عند الدخول إلى ما تبقى من حي "محطة الكرمل" في حيفا، المعروف بتسمية "حي المحطة"، تواجهك الحقيقة بمرّها ومرارها. أنتَ في حيفا، لكنك في معزل عنها. أنت بجانب الشاطئ لكنك ممنوع من الإقتراب منه؛ تسكن الميناء لكن لا حق لك في النظر اليه. جدار بارتفاع عشرة أمتار يفصلك عنها، يُغلق كلّ المسارات نحو البحر. وعندما تدق أجراس "قدوم القطار" يُغلق المنفذ الوحيد نحو الشارع فتقع "المحطة" رهينة لـ "غيتو" في دولة "تعرف قيمة الإنسان".
لا يستطع أحد تجاهل منظر الأطفال المجتمعين على مقربة من "محطة القطار". ينتظرون مروره كي يتسنى لهم العبور. فتقف أنت حائرًا لا تحسد الأهالي هناك، فهذه ليست وقفة واحدة في النهار، إنما وقفة لعشرات المرات. ومع مرور عشرين دقيقة، يغلق الحاجز نفسه عشر دقائق. وعلى الأطفال - كل الأطفال- القادمين من المدرسة أو الحانوت أو من اللعب أن يكونوا حذرين، حتى لو كان هناك طفل لا يدرك خطورة المرور من أمام القطار، فعليه أن يدرك. فإذا أخطأ- عليه أن يدفع الثمن. وتخيلوا أنّ حياته هي الثمن. ولا مدخل لـ "محطة الكرمل" إلا بطريق السكة الحديدية.
"المحطة" سجن كبير مُحاط من كل ناحية. سكة القطار من جهة وجدار الميناء من أخرى، وحتى الطريق المؤدية إلى الجانب الآخر للشارع الرئيسي تملؤها الأعشاب والأشواك الصفراء المُمتدة على طولها. ويخاف الأهل من الاقتراب منها خوفًا من الأفاعي والحشرات الضارة. ووسط هذه الأعشاب وعلى مقربة من البيوت يوجد برج عالٍ لزمّور الخطر.
شاطئ "أبو نصّور"
أثناء طريقي هناك رافقني المشي الحيفاويان حليم حداد وريتشارد كرّام، اللذان تربّيا في ذلك الحي ولا يسكناه الآن. قال لي حدّاد: "أقضي ساعات طويلة هنا، أعرف كل شيء هنا". نعم، حدّاد يعرف كل شبر في "المحطة"، يعرف الناس والتاريخ والمحيط والمسكن. يدرك تمامًا أنّ المحطة ليست ضحية إهمال عابر فقط، بل هو "ضحية مخطط سلطوي واضح". ويشدّد بحرقة: "يريدون من الناس أن يملوا الحياة هنا ليهجروا هذا المكان. البيوت تُهدم هنا ولا يعمرّون غيرها، يريدون إبعاد أهالي المحطة عن مسكنهم".
لم يكن كلام حدّاد غريبًا عنّي خصوصًا في ظلّ الحال الوجودية التي يعانيها الحي. فماذا يعني أن يكون الحاجز الذي يفصل الميناء وبيتك ملتصقًا بغرفة نومك؟!
في الميناء لا يحترمون معنى أن تبتعد ثلاثة أمتار عن حدود البيت. والميناء حكومة!
ينظر حليم حداد وريتشارد كرّام الى ماضيهما، يتذكر الإثنان الطفولة التي غابت وحملت معها ذكريات جميلة في "محطة الكرمل". قالا لي وهما على مقربة من الحاجز: "هنا، مكان هذا الحاجز كنا نمّر من أجل الوصول إلى شاطئ أبو نصّور (حوف "هشكيط" اليوم). لم يمنعنا أحد، ولم يقترب منّا أحد. كانت هذه الحدود مفتوحة كلها".
طَرَق ريتشارد كرّام قضية العمارات والمسكن، فسألته: "لماذا لا تسكن أنت في الحي؟"
"أين سأسكن؟" أجابني بسؤال. فقلتُ له: "لا أعرف". فابتسم: "لا مكان هنا". وعندما سألتُه عن كل هذه المساحات المفتوحة أجابني: "هذه ليست ملكًا لنا ولا نستطيع أن نسكن هنا، هذه أموال غائبين".
خردَوات الميناء
وحتى لو كان المُلك لغير الغائبين، "فهل يرضى الإنسان بأن يعيش رهينة لضجة الميناء التي لا تعرف النهار من الليل والسبت من الأحد؟"، قالت لنا جاكلين كرّام التي تسكن الحي مع زوجها وأولادها.
يقع بيت جاكلين كرّام بمحاذاة جدار الميناء تمامّا. أو أنهم بنوْا جدار الميناء بالقرب من بيتها تمامًا. ويقع خلف الجدار مخزن لخردَوات الميناء. وعندما نتحدث عن خردَوات الميناء فهذه ليست كلمة عابرة. هذا ميناء. "من الساعة الرابعة صباحًا تبدأ الضجة. نحن لسنا مرتاحين هنا وهذه ليست حياة أبدًا. لا يقدرون أنّ أناسًا يعيشون في هذا البيت أبدًا".
بانتظار مغادرة جيل النكبة
استنادًا الى المؤرخ د. جوني منصور، يعود تاريخ حي "محطة الكرمل" الى القرن السادس الميلادي، وصمد الى حين اعتلى ظاهر العمر الحكمَ، وهدمه في العام 1761. ثم نُقل سكانه إلى حيفا الجديدة (القديمة اليوم). كان أهله يعتاشون على الزراعة وصيد الاسماك. وعاد حي "محطة الكرمل" وازدهر في أواخر سنوات العشرين وبدايات سنوات الثلاثين، بعدما هاجر الناس اليه من الجليل ونزح اليه أيضًا مواطنون من سوريا ولبنان، وأقيمت في العام 1934 كنيسة ومدرسة. بناها متبرع يدعى جبران فؤاد سعد.
كان العام 1948 مفصليًا بالنسبة لحي "المحطة"، حيث هُجّر معظم أهله وبقيت عائلتان فقط، وهُدمت عشرات البيوت ولا يزال حيّ "محطة الكرمل" يعاني حتى يومنا هذا، ولا زالت السلطة في انتظار جيل النكبة كي يتركوا بيوتهم ويمضوا.
تفتش اليوم ومن خلال جولتك في "محطة الكرمل" عن حجر جديد، عن عمارة جديدة، فتعود الى نفسك خائبًا: لا جديدَ في "المحطة". العائلات في تناقص مستمر. والبيوت الفلسطينية القديمة التي فقدت ملامحها تختفي. "البيت الذي يخلو من سكانه يُهدم"، قال حدّاد. فنظرتُ إلى بيت هُدم نصفه، وظل نصفه الآخر واقفًا، فسألتُه عن سبب الهدم فقال: "صاحب البيت يملك نصف العمارة، والنصف الآخر كان أموال "غائبين"، فهدموا أموال الغائبين وتركوا البيت".
شر البلية ما يُضحك؛ فضحكنا ومضينا.
نقف، حدّاد وكرّام وأنا، على قطعة أرض بوار، تملؤها الخردوات والزبالة والأعشاب الصفراء المستشرية. كرّام: "زارنا رئيس البلدية، يونا ياهف، قبل انتخابه رئيسًا. ونحن دعمناه دعمًا كاملاً في "المحطة". حصل ياهف على نسبة مئة في المئة من أصوات الحي. وطلبنا منه أن يقلب قطعة الأرض الصغيرة هذه إلى ملعب لأطفال المحطة. فقال لنا: طبعًا، هذه "فراطة" بالنسبة للبلدية. وانتخب ياهف ليكون رئيسًا للبلدية ولم يعُد حتى اليوم الى حي المحطة."
مُرجيحة؟ أم مكنسة؟
لا ترى أكثر من عمود أو اثنين لإضاءة شوارع حي "محطة الكرمل". لا ساحات ولا حتى مُرجيحة واحدة لطفل. لا توجد أرصفة ولا مواقف مُرتبة؛ لا توجد وردة واحدة تزرعها البلدية. ولا حتى حانوت واحد قريب. ولا هواتف عمومية ولا حتى حمامات عمومية. لا شيء في "المحطة" سوى سكانه "المحبين له". والضجة في الأفق الرحِب. في "المحطة" تستطيع أن تهدم بيتًا وتترك حجارته في الشارع، لن يستوقفك أحد من البلدية، ليس حبًا بك بل إهمال لبيئتك.
"نحن ندفع الضرائب والأرنونا على داير مليم، 2,300 شاقل في السنة. لماذا لا نتلقى خدمات في المقابل؟" سؤال يحيّر أم هاني، التي استضافتنا في صالون بيتها الجامع لأهالي الحي. أم هاني من سكان "المحطة" الأصليين، تسكنه منذ أكثر من أربعين عامًا.
كانت الجلسة عائلية جدًا ومرحة. الناس هناك يشكُون، لكنّ الأمل يظل في الحديث دائمًا. وهم حذرون من أن تعكّر"مضايقات المحطة" صفوة قهوتهم العصرية، حتى الضوضاء من قلب الميناء التي لا تبتعد إلا أربعة أمتار عن صالون أم هاني.
كلهم متعودون على هذه الضجة ما عدا أنا. "لا نعرف النوم ولا الجلسة الهادئة. الحياة في مخيمات اللاجئين أفضل بكثير من هنا، صدقني يا إبني وأنا لا أمزح. لا ملاعب للأطفال ولا ساحات، وضجة على مدار اليوم، والبلدية تخلّت عنا. هذه حياة هذه؟!"
- والماضي؟
أم هاني: "(مبتسمة) كان الماضي أجملَ. لم يكن ميناء، والناس على بعضهم. في الماضي لم تكن مساحات خالية مثل اليوم أبدًا. كل هذه الممرات التي تراها اليوم لم تكن في الماضي. كانت العائلات تسكنها كلها. الماضي كان أجملَ. ولكن منذ عشرين عامًا بدأت الأوضاع تزداد سوءًا. فكرّنا أكثر من مرة في أن نترك هذا البيت ونمضي ولكنّ أحدًا لن يشتريه. وثانيًا، وضعنا المادي لا يسمح لنا بأن نترك البيت؛ زوجي عاطل عن العمل ومريض وأنا لا أستطيع."
- والبلدية لا تساهم ولا تساعد؟
أم هاني: "أية بلدية؟ أية لجنة؟ القضية أصعب بكثير. نحن لا ينظر إلينا أحد. يبعثون برجل مع مكنسة في كل مرة، وكأنه تنقصنا مكانس؟ أنا أكنّس كل الشوارع. القضية أصعب بكثير"، فيضحك الجميع على قضية مكنسة البلدية.
خرجنا من بيت أم هاني فوجدنا "أبو جوني" اسكندر: "وضعونا جانبًا ولا يسألوننا عن شيء. وضعوا على رأسنا حجرًا، وأنا أحمّل البلدية المسؤولية كاملة. الضجة تخرج من الميناء في الساعة الثانية والثالثة صباحًا. ولا أحد يلجمهم. نحن مواطنون وندفع كل الدفعات، لماذا يهملوننا هكذا."
- هل تحب المحطة؟
اسكندر: "أحبّ المحطة لكنها وجع رأس يا ابني. أنظر حولك إلى الجدار الذي بنوه. تكلفته ملايين الدولارات. ليتهم استغلوا هذه المبالغ لتطوير الحي. ولكن آمل أن يغير تقريرك شيئًا."
نُكمل سيرنا أنا وكرّام وحدّاد. سألتُ حداد: هل طالبتم البلدية؟ فأجاب: طبعًا. وردّوا علينا بالسلب. عندما طالبت البلدية بملعب، قالوا: "ماذا تفضل، ملعبًا في "الواد" أم في "محطة الكرمل"؟ فقلت لهم: أريد في "الواد" و"المحطة". والوضع لا يزال كما كان."
إغبارية: يقللون العرب ويوسعون المرافق
تعمل "جمعية تطوير حيفا" في هذه الأيام جاهدة على تحصيل ميزانيات من أجل ترميمات للبيوت في حي "محطة الكرمل"، في ظل ما يشهده الحي من مخاطر سكنية. "البيوت هناك خطر على أهلها"، يقول مدير الجمعية حسين إغبارية، "نحن نتابع ونلاحق بمرارة التطور السلبي في "المحطة" من أوائل سنوات الثمانين. للأسف، سياسة الحكومة غير الراعية لحي "محطة الكرمل" جعلت الكثيرين منهم يهجرون المكان ويتنازلون عن بيوتهم. ومن يترك بيته يُهدم. في أوائل سنوات الثمانين سكنت في "المحطة" أكثر من 517 عائلة، واليوم لا تسكنه إلا 30 عائلة فقط، وهذا مؤسف".
- هل ستدعمون مخططًا يقلب الحي الى حديث مثلا، في مقابل تخلي السكان عن بيوتهم؟
إغبارية: "نعم، ولكن أن يكون المخطط مُنسقًا وليس عن طريق مقاول. وأن يكون الهدف الأساسي هو الحفاظ على "محطة الكرمل" وعلى سكانه، والحفاظ على العرب من خلال هذا المخطط. وقضية أخرى: سكنتْ الحي أيضًا عائلات يهودية وهذه العائلات نُقلت الى بيوت سكنية وبقي العرب هناك من دون بديل يُذكر. الهدف واضح جدًا: يريدون توسيع المرافق وتقليل عدد السكان."
* * *
حين تخرج من حي "محطة الكرمل" (مع انتظار عشر دقائق لمرور القطار) لا يسعك إلا أن تسجل تمييزًا جماعيًا آخر يستهدف البيت والمسكن. ولا يقنعك أيّ سبب في العالم بهذا الإهمال. وإذا كان العرب يعيشون في هامش مدينة حيفا، فسكان "المحطة" يعيشون على هامش هامش المدينة.