المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

سأل مقدم النشرة الإخبارية المركزية لقناة "آي تي في" البريطانية مراسلة القناة المتواجدة في مستوطنات غزة يوم 17/8: كيف استطعتم تصوير هذه التفاصيل الدقيقة للإخلاء؟ هل توافقينني على أن إسرائيل تريد عرض ما يحدث إلى العالم.؟ فرّدت عليه المراسلة: "لا أحد يمنعنا من التصوير، ويبدو لي أن الجيش الإسرائيلي معنيٌ فعلاً"... وهذه ليست مفاجأة، فعندما أعلن الجيش الإسرائيلي عن أنّ قطاع غزة "منطقة عسكرية مغلقة"، شدّد المسؤولون وبحرص على السماح بدخول الصحفيين، ما هو ليس مسبوقًا خاصة في المناطق العسكرية المغلقة.

إن السماح لعشرات ناقلات البث من كل قطر في العالم لتغطية "إخلاء المستوطنات" هو استراتيجية مفادها تحويل المادة الإعلامية المصورة اليوم إلى "أرشيف سياسي ثمين" مقابل تصاعد المطالبة العالمية بعدم التوقف عند الانسحاب من غزة مستقبلاً (في حال المطالبة أصلاً).

تمامًا مثلما شدّد المحرّرون الإسرائيليون على عرض فيديوهات قديمة لإخلاء مستوطنة "يميت" من سيناء اثناء تداول قانون "إخلاء المستوطنات" في الكنيست كضرورة للتعبير عن "صعوبة وعناء" الجيش الإسرائيلي والمستوطنين على حد سواء في ترجمة هذه الخطوة على أرض الواقع.

للإعلام المحلي الإسرائيلي الدور الرئيسي طبعًا. فهذه "البكائيات" المعروضة على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف اليومية والتي ترافقها موسيقى شرقية حزينة (فجأة شرقية!)، يغيب منها طابع "الخلفية" المهنية. فلم يرافق "مصنع التقارير الحزينة" أي تفاصيل عن قديم هذه المستوطنات إلا في بعض "مقالات الرأي" التي لا تعبر إلا عن رأي كتابها. فأين اختفت التفاصيل الواقعية منها والتقنية؟ ولماذا لا يذكر هؤلاء أن مساحة المستوطنات تقع على ثلث مساحة غزة المحتلة؟ لماذا لا ينقل هؤلاء أن المستوطنين يستولون على 25 في المائة من مجموع مصادر المياه لقطاع غزة؟ أين اختفت تكلفة حراستهم وتنظيف حدائقهم على يد عمال أجانب من تايلندا؟ أليس هذا هو جزء من الإخلاء؟ ولماذا اختفت فجأة قضية التعويضات الهائلة التي نالها هؤلاء؟ لا بل والأنكى أن الإعلام يلاحقهم الى الفنادق التي انتقلوا اليها وينشر "تحقيقات" مفادها بأن في فندق "غصن الزيتون" (خمس نجوم) في القدس الذي انتقل اليه بعض المستوطنين تنقصه حفاظات لأطفال المستوطنين (القناة الثانية يوم 18/8). ويرافق التقرير طبعًا موسيقى شرقية حزينة.

لا يهم اليوم ما إذا كانت دموع المستوطنين المنهمرة على أطلال ليست لهم، هي دموع تماسيح أم لا كما لا يهم تعاملهم مع الجنود. فلا ثمن للنقاش أصلاً في الوقت الذي تنقل هذه الدموع ليس فقط لتحتل القنوات الإسرائيلية انما العالمية أيضًا. فمثلاً صحيفتا "الجارديان" و"الاندبندنت" البريطانيتان "اليساريتان" والمهتمتان بشؤون الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، نشرتا في يومي 19-20/8 على الصفحة الأولى صورًا لأطفال المستوطنين يبكون على بيتهم المهدوم (الذي هدم على يد أهاليهم). كان التقرير إسرائيليًا بموجزه وسياقه ويعرض "معاناة" هؤلاء بترك بيوتهم، لإثبات مقولة "التنازلات المؤلمة" التي "ضحى" بها شارون على أبواب غزة. مخرجين المادة الإعلامية من سياقها التاريخي لتكون هدية لرئيس الوزراء في المملكة المتحدة الحليف المستقبلي المهم. وسبق أن كتبت "الجارديان" في كلمة التحرير يوم 13/8 بأن على كل العالم دعم شارون "لاجتياز هذه المرحلة الصعبة". مقالات ما هي إلا هدية لشارون متناسين القانون الدولي الذي يحظر الاستيطان مع توقيع بريطاني أيضًا.

في حال طرق الباب القانوني للقضية، فهل يسمح القانون الذي اتخذ في الكنيست للمجندين بالبكاء مع المستوطنين والتحدث إلى الإعلام بأن هذه المهمة صعبة وهم ينفذونها رغمًا عنهم؟ اليست هذه خيانة للقانون؟ أم أنّ المؤسسة الإسرائيلية معنية بإظهار "مطاطية القانون" ودموع هؤلاء الجنود مستغلين الإعلام لاظهار الجندي الإسرائيلي بصورته الحنونة وليست صورة القامع المحتل. أين القناصون الذين ظهروا في تحقيق "يديعوت أحرونوت" قبل عام وتحدث أحدهم بانه يشعر "بالذروة" عند قتل الفلسطيني؟ اليس هو من نفس الجيش الأخلاقي؟ واين الجنود الذين تصوروا بجانب جثث الفلسطينيين؟ فجأة كلهم حنائن مجردون من السلاح وبخدمة الإعلام!

ما ينقله الإعلام اليوم لا يعبر إلا عن صورة قاتمة وموحشة تختزل معاناة شعب على هذه الأرض. تمامًا كما كانت هذه الخطة "أحادية الجانب" رافقها الإعلام بتغطية "أحادية الجانب".

فحين نجتث القضية من سياقها نستطيع منحها المعنى الذي نريد في الوقت الذي نريد ونوظفها في خدمة من نريد. خاصة في ظل غياب إعلام عربي موضوعي وحقيقي يخدم القضية الفلسطينية كما يخدم الإعلام العبري قضيته التي يراها.

يقولون اليوم وسيؤكدون بعد عام في ظل غياب سياسة أميركية- عالمية "ضاغطة" بعد إخلاء غزة: اذا كان إخلاء 1600 عائلة بهذه الصعوبة والألم، كيف سنخلي 250 ألف مستوطن واكثر بكثير من الضفة الغربية؟ نحن لا نستطيع، وعلى الفلسطينيين ألا يعيشوا حلم الماضي تمامًا مثلما لم نعشه نحن وتنازلنا عن أرض "إسرائيل الكاملة"... فقط في إسرائيل وإعلام اليوم "إنهاء الاحتلال" يعني تنازلاً.

المصطلحات المستخدمة:

يميت, الكنيست, يديعوت أحرونوت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات