة اعتبارات ذات قيمة ضد هذه المقاربة: هناك احتمال أن تنال حماس هيبة في كل الأحوال كمن يخف لمساعدة الجمهور في اللحظات الصعبة عندما تظهر السلطة عجزها، كما أن هذه الخطوة يمكن أن تفسر كبديل لخطوة ديمقراطية حقيقية، وهناك حاجة لخطوات أمنية مرافقة لأن المناطق المفروض عليها الحصار لا تحد مناطق هذه المجالس.
السلطة الفعلية
منذ مطلع الانتفاضة تقريبا، أرخت القيادة السياسية القائمة والقوية نسبياً الحبل وسمحت للقوى الميدانية بالعمل بشكل حر. وإذ كانت القيادة القوية قد فعلت هكذا، فما الذي يمكن انتظاره من القيادة الجديدة، التي لا تملك مصادر الصلاحيات التي كانت لعرفات، والتي ستضطر لقبول الأمر الواقع في كل ما يتعلق بالسيطرة الفعلية. غير أن هذه السمات التي تحول مجموعة الى مرشح طبيعي للقيادة السياسية هي نفسها السمات التي تحول دون قبولهم كقيادة على الأرض. وفي الوضع المحتمل نشوؤه بعد غياب عرفات تتزايد فرص أن يملأ الفراغ قادة محليون غير معروفين على المستوى الوطني.
وعلاوة على مناصبه الرسمية يؤدي عرفات عملياً سلسلة وظائف مستترة، وليس بالضرورة أن يتم إشغالها فور غيابه أو حتى في وقت لاحق. فكرئيس لمنظمة التحرير فإن عرفات وليس في الاطار القانوني الرسمي للسلطة الفلسطينية هو "مصدر الصلاحية" الرئيس لأجهزة السلطة الفلسطينية، وبفضل ذلك تحظى أجهزة السلطة بشرعية في نظر الجمهور.
ورغم سياسة "فرّق تسد" واستراتيجية إطلاق يد القوى الميدانية، فإن عرفات اختار في حالات معينة التدخل، فعرفات مدير ينزل الى مستوى التفاصيل التكتيكية، وقد اعتاد التدخل في شؤون معظم الهيئات أو السلطات الخاضعة لصلاحيات مستويات أدنى منه بكثير. وهكذا تصرف بشأن الدفعات المالية وفي إدارة أموال منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. وقد شبه البعض نظام عرفات بـ"البلاط البيزنطي". فهو يستند إلى أساليب "فرّق تسد" من جهة والى تشتيت وإفلات اللجام بشكل مدروس من جهة أخرى. وقد برز مقوم آخر على وجه الخصوص بعد نشوب الانتفاضة الحالية. وقد أتاح هذا الأسلوب لعرفات إطلاق "القوى الميدانية" (وخصوصا في ميدان الارهاب) من دون أن يكون بالوسع إثبات مسؤوليته عن ذلك. ومن الجهة الأخرى فإن مكانته غير المشكوك فيها كرمز وطني فلسطيني حمته من الآثار الشخصية لهذه السياسة. وبالمقابل فإن المسؤولين عن الأجهزة الأمنية في السلطة لا يحظون بـ"الحصانة" ذاتها وهم ينظرون بخوف الى فقدانهم المتزايد للسيطرة الميدانية، بل أعربوا عن خوفهم هذا أمام جهات اسرائيلية وغيرها.
وهذه هي أربعة مراكز القوة الميدانية التي سيكون لها وزن في تحديد القيادة المستقبلية للفلسطينيين. القيادة الحالية للسلطة الفلسطينية وخصوصا أجهزة الأمن، عائلات النخبة التقليدية، تنظيم فتح وحركة حماس. ومن أجل ترسيخ قوتهم في نظام ما بعد عرفات سوف يحتاجون الى هذه العناصر: قوة فرض الإرادة، المشروعية (الدينية، الايديولوجية، السياسية أو الاجتماعية)، الوحدة والتوجيه. ولا أحد من جميع هذه الأطراف يملك كل هذه الأدوات.
وليس بالضرورة أن تنشأ القيادة المستقبلية من داخل أعضاء الصف الثاني من القيادة الحالية. ويجب أن نضيف للقائمة المعروفة لـ"المطالبين بالعرش" ملاحظة تحذيرية. فبعد غياب عرفات من الممكن أن يبرز "حصان أسود" منافس من وراء الكواليس يعتبر الآن من الصف الثالث أو الرابع يمكن أن يتجاوز كل "المفضلين". وظهور مثل هذا المنافس يمكن أن يغدو أكثر منطقية بقدر ما تتفكك منظومة السلطة الفلسطينية التي تعتبر ذخراً هاماً لشخصيات الصف الاول.
وكتعيين مرحلي للحيلولة دون الصدام من الجائز أن يتم انتخاب شخص تكمن قوته في رمزيته، ولكنه يفتقر الى قوة فرض الإرادة (مثلا، حيدر عبد الشافي). وخطوة كهذه يمكن أن تكون مفضلة لدى جهات مختلفة لرئيس الحكومة القائم، اذ أن ذلك يتيح نقل مركز الثقل: لرئيس الحكومة، وللمطالبين بالإصلاحات، المعنيين ببرلمانية النظام الرئاسي للسلطة الفلسطينية.
وسائل اقتصادية
وفي عهد ما بعد عرفات ستحتل السيطرة على الأموال مكانة هامة. وليست هناك معلومات مفصلة حول حسابات عرفات في الخارج، أو الترتيبات التي قام بها من أجل إدارة الحسابات بعد وفاته. ويمكن الافتراض أن لرجال المالية المقربين منه معرفة بهذه الأموال، ولكن احتمالات وضع اليد عليها ونقلها الى الداخل للتخفيف من ضائقة الجمهور هي احتمالات ضعيفة. واذا لم تكن هناك حكومة فلسطينية تمثيلية ومستقرة، فلا ينبغي انتظار خطوة فلسطينية لاستعادة هذه الأموال، كما جرى في دول كثيرة هرب فيها زعيم مات أو أطيح به. وليست هناك ايضا معلومات دقيقة عن المبالغ التي تصل كمساعدات مباشرة لعرفات.
ومع استبدال القيادة الفلسطينية ستكون هناك حاجة لعنوان بديل لنقل الأموال التي كانت تسلم في الماضي عن طريق عرفات وتغيير نمط إدارة أموال PEDCAR. اذ من المحتمل أن يوقف قسم من الذين كانوا يقدمون الدعم، دعمهم هذا مع غياب عرفات. ومن الجائز أن الأطراف التي كانت تقدم الدعم ستحول بشكل متزايد دعمها هذا مباشرة الى المشاريع، وستحرص على التحديد الواضح للزبون النهائي (قرية أو حي أو مشروع) وعلى شفافية وسلامة إدارة الأموال. واستمرار أسلوب عرفات في إدارة الأموال سيدفع القوى الخارجية الساعية لمساعدة الفلسطينيين الى الخضوع لإملاءات القوى المحلية وقادة الاجهزة الامنية. وفي وضع كهذا يمكن توقع تقليص أموال الدعم الاجنبي التي تصل الى المناطق.
ولكن الضعف الاقتصادي لأجهزة السلطة الفلسطينية هو ما يمكن أن يفتح كوة لتسلل جهات اقتصادية أجنبية من جديد، وفي مقدمة هؤلاء أصحاب رؤوس الأموال الفلسطينيين الذين انسحبوا من توظيف أموالهم في مناطق السلطة. غير أن شرط تحقيق ذلك هو أن تغدو السلطة ناجعة، حتى ان لم يكن معترفاً بها من ناحية وطنية كسلطة وطنية فلسطينية. وبذلك يمكن أن تنشأ وتتعمق فجوات كبيرة بين أجزاء الاراضي الفلسطينية، بين مناطق يشجع الاستقرار فيها النشاط الاقتصادي والاستثمارات ومناطق تواصل التدهور من الناحية الاقتصادية.
تدخل جهات غريبة
وفي ضوء كل ما سلف، ثمة أهمية لتعامل "العالم العربي" كجماعة والدول العربية كلاً على حدة مع خطر الفوضى في الحلبة الفلسطينية. ويبدو أن سيرورة اضمحلال الإحساس الجمعي العربي، وهي السيرورة المستمرة منذ أكثر من عقد، تجعل من تقديم العرب لمبادرات للتدخل الفاعل في الحلبة الفلسطينية أمراً غير معقول. وبالمقابل يمكن توقع تعزيز مستوى تدخل مصر والاردن، بشكل جماعي أو كلاً على حدة. فالدولتان لهما مصالح في بلورة المشهد الفلسطيني بعد عرفات: حيث أن الأردن معني بمنع انزلاق أثر ما يحدث في مناطق السلطة إلى السكان الفلسطينيين في الضفة الشرقية، ومصر تتطلع لمنع تحويل غزة الى "حماستان"، الأمر الذي يؤثر عليها. ولهذه الأسباب ترى الدولتان أن لهما الحق في التدخل. وهذا لا يعني أنهما ستعودان الى الساحة باقتراحات لتمثيل الفلسطينيين في المفاوضات، حتى لو لم يبلور الفلسطينيون قيادة قادرة أو معنية بإدارة المفاوضات. ولكن في ظروف تفكك السلطة الفلسطينية يتطلب الأمر من الأردن اتخاذ قرارات قاسية: إذ سيكون عليه أن يقرر إن كان سيواصل الصلة الروتينية مع الضفة الغربية النابعة من واجب دعم الاخوة الفلسطينيين، أو المجازفة "باستيراد" الواقع الفوضوي للضفة الشرقية أو محاولة عزل نفسها. وهذا الواقع يمكن أن يثير بقوة الجهات في القيادة الاردنية التي تدعو الى "أردن للاردنيين". واذا ازداد هذا التوجه، فسوف يضطر الاردن لـ"تخفيض وتيرة" العلاقات مع اسرائيل. أما مصر، من جانبها، فيمكن أن ترى في هذا الواقع فرصة لشجار سياسي مع إسرائيل ولتعزيز مكانتها في الحلبة الدولية كناطقة رئيسية باسم حقوق الفلسطينيين في ظل غياب مرجعية فلسطينية معترف بها. وبموازاة ذلك ستكون لإيران وسوريا مصلحة في تدهور الوضع. وكما في الماضي، فإنه ستكون لإيران مصلحة في استغلال الحلبة الفلسطينية كرافعة لتعزيز وجودها في قلب العالم العربي. أما سوريا فإنها سترى في تعزيز الفوضى في السلطة الفلسطينية وسيلة لضمان أن لا تتفرغ اسرائيل للصراع معها. إن ازدياد العنف والفوضى يمكن أن يجر إلى الساحة جهات تتماثل مع القاعدة، وهي الجهات التي تنجذب إلى "ميادين الجهاد" المتوفرة.
[من تقرير "القيادة الفلسطينية في عهد ما بعد عرفات"، الذي وضعه د. شموئيل بار في شهر أيلول 2004 وقد جرى تقديمه إلى مؤتمر هرتسليا الخامس حول "ميزان المناعة والأمن القومي"، الذي عقد بين (13/12/2004) وحتى 16/12/2004]