المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تقرير: برهوم جرايسي

جدد وزير المالية الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤخرًا، حملته على اتحاد النقابات العامة (الهستدروت)، واصفا اياها ليس بأقل من "قتلة متوحشين"، وألقى عليها مسؤولية كل اسباب الازمة الاقتصادية العامة التي تعيشها اسرائيل.

منذ ان وصل الى مقعده الوزاري وضع نتنياهو نصب عينيه تطبيق سياسة اقتصادية "تقشفية"، ولكن ليس للجميع، إذ عمل على خلق تسهيلات جمّة لاصحاب العمل الكبار واصحاب رؤوس الاموال، وفي المقابل تضييق الخناق على جمهور الاجيرين، الذي تطاله كل عام حصة الأسد من كافة التقليصات المستمرة منذ اربع سنوات. ولكي يطبق سياسته الاقتصادية، التي واجهت انتقادات حتى من بعض اوساط اصحاب رؤوس المال، وضع نتنياهو لنفسه مهمة ضرب أكثر ما يمكن من العمل المنظم ونسف اتفاقيات العمل الجماعية، وخصخصة القطاع العام، ونقل الكثير من الوظائف في جميع المؤسسات والشركات العامة الى شركات قوى عاملة، حيث لا امتيازات ولا حقوق للعاملين سوى الراتب الشهري، ويفصل العامل بعد اقل من عام من بدء عمله لكي لا تكون له اية حقوق كاملة.

ومن اجل تنفيذ هذا، شن نتنياهو معركة على الهستدروت وعلى كل ما هو متصل بجهاز محاكم العمل، التي المح قبل عام الى نيته اغلاقها في اطار التقليصات، الأمر الذي انعكس فورا على هذا الجهاز وطبيعة القرارات التي تصدر عنه، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا بين الهستدروت والحكومة، واصبحت غالبية الاضرابات التي تعلنها الهستدروت تتوقف او تقلص بفعل قرارات هذه المحاكم.

ويأتي هذا الهجوم في الوقت الذي شهدت فيه الهستدروت فترة شبه انهيار في السنوات العشر الأخيرة.

لمحة حول ما سبق

كانت الهستدروت، حتى قبل عشر سنوات، عدا عن كونها اتحاد النقابات العامة في اسرائيل، هي ايضا المشغل الأكبر في الدولة، وكان 30% من الاجيرين يعملون في شركات تابعة للهستدروت، عدا المؤسسات، وعلى رأسها جهاز الهستدروت الذي جعله حزب العمل (حزب المباي لدى اقامة اسرائيل ومن ثم المعراخ)، مؤسسة حزبية بيروقراطية ثقيلة، تعيش حالة تضخم وظيفي مليئة بالفساد.

وكان مصدر التمويل للهستدروت عدا مداخيل هذه الشركات، من اشتراكات الاعضاء التي كانت تقتطع من رسوم صندوق المرضى العام، وكان اكبر شبكة عيادات ومستشفيات في اسرائيل (وما زال ولكنه انفصل عن الهستدروت)، وعلى الرغم من هذا فقد كانت الهستدروت تقع في حالة عجز ميزانية، وتدعمها الحكومة في الكثير من الاحيان، خاصة حين كان حزب "العمل" في الحكم.

في العام 1994 جرى تحول في حزب العمل، بعد ان كانت ململة كبيرة تدور في اوساط الحزب والمؤسسة الحاكمة من طريقة ادارة الهستدروت، وكان يقف على رأس هذا التحول في كل ما يتعلق بالهستدروت عضو الكنيست ووزير الصحة في حينه، حاييم رامون والى جانبه عضو الكنيست عمير بيرتس. مما يذكر في تلك الفترة هو خطاب شهير لرامون أطلق عليه لقب "خطاب الحيتان"، الذي هاجم فيه قادة الهستدروت، واصبح لاحقا نموذجا للتشبيه في الحلبة الحزبية الاسرائيلية. وقاد الاثنان حملة شبه انشقاق داخل الحزب في الانتخابات للهستدروت، وقد نجحت كتلة رامون في تزعم الهستدروت واقصت كل الرعيل القديم في الهستدروت عن قيادتها، والذين بعضهم وجد له مقعدا في القيادة دون اي تأثير في اطار "اتفاق الائتلاف"، بين رامون وحزبه حزب العمل.

وتحت شعار القضاء على الفساد سارع رامون الى اتخاذ الكثير من الاجراءات التي ادت ليس للقضاء على الفساد، وانما وضع الهستدروت في مسار الانهيار، وما سرّع هذا هو فصل الهستدروت عن صندوق المرضى العام، وسن قانون صحة جديد ادى الى رفع يد الهستدروت كليا عن هذا الجهاز الصحي، وادى هذا الى خروج مئات آلاف الاعضاء من الهستدروت الذين كانوا اعضاء بفعل التأمين الصحي ليس أكثر.

وتبين بعد فترة قصيرة جدا، وبعد اغتيال يتسحاق رابين ان رامون اراد من الهستدروت مطية للقفز الى زعامة الحزب ولمنصب اكبر في الحكومة، وقد استقال من الهستدروت فور الاغتيال ليتولى حقيبة وزير الداخلية في حكومة شمعون بيريس القصيرة الأجل.

ومن باب الاختصار نذكر ان رامون عاد الى احضان حزب "العمل"، حيث ما زال "يعاني" من انتقام قدامى وكبار موظفي الهستدروت السابقين، وهو بالكاد ينتخب في قائمة الحزب الانتخابية في آخر المقاعد العشرة الاوائل. اما عمير بيرتس فقد شكل في العام 1999 حزب "عام إيحاد" (شعب واحد)، وخاض الانتخابات البرلمانية في تلك السنة وحصل على مقعدين، وفي العام 2003 حصل حزبه على ثلاثة مقاعد، وفي مطلع العام المقبل سيدخل حيز التنفيذ اتفاق ضم حزب بيرتس الى حزب "العمل"، ليسدل الستار عن هذه الجولة الحزبية.

الهستدروت تسترد جزءا من عافيتها

وكما ذكر فإن الهستدروت، في السنوات العشر الأخيرة، شهدت انهيارا كبيرا في حجمها، وهذا ما انعكس على قوة تأثيرها، ولكن في العامين الاخيرين بدأت الهستدروت تسترد نوعا من عافيتها، فهي اليوم تضم حوالي 750 ألف عضو، من اصل 2,5 مليون هم القوة العاملة المفترضة في اسرائيل، اضافة الى حوالي 300 الف عامل وموظف منظمين في نقابات مهنية مثل المعلمين والاطباء وغيرهم، واحيانا يكون هناك تنسيق بين هذه النقابات والهستدروت.

وعلى ما يبدو فإن الهستدروت استطاعت اقناع قطاعات واسعة من العاملين للانضمام اليها بعد ان كانوا عرضة لضربات اقتصادية حكومية، قذفت بعشرات آلاف العاملين الى سوق البطالة، وهذا بعد أن تم تقليص مخصصات العاطلين عن العمل وتشديد الشروط للحصول على هذه المخصصات، علما ان الاجيرين وخلال فترة عملهم يدفعون رسوم ضمان اجتماعي من ضمنه تأمين البطالة.

لقد ظهرت الهستدروت في الشهر الماضي بمظهر قوة غاب عنها لسنوات طوال، حين قادت اضرابا عاما ليوم ونصف اليوم احتجاجا على عدم تلقي 15 الف مستخدم في المجالس البلدية والقروية رواتبهم لفترة تتراوح من 3 اشهر الى 17 شهرا، وبتفاوت بين المجالس، علما ان هناك آلافا آخرين يحصلون على رواتبهم بتأخر دائم لشهر او شهرين. ففي هذا الاضراب انضمت كافة النقابات التي ليست لها صلة مباشرة بموضوع الاضراب، وكان عبارة عن اضراب تضامني من الدرجة الاولى، اثار غضب نتنياهو وحلقته في وزارة المالية، وقد قاد هذا رئيس الحكومة اريئيل شارون للتدخل اكثر في هذه الأزمة.

هذا الاضراب جعل نتنياهو يجدد حملته ضد الهستدروت وضد العمل المنظم، واطلق تصريحات غاضبة في نهاية الاسبوع الماضي في عدد من الصحف الاسرائيلية، وكما ذكر فقد وصف فيها الهستدروت بأنها عبارة عن عصابة قتلة متوحشين، وانها تضرب اقتصاد اسرائيل بدلا من ان تحميه وانه بسببها هناك اتساع دائم في البطالة.

كما هاجم نتنياهو الحملة المرتقبة للهستدروت التي تريد رفع الحد الادنى من الأجر الى ألف دولار شهريا (حاليا 760 دولار)، وهو ما وصفه نتنياهو بأنه "الضربة القاضية" للاقتصاد وللمشاريع الاجنبية التي امامها فرص الحصول على ايد عاملة رخيصة.

النقابي جهاد عقل: نتنياهو يريد أسوا من أمركة الاقتصاد

كان حديث "المشهد الاسرائيلي" مع النقابي جهاد عقل، عضو قيادة الهستدروت، في اليوم الذي ظهرت فيه تصريحات نتنياهو، ولم يخف عقل غضبه، واعلن انه توجه بشكوى الى المستشار القضائي لفحص امكانية محاكمة نتنياهو بتهمة التحريض الدموي على قادة الهستدروت.

ويقول عقل "اعتقد ان تهديدات نتنياهو تشير الى افلاس حقيقي لوزير المالية وسياسته، ونحن نعتقد ان هذه التهديدات التي اطلقها هي تهديدات خطيرة جدا قد تؤدي في المحصلة الى عدم ضمان الأمن والأمان لأي مسؤول نقابي في البلاد. لان من يصف النقابيين بانهم قتلة متوحشون، يعرف أن عالم الاجرام له معايير خاصة ونحن نعتقد ان هذا تحريض دموي على كل ناشط عمالي في اسرائيل".

وحول جهود نتنياهو لضرب العمل المنظم وجهاز محاكم العمل في اسرائيل يقول عقل لـ "المشهد الاسرائيلي"، إن "هذا حلم اليقظة لنتنياهو الذي يريد ان ينهي اي تنظيم عمالي ونقابي، وهو لا يخفي ذلك، وهو يريد اسرائيل دولة تحت إمرة شخص واحد ألا وهو بيبي نتنياهو، ليس فقط في الاقتصاد بل في جميع القضايا، ونعتقد ان حلمه المعلن للقضاء على الحركة العمالية والنقابية لن يتحقق، لقد سرع نتنياهو عملية بيع القطاع العام لاصحاب رؤوس الاموال، ويعمل على اغناء الاغنياء وافقار الفقراء، ولكن دون شك ان الاضراب الاخير اثبت انه لا يمكن تحقيق برنامجه، ووحدة العمال كانت اقوى".

وردا على سؤال حول ان نتنياهو أنحى بكل اللائمة على الهستدروت قال النقابي عقل إن وزير المالية يتهم الهستدروت بتوسيع رقعة البطالة، ولكنه في نفس الخطاب ادعى انه قلص عدد الفقراء وعدد العاطلين عن العمل، ولكن كل التقارير الرسمية وواقع الميدان يثبت العكس، فعدد الفقراء يزداد يوميا وكذا عدد العاطلين عن العمل، لقد ضربت اسرائيل في هذه الفترة رقما قياسيا من حيث عدد العاطلين عن العمل، وهو في حدود 280 الفا. لقد ظهرت اسرائيل عشية الاعياد اليهودية في مشهد مخز لدولة تدعي التطور الاقتصادي، وتضع نفسها في خانة الدول المتطورة، لقد شهدنا، وحسب الارقام المعلنة، ان حوالي 600 الف شخص توجهوا في الشهر الماضي الى جمعيات خيرية لتأمين لقمتهم في الاعياد اليهودية، وهذا لا يمكن ان يكون الرقم الحقيقي، إذ هناك الكثير ممن يخجلون في الوصول الى هذه الجمعيات، وهنا نلفت النظر الى هذا الرقم هو من اليهود فقط، أما عند العرب فهناك النسبة مضاعفة، إذ ان نسبة الفقراء العرب من مجمل فقراء اسرائيل هي الثلث، علما ان نسبة العرب في اسرائيل هي 18%، وهذا يعني ان حوالي نصف العرب تحت خط الفقر.

ويتابع عقل قائلا، طبعا إن نتنياهو بعيد عن هذه الارقام، وسياسته لا شك في انها ستزيدها، نحن مقبلون على صدور احصائيات رسمية قريبا، ومن اهمها تقرير الفقر السنوي الذي يصدر عن مؤسسة التأمين الوطني (مؤسسة الضمان الاجتماعي)، وهذا التقرير سيعالج السنة التي تولى فيها نتنياهو حقيبة المالية (2003).

لقد سحب نتنياهو في ميزانية العام الحالي من جيوب المواطنين حوالي 4 مليارات شيكل (900 مليون دولار)، وهذا حتى بتفاهم مع الهستدروت في ما يتعلق بالتقليصات وخصم رواتب، ولكن نتنياهو لم يكتف، فهو أعد ميزانية للعام القادم 2005 في صلبها خصم حوالي 5 مليارات شيكل (1,11 مليار دولار) من جيوب المواطنين، منها 3 مليارات تقليص مباشر في رواتب القطاع العام، من خلال فصل عاملين وتقليص رواتب قائمة، وهناك مليار شيكل آخر (222 مليون دولار) سيخصمها من مخصصات الضمان الاجتماعي، ومليار شيكل آخر سيتم تقليصها من وزارات مختلفة هي بالاساس تقليص رواتب واماكن عمل.

ويقول عقل "هناك من يرى ان نتنياهو يريد امركة الاقتصاد، وهذا صحيح الى حد معين، ولكن ما يقدم عليه نتنياهو في كل ما يتعلق بالعمل النقابي وقوانين العمل، هو حتى أسوأ من النموذج الاميركي، فحتى الولايات المتحدة ما زال فيها قوانين خط أحمر لا يمكن تجاوزها، أما نتنياهو فهو يريد شطب أي خط احمر، لرفع كافة القيود من امامه".

ويرى عقل ان الاضراب الأخير بث روحا جديدة في العمل النقابي في اسرائيل بعد سنوات من التراجع، ويقول إن "الهستدروت كاتحاد نقابات مرت بفترة ليست سهلة لان المؤامرة بدأت منذ أكثر من 10 سنوات، وفي الاضراب الأخير ظهرت ملامح عودة الوحدة العمالية وهذا من المفروض ان يجعل نتنياهو يحسب الكثير قبل الاقدام على ضرب حقوق العاملين".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات