المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب محمد دراغمة:

ما أن أُعلن عن سقوط الهدنة رسمياً باغتيال المهندس إسماعيل أبو شنب في العشرين من آب، حتى لاح البديل في الأفق: وقف إطلاق نار بين الجانبين. لكن السؤال هو: هل تقبل كل الأطراف بهذا الاقتراح؟ وإن قبلت: هل تصمد خطوةٌ مثل هذه مدةً أطول من تلك التي صمدت فيها الهدنة؟

لقد شعر كثيرون من الفلسطينيين والإسرائيليين بالخسارة الجسمية التي شكلها سقوط الهدنة، وربما كان يوسي سريد زعيم حركة "ميرتس" الأبلغ تعبيراً عن هذه الخسارة عندما قال: "الهدنة لم تعجب أحداً سوى كل الشعب الإسرائيلي وكل الشعب الفلسطيني. فقد عاش الشعبان للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات فترة خلت من غالبية، ولا نقل جميع، عناصر الموت الذي يأتي داهماً هكذا دون موعد".

ففي فلسطين غابت لفترة من الوقت خلال هذه الهدنة، وليس طيلة كامل فترتها البالغة 51 يوماً بالتمام، مشاهد الجنازات الجماعية، وعمليات الحصد البشري التي كانت تُسقط في كل جولة لأدواتها من دبابات وبلدوزرات ومروحيات عسكرية ما لا يقل عن رقم من خانتين، وخفت القيود على الحواجز، وانتعشت الآمال، ليس بحل حاسم لقضية على هذا القدر من التعقيد، بل بعودة إلى مرحلة أسماها البعض: استراحة المحارب، وأسماها آخرون أشياء أخرى..

وفي إسرائيل اكتشف الجمهور المستنفر تحت شعارات قومية خادعة من قبل: استكمال حرب التحرير، والدفاع عن تل أبيب وحيفا، والحرب على الإرهاب وغيرها، اكتشف للمرة الأولى طعم الحياة الآمنة المطمئنة، فانطلق إلى الحافلات والمطاعم ومراكز التسوق، وانطلقت معه مشاعر التحرر من الوهم، وهو ما بدا بوضوح في نتائج قياسات الرأي العام التي أخذت تتجه في منحى جديد للمرة الأولى منذ تفجر الصراع قبل ثلاث سنوات.

لكن الهدنة التي قامت على ساق واحدة، وليس ساقين كما يفترض بأي كائن سليم، سارت في طريقها إلى نهايتها الحتمية، فانهارت رويداً رويدا تحت جنازير دبابات شارون وموفاز التي واصلت استباحة المدن بحثاً عن مطلوبين لقتلهم، إن هم رفضوا الاستسلام غير المشروط، وما تبعها من ردود فعل فلسطينية وصلت حتى تفجير حافلة إسرائيلية تعج بالمدنيين من نساء وأطفال ومتعبدين في القدس، فقط يومين قبل أن تسقط بشهادة وفاة رسمية في عملية اغتيال المهندس إسماعيل أبو شنب أحد ابرز قادة حماس والعمل الوطني في غزة.

وأوجد سقوط الهدنة حالة من الفراغ السياسي بدت مرشحة لأن يملأها العنف المنفلت وحدة، وهو ما حدا بجهات عديدة للتحرك، منها الإدارة الأمريكية والحكومة المصرية، في محاولة لملء هذا الفراغ بإيجاد بديل عملي أكثر للهدنة المنتهية.

وقد تمحورت الاقتراحات المقدمة من مختلف الأطراف حول مشروع وقف شامل لإطلاق النار بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يعقبه استكمال المفاوضات بشأن تطبيق خارطة الطريق.

لكن هذا الاقتراح الذي تبنته السلطة الفلسطينية عنواناً لحركتها السياسية في المرحلة المقبلة يواجه عقبات عديدة وكبيرة.

فعلى المستوى الفلسطيني تصر حركة حماس على الثأر أولاً لاغتيال المهندس إسماعيل أبو شنب قبل الحديث عن أية هدنة جديدة.

لكن هذه العقبة تبدو سهلة إذا ما قورنت بالعقبات الظاهرة في الجانب الإسرائيلي.

فالمتفحص لما بين سطور التصريحات التي يطلقها قادة الحركة يلمس استعداداً لديها للعودة للهدنة أو لوقف إطلاق النار، ولكن بشروط عادلة هذه المرة، في مقدمتها توقف إسرائيل عن عملياتها العدائية في الأراضي الفلسطينية من اجتياح واغتيال وتدمير بيوت وغيرها.

فالعوامل التي دفعت حركتي حماس والجهاد الإسلامي لقبول الهدنة المشروطة في التاسع والعشرين من حزيران الماضي ما زالت قائمة، إن لم تزِد، وهو سبب كاف لإيجاد الأرضية المناسبة لدخول الحركتين في وقف إطلاق نار جديد أو مجدد.

أما في الجانب الإسرائيلي فإن العقبات تبدو أكثر تعقيداً، مهددة بتجدد الانفجار مع حلول الذكرى الثالثة لاندلاعه في الثامن والعشرين من أيلول القادم.

فقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي اقتراح وقف إطلاق النار جملة وتفصيلاً، مُصراً على مطالبة السلطة الفلسطينية بالشروع في ما يسميه: "تفكيك البنية التحتية للمنظمات الارهابية".

ويبدو شرط شارون هذا وصفة جاهزة للفشل على ضوء الثمن البخس الذي يقدمه للفلسطينيين مقابل تجريد الفصائل من السلاح.

فخطوة من قبيل تجريد الفصائل من السلاح هي أقصر طريق لإشعال حرب أهلية فلسطينية، ربما يقبل بها فلسطينيون فقط في حالة واحدة هي: إذا كان الثمن المقدم لهم من قبيل: دولة فلسطينية مستقلة على كامل الأرض المحتلة عام 67 وحلاً مقبولاً لقضايا اللاجئين والمياه والحدود..

أما حل من قبيل الانسحاب من قلقيلية مع إبقاء الحاجز العسكري على مدخلها الوحيد المتبقي بعد بناء الجدار الفاصل حولها، فهو حل لا يجد بين الفلسطينيين واحدا مستعدا لقبوله، فما بالك بدفع ثمن، وأي ثمن، مقابله؟

وأمام ذلك، فإن الفراغ الناشئ بسقوط الهدنة سيظل مفتوحاً بانتظار من يملأه، فإن لم يكن طرف خارجي بقوة وتأثير الولايات المتحدة، فإنه حتماً سيكون موجه عنف أخرى، وربما أكثر دموية من سابقاتها..

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات