المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب بلال ضاهر:

تترقب الأوساط القانونية والقضائية والمنظمات الحقوقية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية ما سيحصل في المحكمة العليا الإسرائيلية في أعقاب خروج رئيسها الحالي، القاضي أهارون باراك (70 عامًا)، إلى التقاعد في منتصف شهر أيلول الجاري.

ورغم أن باراك هو محل خلاف في إسرائيل، بين اليمين واليسار وبين الليبراليين والمحافظين، إلا أن خروجه من المحكمة العليا يثير علامات سؤال كثيرة حول مستقبل المحكمة ودورها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إسرائيل، وأيضا حول الثقة المتناقصة التي يوليها الإسرائيليون للمحكمة العليا، في عهد باراك، الذي يجمع رجال القانون على أنه شخصية قانونية وقضائية فذّة وغير عادية في المشهد القضائي الإسرائيلي.

وكان أستاذ القانون في الجامعة العبرية في القدس، البروفيسور أهارون باراك، قد بدأ عمله في السلك القضائي الإسرائيلي في العام 1975 مستشارا قضائيا للحكومة الإسرائيلية بعد وقت قليل من فوزه بجائزة إسرائيل في البحث القضائي ولم يبلغ وقتها التاسعة والثلاثين من عمره بعد. وبقي باراك في منصبه هذا ثلاث سنوات كانت عاصفة جدا واستقال خلالها رئيس الحكومة، إسحق رابين، بعد الكشف عن حساب الدولارات باسمه في خارج البلاد. كما حدث أثناء ولايته "الانقلاب السياسي الكبير" في إسرائيل عندما صعد الليكود لأول مرة إلى سدة الحكم وشكّل في حينه مناحيم بيغن الحكومة. وباراك هو الذي صاغ معاهدة كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر في العام 1978 قبل أن يغادر منصبه هذا ويتم تعيينه قاضيا في المحكمة العليا. وفي العام 1995 تم تعيين باراك رئيسا للمحكمة خلفا لمئير شمغار.

ويعتبر باراك قائدا لـ"ثورات قضائية" سعى من خلالها إلى وضع السلطة القضائية فوق السلطة التنفيذية في إسرائيل، من خلال فسح المجال أمام كل شخص بالالتماس إلى المحكمة العليا ووضع كل موضوع تحت مجهر المحكمة العليا، والأهم من ذلك ما يسمى بـ"الثورة الدستورية" التي اعتبرت أيضا ثورة في مفاهيم حقوق الإنسان من وجهة النظر الإسرائيلية.

"أحد أهم القضاة في كل التاريخ القضائي لإسرائيل"

وفي حديث مع "المشهد الإسرائيلي" قال المحامي محمد دحلة، الذي خاض معارك قضائية كثيرة في المحكمة العليا الإسرائيلية ممثلا لمواطنين وهيئات فلسطينية تضررت من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، إن باراك هو "أحد القضاة الذين لا يستهان بهم ويحسب لهم ألف حساب وهو أحد أهم القضاة في كل التاريخ القضائي في إسرائيل. وربما هو العامود الفقري لكل الجهاز القضائي الإسرائيلي وله تأثيرات بالغة على سن القوانين ومبنى المحاكم وفلسفة القانون وطريقة تدريب المحامين، إضافة إلى الكتب العديدة التي ألفها وآلاف القرارات التي كتبها. ومن هنا فإن لباراك تأثيرا كبيرا على جميع الجوانب القانونية في مجمل نواحي الحياة في إسرائيل. وأرى أن غيابه عن المحكمة العليا سيترك فراغا كبيرا جدا وسيكون من الصعب جدا على المرشحة لخلافته، قاضية المحكمة العليا دوريت بينيش، أن تملأ هذا الفراغ وذلك باعترافها هي نفسها".

وأشار المحامي دحلة إلى علاقة باراك، من خلال موقعه في المحكمة العليا، مع الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأكد على أنه "بشكل عام، لا يمكن اعتبار باراك من القضاة الليبراليين البارزين في المحكمة العليا. رغم ذلك فهو أحد أكبر المدافعين عن حقوق الإنسان، لكن هذا كله هو أمر نسبي. وهنا توجد نظرتان إلى باراك، واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية. وفي فترته كانت هناك تغييرات بنيوية في المحكمة العليا مثل تعيين أول قاض عربي في العليا، مؤقتا (القاضي عبد الرحمن الزعبي)، وبعد ذلك تعيين قاض عربي دائم (هو القاضي سليم جبران). وكان يسعى أيضا إلى تعيين قضاة عرب في جميع المحاكم الإسرائيلية بكافة مستوياتها، ومرة اقترح عليّ تولي منصب قاض".

(*) "المشهد الإسرائيلي": كيف كانت علاقة باراك مع قضايا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ومع ممارسات الاحتلال الإسرائيلي؟

- دحلة: "قد يكون براك ليبراليًا إلى أبعد الحدود في قضايا المرأة والمعاقين وغيرها من قضايا حقوق الإنسان. لكن ليبراليته تصبح أقل عند الحديث عن العرب في إسرائيل وتصبح أقل بكثير عند الحديث عن الفلسطينيين في الضفة والقطاع. ويمكن القول، بالنسبة للضفة الغربية وقطاع غزة، إن المحكمة العليا الإسرائيلية، حتى في عهد باراك، وعلى الرغم من التحفظات التي يمكن ذكرها، لم تؤد الدور الذي كان متوقعا منها. وأقصد هنا الدور الذي تلعبه أية محكمة عليا أخرى في العالم للحفاظ على حقوق الطبقات الضعيفة والأقليات. والفلسطينيون هم أكثر فئة يتم تهميشها كونها ليست جزءا من المجتمع الإسرائيلي وإنما هي شعب محتل. وكانت هناك إشكالية كبيرة في قرارات المحكمة العليا ودفاعها عن حقوق الفلسطينيين حيث أنها لم تفعل ذلك. فقد صادقت المحكمة العليا في عهد باراك أيضا على معظم ممارسات الاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان بشتى أشكالها، ابتداء من طرد قيادة حماس إلى مرج الزهور، وبالمناسبة باراك اعترف أنه اخطأ بالمصادقة على هذا القرار، والمصادقة على سياسات إسرائيلية ضد لم شمل عائلات فلسطينية وإصدار بطاقات هويات، وهذه قضية مأساوية للغاية فنحن نتحدث عن حرمان قرابة 200 ألف فلسطيني من التوحد مع عائلاتهم. وحتى في عهد باراك استمرت المحكمة في القول إنه لا يوجد حق قانوني لهؤلاء الفلسطينيين خارج الضفة بالسكن مع أزواجهم أو زوجاتهم. زد على ذلك المصادقة على هدم بيوت الفلسطينيين وتعذيب المعتقلين الفلسطينيين والاعتقالات الإدارية. لكن رغم ذلك، فإنه إذا كانت هناك قرارات استثنائية صادرة عن المحكمة في هذه القضايا تم فيها مثلا لم شمل عائلات معينة أو منع نوع وسائل تعذيب فإن هذه الاستثناءات كلها أصدرها باراك".

إسرائيلي صهيوني يؤمن بالليبرالية

(*) من جهة ثانية أصدر باراك قرارات تتعلق بمسار جدار الفصل العنصري تتعارض مع القانون الدولي ومع قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي.

- دحلة: "هذا صحيح. فباراك هو شخص إسرائيلي صهيوني يؤمن بالليبرالية. وهو ليس قاضيا دوليا محايدا، وهو يناور بين نبض الشارع الإسرائيلي ونبض المحافل القانونية الدولية. مثلا هو أصدر قرارا ألزم فيه السلطات الإسرائيلية بتوزيع الكمامات الواقية من الغاز على الفلسطينيين في حرب الخليج الأولى العام 1991. ورغم إصداره قرارات ضد مصلحة الفلسطينيين في موضوع الجدار إلا أن باراك أصدر في هذا الخصوص قرارات جريئة وألغى من خلالها عشرات الكيلومترات من مسار الجدار وقال إنه غير قانوني، ليس بسبب التسويغات القانونية التي وضعتها محكمة لاهاي وإنما بسبب تسويغات أخرى مثل عدم التوازن الملائم ما بين حقوق الإنسان والسكان الفلسطينيين وبين ما اعتبره جهاز الأمن الإسرائيلي احتياجات أمنية. وهناك قرار أصدره باراك يتعلق بمنع استخدام الجيش الإسرائيلي المواطنين الفلسطينيين دروعا بشرية. إضافة إلى قرارات لا نشعر بها لأن المحكمة تضغط على الأطراف للتوصل إلى تسوية ويكون بعضها في صالح الملتمسين الفلسطينيين.

"رغم كل ذلك فإن الصورة قاتمة. وهذه القرارات التي أصدرها باراك وغيره في المحكمة العليا الإسرائيلية هي بمثابة ضوء خافت في ظلمة حالكة. وبالإمكان القول إن المحكمة العليا لم تؤد دورها وإن الفلسطينيين كانوا في أسفل سلم الدفاع عن الأقليات والفئات الضعيفة، وفي الوقت ذاته، ورغم أنهم أكثر شريحة مستضعفة فإنهم أقل شريحة حصلت على حماية من المحكمة العليا".

(*) تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية مؤخرا عن أن باراك سيعكف في السنوات المقبلة على تأليف كتاب حول "ثورة حقوق الإنسان في إسرائيل". هل توجد ثورة كهذه في إسرائيل؟

- دحلة: "يوجد شيء كهذا. وربما لا يمكن تسميتها ثورة دستورية. وفي هذا الصدد يمكن القول إن باراك أوجد شيئًا من لا شيء. في إسرائيل لا يوجد دستور، لأنه بعد قيام إسرائيل في العام 1948 تم اتخاذ قرار سياسي يقضي بعدم وضع دستور بادعاء أن اليهود في البلاد هم أقلية بين يهود العالم واعتبروا أنه من السابق لأوانه وضع دستور لدولة أغلبية سكانها لم يحضروا إلى هنا بعد. والسبب الثاني هو أن الحدود كانت مؤقتة وهي ما زالت مؤقتة حتى اليوم، إذ لا يوجد مكان أو نص يقول إن هذه هي حدود إسرائيل بل هناك نص يقول أين يتم تطبيق القانون الإسرائيلي. والأمر المثير للسخرية وللحزن في وقت واحد هو أن القانون الإسرائيلي يتم تطبيقه أيضا في الأماكن التي يقررها وزير الدفاع، وبهذه الطريقة تم ضم القدس الشرقية في 1967. وسبب آخر منع وضع دستور لإسرائيل هو الخلافات بين اليهود العلمانيين والمتدينين. وعلى ضوء هذا الوضع بادر باراك في العام 1992 إلى سن قانوني أساس: الأول حرية الإنسان وكرامته والثاني حرية العمل. وقد سنّ الكنيست هذين القانونين بأغلبية عادية قبل الانتخابات العامة في حينه بشهور قليلة ومن دون منح القانونيين أهمية. لكن باراك نفح فيهما روح الثورة الدستورية بسبب طريقة نصهما والمواد الواردة فيهما وقال إنه بالإمكان الاستناد إلى هذين القانونين من الآن فصاعدا لإلغاء قوانين يسنها الكنيست، الأمر الذي لم يكن قائما حتى العام 1992".

(*) وهل ألغت المحكمة العليا قوانين سنها الكنيست، مثل قوانين عنصرية ضد العرب؟

- دحلة: "تم إلغاء قوانين سنها الكنيست لكن هذه كانت قوانين اقتصادية تتعلق بعمل البنوك وما شابه. من جهة أخرى لم يتم إلغاء قوانين عنصرية سنها الكنيست رغم أنه تم الالتماس إلى المحكمة العليا ضد قانون لم الشمل العنصري، الذي يمنع عمليا مواطنا إسرائيليا من الزواج مع فلسطينية والسكن في إسرائيل، لكن المحكمة لم توافق على إلغاء البنود العنصرية فيه بأغلبية صوت قاض واحد، إذ نظرت في هذا الالتماس هيئة مؤلفة من 11 قاضيا قال 6 بينهم إنه لن يتم إلغاء القانون حاليا. رغم ذلك فإن المبدأ الذي وضعه باراك حول صلاحية المحكمة بإلغاء قوانين هو مبدأ هام خصوصا بالنسبة للأقليات كون الكنيست يسن قوانين وفقا للغالبية اليهودية فيه. وأعتقد أن المحكمة تخطو بحذر في هذا السياق بسبب الانتقادات التي تم توجيهها للمحكمة والتخوف من إقدام الكنيست على سن قانون يغير صلاحية المحكمة ويمنعها من إلغاء قوانين يسنها الكنيست".

(*) ما هي التوقعات في المستقبل من المحكمة العليا بعد مغادرة باراك؟

- دحلة: "أعتقد أنه ستكون هناك ردة في مجال حقوق الإنسان والمتضرر الأساسي هم الفلسطينيون. وهناك عدة أسباب لتوقعي هذا.

السبب الأول هو أن القدرة القانونية والكاريزما التي كان باراك يتمتع بها فسحت المجال أمامه لتنفيذ خطوات جريئة في المجال القضائي. وقد كان المستوى السياسي في إسرائيل يكن الاحترام لباراك حتى عندما كان يختلف معه. وهذه الهيبة ستنتهي بغياب باراك لأن خليفته، بينيش، وغيرها من القضاة لا يتمتعون حتى الآن بمكانة باراك. وهذا الأمر سيؤثر سلبا على قدرة المحكمة. ويتوجب القول هنا إن بينيش أصدرت قرارات صادقت فيها على مسار الجدار مثلا، لكن من الجهة الأخرى كانت لديها مواقف ايجابية حتى قبل أن تصبح قاضية مثل إصدار أمر بالتحقيق في فضيحة الحافلة رقم 300، عندما تم الكشف عن أن محققي الشاباك قتلوا فلسطينيين من منفذي عملية اختطاف الحافلة بعد اعتقالهما أحياء. كذلك فإن بينيش صوتت إلى جانب إلغاء قانون لم الشمل العنصري. وهي تلميذة باراك منذ أيام دراستها في الجامعة وحتى وصولها إلى المحكمة العليا لكنها ليست بحجم باراك".

(*) هناك شخصية قانونية مثل البروفيسورة روت غابيزون مرشحة لتولي منصب قاض في المحكمة العليا. كيف ستؤثر غابيزون على المحكمة وأدائها؟

- دحلة: "غابيزون هي شخصية سلبية جدا، رغم أنها كانت في الماضي رئيسة جمعية حقوق المواطن في إسرائيل. وقد تغيرت أفكارها. وهي صهيونية أكثر بكثير من أن تكون ليبرالية، بل إنها تخضع ليبراليتها لصهيونيتها. غابيزون قالت إنها لا تعتقد أنه من حقوق الإنسان أن يتعلم مواطن عربي في إسرائيل في مدرسة يهودية. وهذا الرأي لم تقبله المحاكم في إسرائيل على سبيل المثال. وهي من المحافظين الذين يدعون المحكمة العليا إلى عدم التدخل في قوانين الكنيست أو قراراتها ولا حتى في قرارات الحكومة، وترى أن المحكمة هي مكان لفض النزاعات وتخشى من النشاط القضائي المتزايد في القضايا السياسية وتعتبر حتى أن هذا يمس بالمحكمة. وغابيزون هي من أكبر منتقدي باراك فيما يتعلق بالثورة الدستورية وتعتبرها زوبعة في فنجان وليست ثورة. ولذلك أعتقد أن المحكمة العليا مقبلة على تراجع سيكون الفلسطينيون من كلا جانبي الخط الأخضر أكثر من سيتضرر منه".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات