المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

البروفيسور بنيامين بن طال، رئيس قسم الاقتصاد في جامعة حيفا، في حوار مع "المشهد..": "المشكلة التي تواجه اسرائيل، وتواجه دولا اخرى بصورة مشابهة للغاية، هي ان بنود الصرف في الميزانية العامة اكبر بكثير من بنود الدخل في ميزانية الدولة، ما يخلق هذا الحجم الكبير في العجز المالي. تضاف الى هذا الوضع ايضا الحرب مع الفلسطينيين. لكن المشكلة الاساسية تبقى في العجز المالي.."

كتب: بلال ظاهر

عادت نقابة العمال العامة في اسرائيل ("الهستدروت الجديدة") في الاسبوع الماضي الى تنظيم تشويشات في العمل في المرافق العامة في الدولة، وذلك بعد مضي اقل من اسبوعين على الاتفاق الذي ابرمته النقابة العمالية مع وزارة المالية الاسرائيلية في اعقاب الاضراب الكبير الذي شل كافة المرافق العامة وتسبب بخسائر فادحة للاقتصاد الاسرائيلي. وجاءت التشويشات الجديدة في العمل في اعقاب إقرار الخطة الاقتصادية في الكنيست التي كانت وزارة المالية طرحتها وتوصلت بشأن عدد من بنودها الى اتفاق مع الهستدروت، وخصوصا ما يتعلق منها بخفض رواتب الموظفين في السلك الحكومي. وقد تمحورت الاجراءات النقابية الاخيرة حول قضية سيطرة الحكومة على صناديق التقاعد التابعة للهستدروت نتيجة العجز المالي الهائل الذي ترزح تحته هذه الصناديق.

الخطة الاقتصادية الجديدة التي طرحتها وزارة المالية بتوجيه من وزير المالية بنيامين نتنياهو كانت ولا تزال موضع جدل حاد بين القوى السياسية المختلفة داخل اسرائيل، ولكن الامر الثابت يكمن في ان هذه الخطة كشفت النقاب عن حجم الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها اسرائيل. وكانت عدة تصريحات اطلقها مسؤولون اسرائيليون اشارت الى حجم تدهور الوضع الاقتصادي في اسرائيل، جاءت كمقدمة لتبرير الضربات الاقتصادية الكامنة في الخطة الاقتصادية. ولعل ابرز هذه التصريحات واخطرها من ناحية الاسرائيليين اعلان وزير المالية الاسرائيلي الاسبق، يعقوب نئمان، أن "دولة اسرائيل تواجه خطرًا يتهدد وجودها من الناحية الاقتصادية".

"افلاس دولة الرفاه"

تمحور الجدل حول الخطة الاقتصادية في الاساس حول بدائل للطروحات التي تضمنتها الخطة والتخفيف قدر الامكان من الاضرار اللاحقة بسببها بالشرائح الاجتماعية الضعيفة والوسطى. فالخطة اعفت الطبقة الغنية من تحمل أي عبء في الضرائب بادعاء عدم دفع رؤوس الاموال الى الهرب ومن اجل تشجيع الاستثمار في اسرائيل "لتوفير اماكن العمل والحد من البطالة". وقد اصبح واضحا ان الخطة الاقتصادية وضعت حدا لـ "دولة الرفاه" في اسرائيل.

في حديث لـ "المشهد الاسرائيلي" عبر البروفيسور بنيامين بن طال، رئيس قسم الاقتصاد في جامعة حيفا، عن رؤية مغايرة لما يقوله السياسيون والناشطون العماليون في اسرائيل حول الخطة الاقتصادية، وضرب لنا العديد من الامثلة والاحصائيات لتوضيح الاسباب التي دفعت، على حد قوله، وزارة المالية الى وضع هذه "الخطة". يقول: "الفكرة الاساسية الكامنة من وراء هذه الخطة ترى ان القوى الفاعلة في السوق هي الاداة الافضل لتنظيم الحياة الاقتصادية. بكلمات اخرى، جعل تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي في ادنى مستوى ممكن من جهة، واعطاء اقصى حد للاسعار في ان تتحكم بالسوق من جهة اخرى، فالاسعار هي التي توحي للاطراف المختلفة وللمشاركين في اللعبة الاقتصادية كيفية توجيه الاقتصاد."

ويتابع البروفيسور بن طال، ان "هذه الخطة هي تحصيل حاصل ولا يمكن الخروج من الركود الاقتصادي الراهن من دونها"، موضحا ان "مبادئ هذه الخطة مشابهة الى حد بعيد لخطط اقتصادية كثيرة تم انتهاجها في كافة الدول الصناعية. ففي المانيا، مثلا، يسود وضع اقتصادي مشابه الى حد بعيد للوضع الاقتصادي في اسرائيل. ورغم ان المستشار الالماني شرودر ينتمي الى المعسكر الاشتراكي الديمقراطي، الا انه مرر في البرلمان الاسبوع الماضي خطة اقتصادية مشابهة لخطة نتنياهو. الشئ ذاته حصل في دول اوروبية اخرى، وانا لا اتحدث عن (رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت) تاتشر منذ 20 عاما بل عن الفترة الاخيرة في هولندا والدانمارك، وبصورة مشابهة في الولايات المتحدة ايضا، على مستوى الولاية الواحدة منها. الشعور هو ان دولة الرفاه افلست، بسبب تدخلها في النظام الاقتصادي، وبشكل خاص في سوق العمل، مما ادى الى تشويهات اقتصادية كبيرة، بمنحها اشارات غير صحيحة للجمهور العام فيما يتعلق بقيمة وقتهم، مما جعل الجمهور يستعين بالبرامج الحكومية بدلا من الخروج الى سوق العمل. وهذا الامر ينطبق على الدول التي ذكرتها وعلى اسرائيل ايضا".

ولذلك فان المتضررين الاساسيين من الخطة الاقتصادية الجديدة، او من زوال دولة الرفاه، هي الشرائح الضعيفة او كما يصفهم البروفيسور بنطال: "الذين لجأوا الى برامج الرفاه. انهم اولئك الذين قيمة الوقت لديهم متدنية بمفاهيم السوق، ويفضلون عدم العمل في الاشغال المتوفرة في سوق العمل، والتي تلائم مستواهم التعليمي. ومن هنا فان الخطة الاقتصادية تهدف الى ان يتوجه الناس الى العمل بدلا من الاعتماد على الدعم الحكومي. يوجد هنا توتر معين. ان الفكرة الكامنة من وراء خطط كهذه، والتي لم يتم انتهاجها في اسرائيل فحسب، مؤداها انه لا يوجد مساواة في الجهاز الاقتصادي، اذ يوجد اشخاص اكثر نجاحا وهم مؤهلون اكثر من ناحية امكانياتهم الاقتصادية".

في الاسبوع قبل الماضي صادقت الكنيست على الخطة الاقتصادية مما يعني اجراء تقليصات بقيمة تسعة مليارات شيكل من ميزانية الحكومة في جميع المجالات، باستثناء ميزانية الامن. مست التقليصات بالاساس بالمخصصات التي تدفع للعائلات كثيرة الاولاد وللعاطلين عن العمل كما تمت المصادقة على تقليص الاجور وفصل الاف المستخدمين في القطاع العام. وقد دفعت المصادقة على الخطة بالكثيرين الى القول إن دائرتي البطالة والفقر في اسرائيل سوف تتسعان.

الا ان البروفيسور بن طال يرى ان هدف الخطة تحقيق العكس من ذلك تماما، بل يؤكد ان التجربة في هذا السياق "ناجحة تماما. وكافة الاحصائيات تشير الى النجاح بالوصول الى الهدف. بهذه التجربة مرت ابرز الدول الاشتراكية الديمقراطية (في شمال اوروبا)، وهناك لا ترى ان عدد المساكين ازداد او ان وضعهم تفاقم او ان عدد العاطلين عن العمل ازداد، بل حدث عكس ذلك تماما".

هل الادعاء بأن اسرائيل كانت على وشك الانهيار من الناحية الاقتصادية صحيح؟

"نعم، هذه حقيقة. المشكلة التي تواجه اسرائيل، وتواجه دولا اخرى بصورة مشابهة للغاية، هي ان بنود الصرف في الميزانية اكبر بكثير من بنود الدخل في ميزانية الدولة، الامر الذي ينتج عنه عجز مالي. وينضم الى هذا الوضع ايضا الحرب مع الفلسطينيين. لكن المشكلة الاساسية تبقى في العجز المالي".

وهل يأتي الحل عن طريق وضع خطة اقتصادية كهذه؟

"السؤال هو كيف يتم تمويل العجز المالي؟ بالامكان التوجه الى الجمهور والاقتراض منه مع الالتزام باعادة القرض اليه. هذا الحل ينطوي على خطورة كبيرة، اذ ان المستقبل من الناحية الاقتصادية مرهون، بمعنى انه يتوجب على احد ما تسديد القرض في المستقبل، والسؤال هو من اين؟ وينجم عن ذلك تشكيل خطر بحدوث تضخم مالي في المستقبل. ويتوجب التنويه هنا الى ان اسواق المال، وهي اسواق ذكية للغاية، تعرف هذا الامر. هنا تدخل الدولة في عملية خطيرة للغاية من ناحية قدرتها على التسديد. وسوف يهرب المستثمرون في هذه الحال من العملة المحلية الى العملة الاجنبية، مما يؤدي الى حدوث ركود اقتصادي لا يمكن السيطرة عليه وبالتالي الى انهيار كامل للنظام المالي، مثلما حصل في روسيا وفي الشرق الاقصى. لذلك لا خيار سوى بانتهاج هذه الخطة الاقتصادية".

تم تبني هذه الخطة ايضا بسبب ضغوطات شركات تدريج الاعتماد العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

"نعم، ولكن هذا ليس بالامر المهم. فكل هذه المؤسسات، وخصوصا شركات تدريج الاعتماد العالمية، هي بمثابة مقياس لدرجة الحرارة وتشير الى رد الفعل بصورة موضوعية، ولذلك ترى ان رد الفعل ياتي من جميعها في الان ذاته. ولكن المشكلة الان لا تكمن في الضغوطات التي تمارسها هذه المؤسسات وانما في الازمة التي تعاني منها الدولة اي ان المشكلة تكمن في وجود الازمة المالية نفسها".


اليس السبب في هذه الازمة نابع من الوضع الامني السائد في المنطقة؟

"الوضع الامني اسهم بشكل كبير في وجود الازمة الاقتصادية، لكن رغم ذلك هناك امور جرت في الآن ذاته. الاقتصاد الاسرائيلي تعرض لضربتين في وقت واحد: الاولى كانت الازمة العالمية في فرع الصناعات الدقيقة (الهاي-تك") وهي ازمة صعبة جدا. والثانية، الحرب مع الفلسطينيين".

لكن كافة موارد الدولة تم رصدها للجانب الامني؟

"لا. لم يتم رصد موارد كثيرة للجانب الامني. وبمفاهيم معينة هذه حرب غير مكلفة، ورغم ان قولا كهذا هو امر فظيع، لكن هذه هي الحقيقة قياسا مع حروب سابقة تم خلالها استخدام طائرات ودبابات وغيرها. الا ان الضرر اللاحق بالاقتصاد الاسرائيلي بالغ من ناحية عرقلة النشاط التجاري، وخصوصا فرع السياحة. الضرر هنا جدي الى ابعد حد. لقد تحدثت عن عاملين تسببا بالازمة الاقتصادية، ويتوجب الاشارة الى ان الازمة العالمية الحاصلة في مجال الصناعات التكنولوجية الدقيقة والتي تأثرت اسرائيل بها لم تكن بمسؤوليتنا، اما الحرب مع الفلسطينيين فالمسؤولية هنا على عاتقنا بكل تاكيد".

صناديق التقاعد غير الحكومية

يقول البروفيسور بن طال ان الازمة الحاصلة في صناديق التقاعد التابعة للهستدروت "هي مشكلة معقدة جدا، والامر الواضح ان كافة الحلول التي تم طرحها لم تكن نتيجة تحليل عميق للوضع. والحقيقة الساطعة هنا ان المستخدمين الذين اعتقدوا أعضاء في هذه الصناديق وبان دخلهم لدى بلوغهم سن الشيخوخة مضمون، تبين فجأة ان دخلهم هذا غير مضمون البتة. فقد اختفت الاموال من هذه الصناديق بطريقة ما. وهناك عدة اسباب لحدوث ذلك، بعضه يشير الى سرقات وبعضها الى سوء ادارة، لكن كلا الامرين سيان. الاساس هنا خطأ. فلا يجوز ان يقوم العضو بايداع 100 شيكل وبالمقابل يعد الصندوق بدفع 200 شيكل، وذلك في الوقت الذي يملك الصندوق اية اداة بانتاج الـ 200 شيكل. لقد جرى في هذا المجال تشويهات في كل ما يتعلق بادارة هذه الصناديق منذ بدء العمل فيها. وقد زاد الطين بلة هنا ان معدل حياة الفرد في اسرائيل قد ارتفع واصبح على هذه الصناديق ان تدفع مبالغ اكبر. هذا الوضع ادى الى ان تسيطر الدولة على هذه الصناديق، الواقعة في عجز مالي مزمن، وتحمل مسؤوليتها تجاه المؤمنين فيها. وبدون ذلك لا يمكن الوفاء بالالتزامات".

الادعاء هو ان سعي الحكومة للسيطرة على صناديق التقاعد ليس سوى محاولة للقضاء على الهستدروت كمنظمة عمالية قوية. ما مدى صحة ذلك؟

"اذا كانت النتيجة من عملية السيطرة على صناديق التقاعد الهستدروتية إضعاف الهستدروت فهذا يعني ان هناك من يدفع ثمن الاخطاء التي ارتكبت، رغم انني اعتقد بأن هناك اهمية لوجود هستدروت قوية، لكن لا مناص. وانا غير واثق من ان اضعاف الهستدروت هو امر مقصود".

في نهاية المطاف من يدفع الثمن هو المواطن البسيط؟

"لست واثقا من ذلك، لأنه سيتم تعويض المتقاعدين فهذه هي الفكرة من وراء السيطرة على هذه الصناديق".

كيف ستؤثر الخطة الاقتصادية على العرب في اسرائيل؟

"المشكلة هنا لا تتعلق فقط بالأزمة الاقتصادية التي نحن بصدد الحديث عنها. المشكلة هنا أعمق ومن الواضح تماما انه عندما يجري الحديث عن المساواة بالفرص، وان دور الدولة ضمان ذلك، فانني اعتقد ان دولة اسرائيل ليست متميزة في هذه الناحية. هذه هي المشكلة الرئيسية كما اراها في تعامل الدولة مع مواطنيها العرب. ولذلك فان على الدولة ان تقوم بتعويض هذه الاقلية العربية. وأرى ان المس بالعرب مضاعف، مرة بسبب سحب دعم الدولة لمواطنيها نتيجة اقرار الخطة الاقتصادية، ومرة ثانية بسبب عدم المساواة في الفرص".

ما اهمية المساعدات الامريكية في ظل هذا الوضع؟

"لست واثقا من مدى اهمية هذه المساعدات. فهي رمز اكثر منها شيء حقيقي. وكل الحكاية هنا ان الحكومة تخاطب الاسواق العالمية وتقول لها: انظروا، نحن لسنا في ضائقة كبيرة لأننا اذا فشلنا اقتصاديا فان العم الامريكي سوف ينقذنا. ولكن في الوقت نفسه فان العاملين في الاسواق العالية ليسوا أغبياء، وهم يعرفون ان المساعدات الامريكية مشروطة باستعداد دولة اسرائيل للسير قليلا فوق المسار السياسي الذي يريده الامريكان".

وما هي توقعاتك للمستقبل؟

"من الصعب التكهن بذلك. ولكن حالة الحرب ورصد الموارد للجانب الامني هو عامل بالغ الاهمية واذا تغير شيء في الاجواء الاقتصادية في دولة اسرائيل فانه سيجلب معه جزءا كبيرا من الحل بصورة فورية. واذا ما تم ذلك سيكون بالمكان العودة الى كرم اكبر من جانب الدولة تجاه القسم الضعيف من السكان وفي كافة المجالات"..

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات