كتب حلمي موسى:
تعيش إسرائيل أكثر الأوضاع غرابة. فمنذ شهور طويلة وحكومة شارون تعيش على الوقت الضائع. فهي حكومة يمينية بامتياز ولكنها مضطرة لأن تبقى اعتماداً على دعم "اليسار" لها أو على الأقل جراء عجز هذا اليسار عن تشكيل بديل حقيقي لها. وهي حكومة لا يرغب فيها اليمين في البقاء وحده لأنه أعجز من أن يفلح في مواجهتها بهذه التشكيلة. ومع ذلك فإن هذا اليمين يريد بقاء "اليسار" خارج الحكومة وأن يفسح له المجال لفعل كل ما يريد.
وهكذا، ومنذ اللحظة الأولى التي أطلق فيها أريئيل شارون بوادر خطته للفصل قبل حوالى عام، بدا واضحاً أنه يسعى لضرب خصومه داخل الليكود بأنصاره في الشارع وفي الإدارة الأميركية. وعمد طوال الوقت الى المناورة بين الطرفين مدركاً أنه بحاجة إلى تأييد الشارع كما يتبدى في استطلاعات الرأي وتأييد الإدارة الأميركية من أجل البقاء في اللعبة السياسية الدولية، وبحاجة الى حزبه من أجل البقاء في الحكم. والواقع أن حزبه ناور معه مطولاً من أجل إطالة اللعبة من ناحية والحيلولة دون تقريبها من لحظة التنفيذ. وهكذا رأينا كيف أن الليكود جعل حياة شارون عسيرة، الأمر الذي أكسبه المزيد من التعاطف الشعبي الإسرائيلي والرسمي الأميركي.
بل ان هذا التعاطف من ناحية والخصومة من ناحية أخرى دفعا العديد من القوى الدولية والعربية الى تفهم العقبات التي تعترض شارون والى تشجيعه على "البطولة" التي يبديها تجاه معارضيه في الليكود واليمين. ولكن ورغم انضمام قادة عرب الى تطهير نوايا شارون والإشادة بقدراته، فإن الحلبة السياسية الإسرائيلية تزداد قناعة بأن شارون لا ينوي تنفيذ خطة الفصل، وأنه في أفضل الأحوال سيعجز عن تنفيذها. ولاحظ معلقون إسرائيليون أن موقف شارون من بقاء شينوي في الحكومة يعني عمليا تخليه المستتر عن خطة الفصل، أو على الأقل رغبته في وضعها أمام اختبار آخر قد لا يقل عن انتخابات مبكرة.
وفي كل الأحوال فإن القضايا السياسية في إسرائيل كانت على الدوام تعبيراً عن قضايا داخلية، لدرجة أن هنري كيسنجر أوضح ذات مرة أنه لا وجود في إسرائيل لسياسة خارجية. وهذا ما يتبدى اليوم أكثر من أي وقت مضى في الطريقة والأجواء التي يدير فيها شارون سياسته. صحيح أنه يقود الحزب الأكبر في إسرائيل الذي يسيطر وحده على ثلث مقاعد البرلمان، وأن لديه "ائتلافاً طبيعياً" من القريبين من الليكود في شينوي واليمين، ولكنه يقود اليوم حكومة أقلية. بل ان هذه هي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تقود فيها الدولة حكومة أقلية مشكلة من حزب واحد فقط.
غير أن الأهم هو أن هذا الحزب هو الأشد انقساماً على ذاته حتى من الحلبة السياسية عموما. فالمتمردون على شارون، خصوصا بعد عرضه لخطة الفصل، يعتبرونه خائناً لقضية أرض إسرائيل وإيديولوجيا اليمين. والأهم أيضا أنهم يرون فيه السياسي الأكثر حماقة الذي يخرج عن "إرادة الشعب" والذي منح اليمين الأغلبية ويريد أن ينفذ سياسة الطرف الخاسر في الانتخابات.
ورغم أن شارون مشهور في الحلبة الداخلية الإسرائيلية بقدرته على إدارة المعارك التكتيكية، فإن كثيرين يرون أن معركته للبقاء هذه المرة ستكون خاسرة. فحزب العمل يعاني من مشكلات داخلية شديدة، وهو إن دخل الحكومة قد ينقسم على نفسه قريبا. وهكذا إذا أفلح شارون في تجاوز عقبة الاتفاق مع العمل فسوف يواجه عقبة الليكود ذاته. وإن نجح في تجاوز عقبة الليكود فسوف يضطر لمواجهة الهزات الارتدادية الناجمة عن تشكيل حكومة جديدة "ترمي الى تنفيذ خطة الفصل". ومنذ الآن يرى المعلقون الإسرائيليون ان استبعاد شينوي من الحكومة يعني إضعاف مؤيدي الخطة فيها وذلك لأن الحزبين الحريديين، يهدوت هتوراه وشاس، يعارضان في الجوهر خطة الفصل. كما أن وجودهما في الحكومة يعزز المعارضة الليكودية للخطة ولا يضعفها.
وهكذا يمكن القول إن خطة الفصل تغدو بتغيير الحكومة، وحتى بدخول حزب العمل إليها، أقل احتمالا للتنفيذ. ولكن هذا الاحتمال يتدنى الى حدود التلاشي إن ظهرت أي خلافات داخل الحكومة حول الميزانية. ويشير بعض المعلقين الإسرائيليين إلى أن حزب العمل ويهدوت هتوراه وشاس تطالب بتعديل هيكل الميزانية العامة. وقد أعلن وزير المالية بنيامين نتنياهو أنه لن يقبل أي تعديل كهذا. وفي هذه الحالة فإن كل حديث عن حكومة يغدو عديم المعنى.
إن حكومة إسرائيلية تحوي هذا القدر من التناقض في المواقف بين الجهات المشكلة لها هي حكومة عاجزة عن تمرير قرار الفصل المتوقع اتخاذه في آذار المقبل، وفق الخطة الأصلية. ومع ذلك من الجائز أن التغييرات التي طرأت على القيادة الفلسطينية جراء رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والدفء المستجد في العلاقة الإسرائيلية المصرية قد تؤثر على تحويل خطة الفصل الى اتفاق ثنائي. ولكن المراهنة على أمر كهذا تبقى مراهنة، إذ أنه ورغم أن للاتفاق مؤيديه داخل شاس مثلاً، إلا أن ذلك سيزيد المعارضة في الليكود وفي صفوف اليمين.
وأياً يكن الحال، فإن الأمور تبدو وكأن شارون وضع الليكود في فخ الانتخابات أو تأييد حكومة الوحدة. ولكن هذا الفخ لا يبشر بخير. فليس هناك بديل للخط اليميني في إسرائيل سوى خط أكثر تشددا منه. الأمر الذي يعني أن الانتخابات لن تقود الى تغيير. وعدا ذلك فإن تشكيل حكومة وحدة لن يسهم في تسريع الخطوات أو تغيير الوجهة، إذ سيبقى الليكود هو البوصلة التي توجه الحكومة، وهذا أيضا لا يبشر بأي تغيير.