ما يعنينا في هذا السياق هو "الحاضر الغائب"، وهو الحاضر الذي أصرت أنظمة وقوانين الدولة على إنكار حضوره واعتباره غائباً بهدف وضع اليد على أملاكه؛ أرضه وبيته وأمواله في المصارف، ولم يشفع لهذا "الحاضر" حضوره الجسدي ومستنداته وكواشينه وسائر أوراقه الثبوتية!!
تجتمع في إسرائيل نقائض لا يمكن الجمع بينها في أي سياق تاريخي طبيعي. فهذه الدولة تحاول الجمع بين ديمقراطية الدولة وبين يهوديتها، وتجتهد في الظهور بمظهر المتنورة والمتحضرة وهي دولة إحتلال، وتمارس إرهاب الدولة وجميع موبقات الإحتلال وفي المحافل الدولية تدعي مكافحة الإرهاب وتتقمص دور الضحية، وتدعي شدة حساسيتها لحقوق الإنسان وفي الوقت نفسه تمارس التمييز العنصري، وتدعي الشفافية في حين ينخرها المؤامرات والفساد...
ويفقد المنطق صوابه أحيانًا عندما يصطدم بجملة من التراكيب المتناقضة التي لا تجد المؤسسات الرسمية غضاضة في تداولها ووضعها في قاموس السياسة الرسمية، مثل دولة "يهودية وديمقراطية" أو "ديمقراطية وخطر ديمغرافي" أو "إحتلال متنور" أو "حاضر غائب" أو ....الخ
إلا أن ما يعنينا في هذا السياق هو "الحاضر الغائب"، وهو الحاضر الذي أصرت أنظمة وقوانين الدولة على إنكار حضوره واعتباره غائباً بهدف وضع اليد على أملاكه؛ أرضه وبيته وأمواله في المصارف، ولم يشفع لهذا "الحاضر" حضوره الجسدي ومستنداته وكواشينه وسائر أوراقه الثبوتية!!
وتشير المعطيات الرقمية إلى أن اليهود بكل إمكاناتهم ومواردهم المالية العملاقة، لم يتمكنوا من تملك أكثر من 3% من أرض فلسطين التاريخية، وهذا المعطى صحيح حتى عشية النكبة. ولذلك، ومن أجل السيطرة على الأرض، لجأت إسرائيل إلى سن مختلف القوانين "الجهنمية" التي لم يعرف المنطق والعدالة والقيم طريقاً إليها!!
الأنظمة والقوانين التي كان الهدف منها نهب أراضي فلسطين التاريخية:
- أنظمة الطوارىء بشأن استعمال الأراضي البور لسنة 1948 ويمنح وزير الزراعة بموجبها الحق في إنذار كل صاحب أرض بور بأن يزرع أرضه، وفي حال عدم ثبوت ذلك يحق للوزير أن يضع هذه الأرض تحت تصرفه لاستغلالها زراعياً، بذريعة أن مصلحة الدولة تقتضي تنشيط الإنتاج الزراعي. وبحسب هذا القانون يستطيع الوزير أن يضع الأرض تحت تصرفه لمدة 35 شهراً.
- أنظمة الطوارىء بشأن أملاك الغائبين لسنة 1948 وبموجبها تم وضع كل ما يملكه اللاجئون والمهجرون من أملاك تحت تصرف القيم على أملاك الغائبين. ويشمل تعريف الغائب المهجرين العرب الذين هجروا من قراهم الأصلية. بيد أنها لم تمنح القيم صلاحيات نقل هذه الأملاك إلى آخرين وبيعها. ومن هنا بدأ السعي إلى تشريع جديد لتثبيت السيطرة على الأرض.
- قانون أملاك الغائبين لسنة 1950 . وقد وصفت المحكمة العليا الإسرائيلية القانون بأنه يهدف أساساً إلى تركيز إدارة الأراضي التي يملكها "الغائبون" في يد القيم على أملاك الغائبين ليقوم بحماية هذه الأملاك!. واعتبر القانون القيم عل أملاك الغائبين مالكاً لهذه الأملاك إلى أن يثبت الغائب أنه لم يكن غائباً أو أنه لا يعتبر غائباً، كما يحظر القانون نقل ملكية هذه الأملاك إلى آخرين سوى "سلطة التطوير"!! وبموازاة ذلك أعلن عن قيام "سلطة التطوير" بموجب قانون سلطة التطوير (نقل أملاك) لسنة 1950، ومنحت هذه السلطة صلاحيات واسعة تشمل شراء الأراضي واستئجارها واستبدالها والتصرف بها تصرف المالك بملكه. وبعد إعلان قيام "سلطة التطوير" بدأت عملية نقل الأراضي لمصلحتها ومنها للصندوق القومي اليهودي (الكيرن كييمت ليسرائيل- الصندوق الدائم لإسرائيل).
- قانون استملاك الأراضي (تعويضات) لسنة 1953 وبموجبه عرضت السلطات الإسرائيلية تعويضات مالية على الغائبين الذين نقلت أملاكهم إلى القيم على أملاك الغائبين. وقامت سلطة التطوير وبعدها "دائرة أراضي إسرائيل"، التي انتقلت أملاك سلطة التطوير إليها، بإجراء مفاوضات مع الكثير من المهجرين "الغائبين"، إلا أن الغالبية رفضت التعويضات المالية مقابل الأرض.
يقول المحامي محمد ميعاري: سقطت البروة في 11.06.1948، وفي اليوم الذي أعلنت فيه الهدنة الأولى، 21.06.48، قام المناضلون من القرى المجاورة بهجوم على البروة وتمكنوا من استعادتها من القوات الغازية المحتلة، واستولوا على أسلحتها. وتكررت هجمات القوات الغازية على البروة ولكن لم تتمكن من احتلالها.
وفي 23.06.48، طلب جيش الإنقاذ المتمركز في مجد الكروم من مناضلي البروة تسليمها للجيش، وبعد مفاوضات مع قيادة المناضلين (حامية شعب بقيادة أبو إسعاف والحاج عبد الحميد ميعاري والد المحامي محمد ميعاري)، تعهد جيش الإنقاذ بموجبها بأن يحافظ عليها باعتبار أنها قرية عربية. إلا أنه في 24.06.48 انسحب جيش الإنقاذ منها وسلمها لليهود بذريعة أن المناضلين قاموا "باحتلالها" خلال الهدنة!! والأنكى أن القوات الغازية احتلتها في أول يوم من الهدنة!!
تعتبر قرية البروة قرية كبيرة بمقاييس ذلك الوقت، حيث بلغ عدد سكانها 1600 نسمة، وكانت تملك من الأرض ما يزيد عن 13000 دونم. وقد تشرد أهل البروة في القرى المجاورة في حين هجر ما يقارب نصف السكان إلى سورية ولبنان. ومر على الباقين مسلسل اللجوء حتى تجمع معظمهم (البراونة) في قريتي الجديدة والمكر.
وقد جرى تدمير البيوت ونهب حجارتها بعد الاستيلاء على أرضها عام 1953. وفي هذا السياق يذكر أن نجيب صالح خطيب، ابن إمام القرية، توجه إلى المحكمة الشرعية في عكا محتجاً على هدم الجامع فيها، وتقدم بشكوى إلى وزارة الأديان في حينه، وطالب بإعادة بنائه، خاصة وأن الكنيسة في القرية لم تهدم، وكان رد وزارة الأديان أنها مستعدة لبناء مسجد في المكر وليس في البروة!
ومنذ ذلك الحين اعتبر أهل البروة بشقيهم، من غادر ومن بقي، في عداد الغائبين. واعتبرت أملاكهم أملاك غائبين ووضعت تحت إدارة القيم على أملاك الغائبين بعد أن منع أهل البروة من العودة إليها، بالرغم عن أنهم لا يبعدون عن أرضهم أكثر من أربعة كيلومترات!
وكانت أراضي البروة قبل سقوطها تحت التسوية، وتقدم أهلها بادعاءاتهم في أراضيهم ولكن لم تنجز أعمال التسوية في زمن الإنتداب، ولم تصدر الكواشين الرسمية، وهناك من كان يملك كواشين منذ العهد العثماني.
(في التسوية كان يجري عادة تقديم إدعاء بملكية الأرض، وتسجل في حال عدم وجود إدعاء مضاد. ويتم تسجيل ذلك في جدول يسمى جدول القرارات، وفي حال عدم وجود معارضة، حسب قانون تسوية الأراضي من العام 1928، كانت تحول إلى محكمة الأراضي في المحكمة المركزية، وبعد المرحلة الثالثة يصدر جدول الحقوق وحسب هذا الجدول تصدر الكواشين النهائية، وكانت أراضي البروة في مرحلة إصدار جدول القرارات).
من المعلوم أنه منذ شهر 48/7 صدرت الأنظمة الأولى من قبل حكومة إسرائيل، استناداً إلى أنظمة الطوارئ الإنتدابية لعام 1945، واعتبرت أراضي البروة وجميع القرى التي شرد أهلها، بأنها أملاك غائبين. وتم نقلها وإدارتها من قبل القيم على أملاك الغائبين، بالرغم عن "حضور" أهلها في القرى المجاورة.
هذه الأنظمة الأولية تحولت سنة 1950 إلى قانون صدر عن الكنيست تحت اسم قانون أملاك الغائبين.
فمن هو الغائب حسب الأنظمة الأولى وحسب القانون؟
يضيف ميعاري: قررت اللجنة الخاصة بأموال الغائبين أن الغائب هو كل شخص ترك مكان سكناه بعد 29.11.47، إلى دولة معادية (الدول العربية المجاورة)، أو إلى أي مكان آخر في فلسطين تواجدت فيه قوات عارضت قيام دولة إسرائيل. ويشمل هذا التعريف كل الذين هجروا أثناء الحرب، كما يشمل أي شخص انتقل من مكان سكناه إلى أقارب له في قرية أخرى. وذلك "ريثما" تنتهي حالة الطوارئ التي أعلن عنها مع قيام دولة إسرائيل والتي لا تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا!!
ومن الواضح أن هذا التعريف القانوني هو من أغرب ما عرفته القوانين العالمية ولا يتماشى مع أبسط قواعد الفقه القانوني وأحكام التشريع!
وللدلالة على غرابة هذا التعريف، أنه أثناء بحثه (عام 1948) منذ الأنظمة الأولى من قبل اللجنة الخاصة التي أقامتها الحكومة المؤقتة، استغرب وزير الأقليات وعضو لجنة أملاك الغائبين، بيخور شيطريت، أن يتم اعتبار مواطن يقيم في إسرائيل تحت الحكم الإسرائيلي غائباً. واقترح أن لا يسري هذا القانون على من هو مواطن أو موجود تحت الحكم الإسرائيلي. وقد صادقت اللجنة الخاصة على اقتراح شيطريت هذا لكونه يتسم ببعض المنطق.
وعندما تحول هذا القرار إلى الحكومة، اعترض عليه وزير الخارجية في حينه، موشي شاريت، وبرر اعتراضه كالآتي:
"عندما قمنا باحتلال الناصرة وجدنا فيها أهالي معلول والمجيدل، فهل يعني ذلك أن لا نعتبرهم غائبين، ويتوجب علينا أن نعيد لهم أراضيهم؟". وأضاف شاريت: "مثلاً، غداً ستقوم إسرائيل باحتلال مدينة نابلس وهي ملأى باللاجئين الفلسطينيين من سائر القرى والمدن الفلسطينية، فهل سنعتبرهم حاضرين أيضاً ونعيد لهم أراضيهم؟"!!
وقررت الحكومة قبول اعتراض شاريت وصادقت على تعريف الغائب كما ورد في الأنظمة والقانون.
ادعت إسرائيل أن مهمة القيم على أملاك الغائبين هي إدارة هذه الأملاك باسم أصحابها وإرجاعها لهم بعد انتهاء حالة الطواريء، التي لم تنته إلى يومنا هذا كما أسلفنا، لكن القانون نفسه أعطى الصلاحية للقيم على أملاك الغائبين بأن يتصرف بها وأن يبيعها "بحسن نية" إلى مؤسسات رسمية أخرى!
وفي سنة 1953 صدر قانون استملاك الأراضي التي نقل بموجبه القيم على أملاك الغائبين الأراضي إلى"سلطة التطوير" حيث نقل إليها معظم ما يقع تحت سيطرته من أملاك الغائبين مقابل ثمن رمزي، رصد في حينه في البنك لصالح أصحاب الأرض!
كما منح القانون لهذا القيم على أملاك الغائبين الحق في إعلان أي أرض كأنها أرض غائبين، وأن أي شهادة صادرة من قبله تعتبر بينة قاطعة في المحكمة، وعلى الطرف الذي يدعي عكس ذلك إثبات دعواه!!، وإذا كانت الأرض قد بيعت، كما ذكر أعلاه، فلا يحق للمدعي استعادتها حتى لو حكمت له المحكمة بذلك. ويبقى له الحق في طلب التعويض اسماً كما كانت قسيمتها في دفاتر المالية عام 1948، هذا إذا كانت مسجلة في دوائر المالية أصلاً!!
وتشير التقديرات إلى أن مساحة الأراضي التي تم الإستيلاء عليها بحسب هذا القانون تصل إلى ملايين الدونمات. أما ما يخص الحاضرين الغائبين فإن المساحة تصل إلى مليون دونم!
وتشمل أملاك الغائبين الأرض والوقف الإسلامي والبيوت والمسقفات والمصانع والشركات وحتى الأموال المودعة في البنوك باسم الغائبين.
يشار هنا إلى أن القانون قد اعتبر الوقف الإسلامي الذي بلغت مساحته 1/16 من جميع أراضي فلسطين أملاك غائبين، بحجة أن المتولين عليها من قبل المجلس الإسلامي الأعلى هم غائبون بالرغم عن أن ملكية الوقف حسب الشريعة الإسلامية، هي ملك لله والمنفعة منها تعود إلى جميع المسلمين، الذين ظلوا على أرضهم ويبلغ اليوم عددهم مليون مسلم.
وقد دفع الوضع بالشاعر راشد حسين أن يقول:
الله أصبح غائباً يا سيدي صادِر إذاً حتى حصير المسجدِ
البدل والتعويض
بعد صدور قانون استملاك الأراضي سنة 1953، بدأت دعوة "الحاضرين الغائبين" لترتيب دفع التعويضات لهم مقابل أملاكهم، حيث يعطى للفلاحين منهم ما مساحته 30 دونماً لمن كان يملك أكثر من ذلك، ويعطى تعويض مالي ورمزي عما تبقى من أملاكهم، فمن امتلك 100 دونم مثلاً، يتم إعطاؤه 30 دونماً من أراضي الغائبين الآخرين وعليه أن يتنازل عن باقي أرضه مقابل تعويض مالي زهيد!
وفي سنة 1977 الغي التعويض العيني واقتصر التعويض على دفع مبلغ مالي فقط.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن غالبية "الحاضرين الغائبين" رفضوا القبول بالتعويض، ولم تتجاوز نسبة الذين قبلوا بهذا الترتيب أكثر من 15%، حسب تقديرات غير رسمية.
ومن الجدير بالذكر أن مستندات أموال الغائبين وعمليات التعويض وحتى قيمة أموال الغائبين لا تزال سرية ولا يمكن الإطلاع عليها!!
ويذكر في هذا السياق أن النائب عزمي بشارة نجح حال انتخابه عام 1996 في إقامة لجنة فرعية في الكنيست لبحث أملاك الغائبين، وقد تم استدعاء القيم على أموال الغائبين بحضور عدد من المحامين العرب (بينهم المحامي محمد ميعاري)، وكانت المفارقة أن القيم على أملاك الغائبين ادعى أنه لا يملك معلومات حول هذا الموضوع، وأن الأرشيف قد فقد أثناء نقله من مدينة يافا إلى القدس!!
وبالرغم عن محاولة إخفاء الوثائق المتعلقة بأملاك الغائبين حسب ادعاء القيم، إلا أن تسجيلات هذه الأراضي لا تزال محفوظة في ملفات الأمم المتحدة عن طريق اللجنة الثلاثية التي أقيمت في أوائل الخمسينيات لمعالجة قضية اللاجئين، حسب قرار 194 الصادر عن هيئة الأمم المتحدة والذي تقرر بموجبه حق اللاجئين بالعودة والتعويض.
وقد صدرت عدة كتب حول هذا الموضوع، تتحدث عن أملاك الغائبين في محاولة لإحصاء هذه الأملاك المنقولة وغير المنقولة. كما أن هناك عدة مؤسسات فلسطينية مهتمة بالموضوع ونذكر منها مؤسسة اللاجئين ومعهد شمل ومؤسسة العودة، وما نشره الأخ سلمان أبو ستة.
الحاضر الغائب علي حرامي
من بين مئات آلاف "الحاضرين الغائبين"، الحاضر علي نمر حرامي (أبو رائف)، وهو من مواليد قرية شعب عام 1939، وبعد تهجير القرية عام النكبة سكنت أسرته في قرية مجد الكروم، حيث يعيش اليوم هناك.
اعتقل في 23/11/1969 ووجهت له تهمة العضوية في حركة فتح وتنظيم آخرين في الحركة وحيازة أسلحة. وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. وينشط حالياً في جمعية أنصار السجين.
يقول أبو رائف إن قرية شعب كان يسكنها ما يقارب 1700 فلسطيني قبل النكبة، وكانت بحوزتها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية. وبعد احتلال عكا والمكر والجديدة وكفر ياسيف، اتجهت القوات الغازية باتجاه قرية البروة التي سقطت وغادرها أهلها إلى شعب.
وكانت قد تأسست فرقة للدفاع عن قرية شعب وأطلق عليها "حامية شعب"، وهي مؤلفة من مجموعة من الشباب المدربين، وتمكنت هذه الفرقة من صد الهجوم. وعندما عجزت القوات الغازية عن دخول القرية اتجهت نحو ميعار التي تقع على تلة جنوب شعب وتشرف عليها. وتحت وابل نيران القناصة اضطر أهالي شعب إلى مغادرة القرية باستثناء الحامية وكبار السن في 15/07/1948 (إعلان قيام إسرائيل كان في 15/05/1948 !!).
وصمدت القرية وظلت الإشتباكات متواصلة مع القوات الغازية المتمركزة في ميعار حتى 01/11/1948، حيث سقط الخط الشمالي من فلسطين، سعسع- ترشيحا، وأعلم قائد جيش الإنقاذ في مجد الكروم عن إنتهاء المعركة وانسحاب الجيش. عندها لم يجد شباب الحامية بداً من الإنسحاب والإتجاه نحو سورية ولبنان بأسلحتهم (من بينهم إثنان من إخوة أبي رائف، أما قائدهم ويدعى أبو إسعاف فقد إتجه إلى سوريا وتوفي هناك قبل سنتين).
توزع أهالي شعب على القرى المجاورة مثل مجد الكروم ودير الأسد والبعنة ونحف، وهجر بعضهم إلى لبنان وسورية. ودخل الجيش إلى القرية وجمع 20 من كبار السن الذين ظلوا هناك، وجرى نقلهم في شتاء عام النكبة إلى مرج ابن عامر حيث أمروا بالتوجه نحو مدينة جنين بعد إطلاق النار فوق رؤوسهم. وقد توفي غالبيتهم غرقاً في أوحال المرج!! في حين تمكن ثلاثة منهم فقط من عبور المرج والوصول إلى جنين، وقد كان من بين الناجين والدا عضو الكنيست سابقاً حسين فارس من حزب مبام.
في هذه الأثناء جرت أعمال نهب في القرية، كشأن باقي القرى، وتم إسكان بعض الذين تعاونوا مع القوات الغازية في بيوتها بالإضافة إلى أقاربهم وخاصة من تم تهجيرهم من القرى المجاورة، من الدامون وبعض أهالي ميعار. كما تمكنت بعض العائلات من العودة إلى بيوتها بطرق ملتوية، إلا أن فرض الحكم العسكري حال دون استمرار العودة. وفي أوائل الخمسينيات تم جلب بعض العائلات البدوية من المنطقة المعزولة السلاح بين سورية وإسرائيل، وقاموا بانتقاء البيوت التي تحلو لهم من بين العدد الكبير من البيوت التي أخليت من ساكنيها!!
أما البيت الخاص بعائلة أبي رائف (علي حرامي) فقد سكنته في البداية عائلة بدوية ما لبثت أن تركته وانتقت لها بيتاً آخر، ومنذ الخمسينيات حتى اليوم تسكن البيت عائلة من ميعار مقابل مبلغ شهري يعادل اليوم 100 شيكل تدفع لدائرة القيم على أملاك الغائبين!!
عام 1952 حاول بعض كبار السن من شعب والساكنين في قرية مجد الكروم اللجوء إلى المحاكم لإستعادة أملاكهم في شعب، إلا أن تجربة الغابسية القضائية دفعتهم إلى التراجع. فقد عمل محامون في تلك الفترة على عودة أهالي الغابسية من قرية دنون المجاورة لقريتهم (لا يفصل بين القريتين سوى واد صغير) التي تم ترحيلهم منها وبقيت بيوتهم وأملاكهم أمام نواظرهم، وأصدرت المحكمة قراراً يقضي بالسماح لهم بالعودة إلى قريتهم، وبينما كان "الغابسيون" يحزمون أمتعتهم للعودة وسط مشاعر الفرح، أعلن الجيش الإسرائيلي الغابسية منطقة عسكرية مغلقة يحظر دخولها وقام بنسف جميع بيوتها بعد ظهر نفس اليوم الذي صدر فيه قرار المحكمة!!
وتملك عائلة أبي رائف عشرات الدونمات المزروعة بالزيتون والتي وضعت تحت دائرة أملاك الغائبين رغم حضور أصحابها، في حين يسكن في بيته (ر.ن) الذي يدفع أجرة البيت لدائرة أملاك الغائبين. والوضع نفسه ينسحب على أكثر من ثلثي أهالي شعب الذين لم يتمكنوا من العودة إلى قريتهم واستعادة أملاكهم!
أما شجر الزيتون فقد منع غارسوه وأصحابه الأصليون من قطف ثماره باعتباره أملاك غائبين، ومن يرغب من سكان شعب اليوم في قطف الزيتون عليه أن يدفع مبلغاً مالياُ للأموال المتروكة عن طريق المجلس المحلي، مقابل السماح له بقطف (ضمان) ثمار بضع شجرات يتم وضع علامات عليها!!
تجدر الإشارة إلى أن دائرة أملاك الغائبين عرضت على بعض أهالي شعب شراء أو استبدال بعض أملاكهم إلا أن الغالبية رفضت هذا العرض، فهم يتمسكون بموقف عدم التفريط بالأرض ورفض أي عرض لتبديلها أو بيعها مهما ضاقت بهم الأحوال المادية، وقد وافق عليه قلة قليلة مقابل استبدال. وبين الفينة والأخرى يجري توزيع قسائم بناء لأهالي شعب (تأجير لمدة 49 سنة قابلة للتجديد مقابل مبالغ مالية وتبقى الأرض من غير الممكن تملكها)، ولكن كثيرين مثل أبي رائف يرفضون "إستئجار" أرض من القيم على أملاك الغائبين في بلد له فيها أرض وبيت!
ويتناقل أهالي شعب ما حدث مع أحد القلائل ممن تمكنوا من العودة إلى قريتهم في الخمسينيات واضطر للسكن في بيت غير بيته الذي احتله آخرون بدعم من السلطات. ولما كان يملك المئات من الدونمات فقد لجأ إلى القضاء في محاولة لاسترجاع بيته وأرضه. وقد عرض عليه في حينه صفقة تقضي بالموافقة على استعادة بيته ولكن مع تبديل الأرض التي يملكها بأرض أخرى بمساحة مساوية، ومع جهله باللغة العبرية فقد وافق على الاتفاقية ووقع عليها. إلا أنه تبين لاحقاً أنه وقّع، بدون وعي، على تنازل عن أرضه وضمان أرض أخرى بمساحة مساوية لها لمدة ثلاث سنوات فقط، بعدها تنتقل الأرض إلى كيبوتس يسعور!!
ويبدو أن قلبه لم يحتمل الصدمة فتوقف عن الخفقان بعد أيام قليلة فقط من انكشاف حقيقة الصفقة!!