المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب محمد هواش:

التدهور الأمني في بعض المناطق (اقتحام مخيم عسكر وقتل اربعة فلسطينيين، والصاروخ على المستوطنة في غزة) أبقى على الأسئلة المفتوحة ذاتها من قبل تطورات الأيام الأخيرة، وبرأسها: لماذا انصب جهد فلسطيني مفاجئ على تثبيت اسس الهدنة؟ ولماذا توجه رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس "ابو مازن" إلى غزة بعد عودته من واشنطن ولقائه اركان الادارة الاميركية للقاء القوى السياسية بما في ذلك قوى المعارضة؟

من نافل القول ان الهدنة التي اعلنتها الفصائل الوطنية والاسلامية الفلسطينية لم تنطلق من موقع الضعف كما يُظن، بل ربما توجه الفلسطينيون من موقع قوة سياسي إلى اعلان هدنة، فيما كان هناك سباق بين نشر "خريطة الطريق" وتزايد قوة المواجهة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي: الفلسطينيون بتوجيه عملياتهم العسكرية إلى البنية الاستيطانية والى الوجود العسكري الاحتلالي والى المدن كلما تمادت اسرائيل في استباحتها وافراغ الضربة العسكرية الاسرائيلية من محتواها، وتجريدها من عناصر التفوق عن طريق مقاومتها وعدم رفع الراية البيضاء على كل المستويات الشعبية والرسمية، والاسرائيليون بتهديدهم باجتياح غزة وفرض تسوية على الفلسطينيين خالية من برنامج الاجماع الوطني وتجريد الفلسطينيين من مواقفهم الوطنية التي ظهرت في كمب ديفيد.

لكن نشر "خريطة الطريق" الذي اعقب تعيين عباس رئيسا للوزراء ومنحه ثقة المؤسسة التشريعية، كان اولى ثمرات الانتفاضة التي لم يحل دونها سعي اسرائيل للحؤول دون نشر الخريطة وتطبيقها بعد نشرها ودون تنفيذ التزاماتها بالقاء اللوم على الفلسطينيين في تعطيل تنفيذ الخريطة حتى اليوم، رغم اعلانات واشنطن المتكررة تصميمها على تنفيذ الخريطة باعتبارها خطة لانهاء النزاع الفلسطيني- الاسرائيلي. ولكن يجدر القول ان نشر الخريطة من دون استحقاقاتها السياسية لا يمثل الا رأس الجبل من لعبة اكثر تعقيداً مما يظن ومما يمكن رؤيته.

فاذا كان عباس يفتقد كاريزما الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وقوته وخبرته، فإنه لايقل عنه خبرة في مجال العمل الديبلوماسي. فقد تمكن بدعم عرفات بعد الهدنة وبفضلها باعتبارها فعلا سياسياً فلسطينيا لا يقل عن افعال الحرب وفصولها، من تصفية المكانة المنفردة التي حظي بها رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون في البيت الابيض، وجعل جدار الفصل العنصري شوكة مزعجة بين واشنطن وتل ابيب، أي بين الرئيس الاميركي جورج بوش وشارون. وإلى ذلك من ترجم الفعل الفلسطيني الذي يقوده عرفات بامانة كي لا تضيع التضحيات سدى، وكي لا تصب افعال "الاصلاح" تحت ضغوط خارجية ووطنية ومحلية خارج اطار حركة "فتح"، التي تتمسك ببرنامج تسوية يحظى باجماع وطني.

ولا يمكن الا من فقد البصر وربما البصيرة أن لا يرى ما يشبه الحلف بين عرفات واقطاب المعارضة الفلسطينية في الميدان الحقيقي للصراع، الامر الذي يوجه حركة عباس ويرشد ديبلوماسيته بانسجام كبير بين افعال الصمود أمام ضغط الالة العسكرية الاسرائيلية والصمود امام ضغط الالة الديبلوماسية الاميركية التي شكلت غطاء لعدوان اسرائيل.

ولكن المعركة السياسية اليوم تتركز على ما هو خارج "خريطة الطريق": الاسرى وجدار الفصل، فيما خسرت اسرائيل فكرة فرض جدول اعمال مواجهة فلسطينية داخلية وشطب هذا البند من المطالبات الاميركية بدبلوماسية فلسطينية فائقة الكفاءة، عكس ما يقال ويُدَسّ ويشوش على اداء الفلسطينيين خلال الانتفاضة وبعدها.

والهدنة تصمد اليوم لأن مكاسبها بدأت تظهر عبر تأييد غالبية 75 في المئة من الفلسطينيين، وعبر المظاهر الملموسة لعودة الحياة إلى طبيعتها على نحو تدريجي في بعض المدن الفلسطينية وفي المركزين السياسيين للسلطة الفلسطينية في رام الله وغزة وفي رسم المسار السياسي لتطور الحركة السياسية الفلسطينية، بقضم منجزات اسرائيل واحتكارها لتقدير الخطوات الفلسطينية ازاء تطبيق "خريطة الطريق".

والهدنة تعطي اسرائيل فرصة لفرض الامر الواقع من طريق زيادة وتيرة الاستيطان والتعجيل في بناء جدار الفصل ومواصلة الاعتقالات مع الافراج عن فلسطينيين لم تتجاوز نسبتهم عِشر الاسرى.

فاذا كانت الاجتهادات السياسية تعطي الاسرائيليين اسبقية في الاستفادة من الهدنة فان هذا تقدير لم يبرهن الواقع صحته بدليل أن الفصائل الوطنية والاسلامية كلها ترى في الهدنة مصلحة فلسطينية. وقد تعزز هذا الاتجاه بعد لقاء عباس وزعماء الفصائل في غزة بعد عودته من واشنطن.

بدأت نقطة الابتعاد التي صنعها الفلسطينيون بين شارون وبوش بوصف الجدار انه "افعى تتلوى في الاراضي الفلسطينية" إلى انه يشكل "عقبة" امام "خريطة الطريق" إلى أن "من حق اسرائيل أن تبني جدارا ولكن على اراضيها" كما صرح وزير الخارجية الاميركي كولن باول. لكن التهديد الاميركي بحسم تكلفة اقامة الجدار من الضمانات الاميركية لا يزال مطروحا على الطاولة، في مقابل تهديد شارون باقامة الجدار في مستوطنة اريئيل على مسافة 20 كيلومتراً داخل الضفة الغربية اذا تجددت الانتفاضة، أي اذا انهارت الهدنة. فهل يسعى شارون إلى انهيار الهدنة للتخلص من خلافه مع بوش وتحرره من تبعات ضم اكثر من نصف اراضي الضفة بواسطة جدار الفصل؟ نعم. وهل يسعى عباس لتطويق هذا الاتجاه لدحره وتوسيع الفجوة بين بوش وشارون معتمداً تركيز العمل على موضوع الجدار، وهو العنصر الحاسم في التسوية على الحدود؟ الجواب نعم. وهذا هو الجهد الفلسطيني الجديد لتقوية الهدنة وتجديدها.

المصطلحات المستخدمة:

اريئيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات