صدر حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" كتاب استِدارَة "المُستَوطَنة" مِن تِلال الضفّة إلى مُدن السّاحل - حالة "الأنوية التوراتية"، للأكاديمي والباحث في القانون والجغرافيا والتاريخ القانوني لفلسطين د. أحمد أمارة. يقدم الكتاب، الواقع في 270 صفحة، تحليلاً لنشأة "الأنوية التوراتية" وتطورها وتحولاتها وأنماط عملها، مع التركيز على نشاطها في المدن الساحلية "المختلطة" مثل: عكا، حيفا، يافا، اللد، والرملة، إذ تسعى إلى تهويد المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية العالية باستخدام إستراتيجيات قانونية، وديموغرافية، ومكانية.
ويتناول الكتاب تداعيات انتشار هذه الأنوية التوراتية على الفلسطينيين في المدن الساحلية، حيث تعمل على إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي بما يعزز الأهداف الاستيطانية. كما تنشط هذه الأنوية في المدن الإسرائيلية الطرفية التي يقطنها إسرائيليون علمانيون أو يهود شرقيون، كما يناقش التوترات الناشئة بين اليهود العلمانيين وهذه الأنوية في مدن إسرائيلية مختلفة، مسلطاً الضوء على الصراعات الاجتماعية والثقافية التي تثيرها هذه الظاهرة في السياق الإسرائيلي الأوسع.
ويبيّن الكتاب سياق انتقال الصهيونية الدينية من التركيز على "استيطان التلال" إلى ما سمّته "استيطان قلوب" المجتمع الإسرائيلي العلماني، الذي وصفته بـ"المضلل"، بعد صدمة الانسحاب من غزة العام 2005. عَكَس هذا التحول الإستراتيجي إعادة توجيه أيديولوجية الحركة، إذ أصبحت ترى في تعزيز القيم الدينية والقومية داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه أولوية لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض.
كما يبين الكتاب أن هذا التحول جاء أيضاً كرد فعل على التغيرات الديموغرافية والثقافية داخل إسرائيل. فقد تعمق الانقسام بين القيم الليبرالية التي يعتنقها العلمانيون، والقيم القومية والدينية للصهيونية الدينية. بهذا المعنى، أصبح "استيطان القلوب" أداة لاختراق المجتمع الإسرائيلي وضمان عدم تكرار سيناريو غزة، حيث لم يعد الاستيطان مجرد هدف بحدّ ذاته، بل وسيلة لتعزيز النفوذ الأيديولوجي داخل المجتمع.
يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام. يتناول القسم الأول السياق التاريخي لصعود اليمين الإسرائيلي وتأثير مشروع الأنوية التوراتية في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل ويضم فصلَين. يناقش الفصل الأول تطور الصهيونية الدينية كأحد أعمدة اليمين الجديد، متتبعاً جذورها من بدايات الصهيونية وتوظيف الدين كأداة سياسية لتحقيق أهداف استيطانية.
في الفصل الثاني، يستعرض الكتاب الأنوية التوراتية كمؤسسات أيديولوجية واستيطانية، ودورها في إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والديموغرافي، سواء في الضفة الغربية أو المدن الساحلية داخل "الخط الأخضر". يركز القسم على الأطر التنظيمية والقانونية التي مكّنت هذه الأنوية من تنفيذ أجنداتها، ويكشف تداخلها مع سياسات الدولة واليمين الديني في تعزيز الهيمنة الإسرائيلية.
يركز القسم الثاني من الكتاب على ديناميات الاستيطان والأطر القانونية والسياسية والتاريخية التي تدعم المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي، خاصة في المدن الساحلية، ويضم ثلاثة فصول. الفصل الثالث بعنوان الاستعمار الاستيطاني والجغرافية القانونية، ويتناول التحولات التي طرأت على هذه الفضاءات، مع تسليط الضوء على الآليات القانونية والجغرافية التي سهّلت إعادة الهيكلة المكانية والديموغرافية للمشروع الصهيوني. الفصل الرابع يناقش النظام القانوني للأراضي في فلسطين، ويتطرق إلى الأدوار المتقاطعة للأيديولوجيا والحكم في إعادة تشكيل المشهد الحضري والريفي، مع التركيز على أدوات قانونية مثل قانون أملاك الغائبين وسياسات التخطيط العمراني التي استُخدمت لتهجير الفلسطينيين وتهويد الفضاء. الفصل الخامس يستعرض الاقتصاد السياسي للاستعمار الاستيطاني، مسلطاً الضوء على تحول المدن الفلسطينية إلى "مدن مختلطة" وتهميش سكانها الأصليين من خلال سياسات التهجير والتغيير الديموغرافي.
يتناول القسم الثالث من الكتاب الأنوية التوراتية في مدن الساحل الفلسطيني، مع التركيز على مدينتَي اللد والرملة في الفصل السادس ومدينة يافا في الفصل السابع، ومدينة عكا في الفصل الثامن، مسلطاً الضوء على التحولات الجغرافية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها هذه المدن نتيجة الاستيطان الإسرائيلي. في اللد والرملة، يستعرض الفصل السادس دور الأنوية التوراتية في تهويد المدينتين من خلال السيطرة على الحيّز المكاني، وإنشاء مشاريع سكنية ودينية وعسكرية موجهة للصهيونية الدينية، واستغلال التهميش الاجتماعي للفلسطينيين. ويربط الفصل ذلك بأحداث "هبّة أيار 2021" التي كشفت عن عمق التوترات العرقية الناتجة عن هذا المشروع الاستيطاني. ينتقل الفصل السابع إلى يافا، موضحاً كيف أصبحت المدينة هدفاً محورياً للاستيطان التوراتي بعد الانسحاب من غزة، حيث تم تأسيس نواة توراتية تضمنت مدارس دينية ومشاريع سكنية استيطانية تحت شعار "الاستيطان في القلوب".
يتناول الفصل الثامن أهمية مدينة عكا كرمز تاريخي وثقافي وسياسي، مُركّزاً على محاولات التهويد المنهجية التي تنفذها السلطات الإسرائيلية عبر سياسات الاستيطان، والتهجير، والسيطرة على الموارد والأوقاف الإسلامية والمسيحية.
أما الفصل التاسع، فيسلط الضوء على الأنوية التوراتية في البلدات اليهودية، كجزء من مشروع صهيوني - ديني لتعزيز السيطرة الديموغرافية والثقافية. يقدم الفصل تحليلاً لدور هذه الأنوية في بلدات مثل كريات شمونة وإيلات، وكيفية استغلالها الدعمَ الحكومي لتحقيق أهداف دينية وسياسية. يناقش الفصل أيضاً محاولات الأنوية اختراق المدن العلمانية مثل تل أبيب، من خلال أساليب تبدو متسامحة لكنها تهدف في النهاية إلى فرض الهيمنة الأيديولوجية.