المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1776
  • شوشانا غباي
  • سعيد عياش

حرب 1967 وانعكاسها على اليهود الشرقيين
كان الوضع الاقتصادي لليهود الشرقيين في البلدان العربية أفضل من المسلمين حولهم بل وأفضل من وضع يهود أوروبا الشرقية، إذ عمل معظمهم في التجارة والصرافة والمهن الحضرية التي تطلبت مستوى عاليا من التعليم والثقافة، وكانوا متحالفين لغرض حماية أنفسهم مع الطبقات صاحبة النفوذ والسلطة في مجتمعات تلك البلدان. هذا يعني أنهم لم يكونوا يشكلون جماهير الشعب كالعمال أو الفلاحين في وطنهم القديم، ولذلك من الصعب التوقع منهم العمل على تطوير وعي بروليتاري هنا في إسرائيل، وأن يثوروا ضد الأغنياء. كذلك فإن إضفاء الطابع البروليتاري على المجتمع الإسرائيلي والهامشي وسياسة التوزيع السكاني التي فرضت عليهم بوحشية في إسرائيل، لم تجعل منهم إشتراكيين.

لقد كان السبيل الممكن أمام اليهود الشرقيين لبلوغ الحركيَّة الاجتماعية في إسرائيل بواسطة الحزب الذي شكل بديلا لاقتصاد المقربين والمحسوبيات المركزي الذي انتهجه حزب "مباي". ولا بد من الإشارة هنا إلى أن نظرة الإعجاب تجاه الرأسمالية الأميركية سادت في صفوف الشرقيين في الوقت الذي كان فيه أشكناز الكيبوتسات يبكون موت ستالين.

في أعقاب حرب "الأيام الستة" (حرب حزيران 1967)، حين تحولت الدولة إلى إمبراطورية يقطنها رعايا جدد، قلصت السلطة سيطرتها على اليهود الشرقيين نظرا لأنها كانت تحتاج لشركاء بغية السيطرة على الفلسطينيين وتوجيه قوة عملهم الرخيصة نحو الانخراط في بناء الإمبراطورية. وقد باشر اليهود الشرقيون فورا بإنشاء مشاريع صغيرة مثل مقاولات البناء والتجارة والمطاعم إلى أن تساوت نسبة المستقلين لدى المجموعتين، الأشكناز والشرقيين، لتبلغ في العام 1983 حوالي 17% - الشرقيون في المشاريع والأعمال الصغيرة والأشكناز في الشركات الكبرى التي أقيمت وعملت في غالبيتها العظمى بتمويل من الدولة. كذلك فإن أكثر من نصف الشبان الشرقيين الذين هاجروا من إسرائيل إلى الولايات المتحدة هم مستقلون وأصحاب أعمال، ويرون فيها (أي الولايات المتحدة) مكانا يمنح قدرا أكبر من المساواة في الفرص مما هي الحال في إسرائيل.

إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحول فيها اليهود الشرقيون إلى رعايا في دور "العامة"، وذلك مقارنة مع يهود شرقيين ناجحين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة العليا والنخب في سائر الدول التي يقيمون فيها: أوروبا الغربية، والأميركيتان الشمالية والجنوبية، غير أنه كان قد ثبت أن الانتماء الإثني إلى مجموعة عرقية لا يشكل، في حد ذاته، ضمانة تكفل في المستقبل، عندما ينتهي التمييز ضدها، توزيع الثروات والخيرات المادية بصورة نزيهة ومتساوية بين أعضاء هذه المجموعة ذاتها. فهذا الأمر لم يحدث في فترة ما بعد نظام التفرقة العنصرية – الأبارتهايد – في جنوب إفريقيا، عندما جرت عملية إعادة توزيع الأراضي، كما أنه لم يحدث في إسرائيل في توزيع الثروات المادية بين اليهود في السنوات الأولى لقيام الدولة، ومن هنا ليس هناك من سبب لنشوء أو تكون وعي بالمساواة والعدالة الإجتماعية في صفوف مجموعة اليهود الشرقيين بالذات.

في صفوف الجاليات اليهودية في شرق أوروبا (وكذلك في صفوف الطوائف والجاليات الأشكنازية) كان ثمة وعي متطور بالعدل والإحسان وليس وعيا بالعدالة الإجتماعية، وذلك على الرغم من وجود طليعة شيوعية بين صفوفها. وقد ظل تأييد الأغنياء قائما لدى اليهود الحريديم، وهو ما يمكن ملاحظته في صفوف أحزاب اليهود الشرقيين (حزب "شاس") والمتدينين الحريديم الأشكناز، التي تتبع سياسة "مطابخ – مطاعم، الفقراء"، كما كان متبعا في الشتات، بينما تؤيد غالبية المصوتين لها النظام الرأسمالي. ولذلك فإن التحالف مع حزب "الليكود" والانخراط في صفوفه في حينه، بغية إختراق طوق "مباي" الخانق، كان اختيارا منطقيا وعقلانيا، ولاحقا أيضا، اختيار بنيامين نتنياهو كمنقذ رأسمالي من أميركا التي يكن لها الشرقيون المودة والإعجاب.

وقد كان الاختيار بين "النيوليبرالية" التي تبناها شمعون بيريس، الذي سعى إلى زيادة ثراء الأشكنازيين القدماء المقربين من الحكم، وبين "النيوليبرالية" المشابهة التي تبناها بنيامين نتنياهو، والذي يمكن لهم عن طريقه، أن يخترقوا جزئيا حصون النخب. ويقول ليئون وكوهين في بحثهما إن النشطاء الشرقيين الذين ناضلوا من أجل قبول مبدأ المريتوقراطيا في حركة "حيروت" كبديل للتمثيل بناء على الأصل الإثني، كما هو مألوف ومتبع في إسرائيل، كانوا النواة التي أنشأت الطبقة المتوسطة الشرقية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي (مريتوقراطيا : طريقة حكم وطريقة إدارة فيها أصحاب مراكز القوى يختارون أو يعيّنون في وظائفهم بناء على قدراتهم).

في مقابل تضييق فجوة المدخولات بين المجموعتين (الشرقية والأشكنازية) منذ التسعينيات، اتسعت الفجوة في اللامساواة العامة في البلاد، وذلك وفقا لما ورد في بحث د. مومي دهان، وهو ما يعني أن ثمة مغادرة جزئية للشرقيين لصفوف الطبقات والشرائح الإجتماعية الفقيرة أو الدنيا، ودخول إليها من جانب المهاجرين الأثيوبيين والروس والمواطنين العرب في إسرائيل. أي أن هناك لدى أغلبية الشرقيين تطلعات واضحة للوصول إلى صفوف طبقة متوسطة تهتم بالسقف الزجاجي أكثر من اهتمامها بالعدالة الاجتماعية.

أحد المعطيات المهمة التي أوردها دهان في بحثه، يتمثل في أنه ليس هناك تراجع أو هبوط جلي في حافز الأصل العرقي في الأجر، بمعنى أن الظاهرة الرائجة التي يحصل بموجبها الأشكناز على أجر أعلى بكثير، بسبب أصلهم العرقي وليس بسبب مؤهلاتهم أو تحصيلهم العلمي، ما زالت قائمة على حالها. وفي اللحظة التي نشأت وتطورت فيها طبقة متوسطة شرقية تتبنى المريتوقراطيا، والتي سُدّت أمامها إمكانات التقدم جراء التمييز العرقي، أتت سياسة الهويات لتقدم إجابة وحلا لمسألة الاحتياجات والمتطلبات الفئوية (القطاعية) لهذه المجموعة (اليهود الشرقيون في إسرائيل)، ومن هنا فقد وجدت طريقها إلى النجاح لدى الجيل الشاب من الشرقيين.

بصورة عامة يلاحظ أن اليهود الشرقيين في إسرائيل، وفي أميركا أيضا، ينشدون المساواة، ومن ضمن ذلك أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات الدنيا. إن اليهود الشرقيين لم ينساقوا قط وراء الذين رغبوا أو طالبوا بتوزيع الكعكة بالتساوي، مثل أعضاء حركة "الفهود السود" أو منظمة "القوس الديمقراطي الشرقي". إن الرغبة تتلخص هنا في التقدم في السلم الاجتماعي الذي لا يعرقل نجاح الموهوبين والمؤهلين، ذلك لأن التمييز العرقي يشكل عائقا أمام تقدم الأفراد الموهوبين.

إن مقارنة الشرقيين تجري دائما بين وضعهم البائس في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وبين التحسن في أوضاعهم الاقتصادية والإجتماعية منذ نهاية عقد السبعينيات وحتى الآن، أي في ظل عهد حكم حزب الليكود، والذي قطف ثمار انتصار حرب العام 1967 دون عناء أو مشقة. وقد كان في وسع السلطة أن تدفع بواسطتهم (أي الشرقيين) عجلة الاقتصاد والاستعاضة عن الفقراء الشرقيين بالفقراء الفلسطينيين. وفي هذا السياق فقد ساهم أيضا توزيع الأراضي الفلسطينية (المحتلة عام 1967) على اليهود وبناء بيوت استيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، في تحسين وضع الشرقيين بعض الشيء – فنقليات الحافلات التي نظمها وأدارها أريئيل شارون في العام 1981 إلى الأراضي الفلسطينية (المحتلة) لم تقتصر على مستوطنين أشكنازيين وحسب، وإنما شملت أيضا أبناء الأحياء والبلدات الشرقية الذين بحثوا عن شراء منازل بسعر زهيد (أي في مستوطنات الضفة والقطاع). وحين يتحدث نتنياهو عن نجاح سياسته الاقتصادية، نجد أن هؤلاء الشرقيين يستذكرون ظروف الفقر التي عاشوها في المعسكرات الانتقالية وبالتالي من السهل أن يثقوا ويصدقوا كلامه، لا سيما وأن الطبقات الدنيا تحظى أيضا في دولة مثرية تسود فيها لامساواة كبيرة، بتحسن ما مقارنة مع وضعها السابق. إلى ذلك فإن الصفقة النيوليبرالية الإسرائيلية التي جرى فيها مقايضة السلع الإستهلاكية مقابل حالة انعدام يقين تشغيلية (أي في مجال تشغيل الأيدي العاملة) وتعليم وصحة فاشلين وتصفية الشروط والمخصصات الإجتماعية، كان لا بد من أن تتم قطعا حتى وإن بقي نتنياهو مواطنا أميركيا ولم يعد إلى إسرائيل.

أنا فقط... وحاشيتي!

صك بنيامين نتنياهو مصطلح "النخب القديمة" عندما عاد من الولايات المتحدة بغية تشخيص العدو، المتمثل في نخبة حزب "مباي" المنافسة والبغيضة لديه. ولم يعلن نتنياهو عن نفسه وعن محيطه كـ "نخب جديدة" وذلك حتى لا يكون هناك نهائيا تركيز على ما يقوم به، هو ذاته، فعليا. لقد استولى ببساطة على الحكم في إسرائيل وصاغ بقدر كبير من التفرد والثقة الطريق السياسية والاقتصادية للدولة.

كانت نية نتنياهو، ذلك الرجل الذي حظي بدعم وتأييد القوى القوية في العالم من الناحيتين السياسية والاقتصادية، تتجه فقط لاستبدال النخب القديمة وإحلال نفسه ومقربيه مكانها. وهكذا ترك عن طيب خاطر مصطلح أو لقبَ النخب الجديدة لأولئك الذين يرغبون بالتباهي أو التزين بها. حتى أن النخبة الجديدة، المتمثلة بالمستوطنين، والتي حلت مكان نخب "مباي"، تنأى بنفسها عن استخدام هذا اللقب المهين.

ويدير نتنياهو، كعازف منفرد بالتعاون مع رجالاته المقربين، الذين أتى بهم من الخارج الى الحزب، دفة الحكم، وسط تجاوزٍ تام لنشطاء الحزب وأعضاء الكنيست والوزراء، كنظام رئاسي بكل معنى الكلمة. ويقدم أفراد حاشية نتنياهو، هؤلاء الذين يقبضون فعليا على مقاليد الحكم، المؤشر الأوضح بشأن من يستحق حقا أن يحكم وفقا لنتنياهو – فرجالات وكبار موظفي مكتب رئيس الحكومة والمستشارون هم في أغلبيتهم من الأشكناز ذوي اللكنة والشارب الأميركيين في الغالب. لقد تعلم نتنياهو من تجربة الليبراليين الجدد في الولايات المتحدة بأنه ينبغي ليس فقط الإمساك بمقاليد الحكم وإنما يجب العمل على تدعيمه وتوطيده وذلك عن طريق تغيير وعي المواطنين. وقد أقام نتنياهو لهذا الغرض شبكة من معاهد الأبحاث والدراسات، مثل "مركز شاليم"، وملأها مجددا بيهود يمينيين ذوي لكنة أميركية وأشكنازيين من "صنع محلي". ويجني هؤلاء الباحثون والخبراء أموالا طائلة فقط لكونهم يقفون في الجانب الأيديولوجي الصحيح، بمعزل عن نوعية وجودة أبحاثهم العلمية. ويعد هؤلاء الدائرة الثانية لمستودع العقول الذي يحيط بنتنياهو.

ويلاحظ أن هذه المراكز والمعاهد تنجح، في سياق ترويجها لـ "النيوليبرالية" في إسرائيل جنبا إلى جنب مع الصهيونية، في زعزعة أفكار العمومية الإسرائيلية، مثل كسر قوالب ومفاهيم "اليمين" و"اليسار" والتركيز على ما هو صهيوني في مقابل ما هو غير صهيوني. هذه العبارة أو الجملة يتردد صداها ليس فقط لدى التيار المركزي في إسرائيل وإنما أيضا لدى نشطاء شرقيين على صفحات الفيس بوك في السنوات الأخيرة. في المقابل ثمة مكان في الحاشية المحيطة برئيس الوزراء هذه لكثيرين من الشرقيين، لكن وظيفة هؤلاء تقتصر على أعمال الصيانة والخدمات في منزل رئيس الحكومة.

لقد حال نتنياهو طوال العقدين اللذين كان فيهما صاحب السلطة الوحيد في الحزب الحاكم، دون تطور أي طاقة قيادية (حتى من بين صفوف الأشكناز). ويعمل النشطاء السياسيون المحليون فقط كمقاولي أصوات في يوم الإنتخابات، فيما أبقى نتنياهو على مكاتب فروع حزب الليكود فارغة وذلك منذ "ثورته الأولى" في التسعينيات. لقد أضحت القوة والنفوذ في يد زعيم الحزب الذي يتواصل مع الأمة فقط عن طريق الفيس بوك دون حاجة لوسطاء في الميدان على الإطلاق.

المقعد الخلفي لحزب الليكود

إن أحاديث نتنياهو الجوفاء والساخرة عن حكم "الموهوبين" تبرز لديه ليس فقط بسبب سلطته المستندة إلى "المحسوبيات" وإنما وبشكل خاص نظرا لحرصه على تعيين أشخاص غير موهوبين من صفوف اليهود الشرقيين. فمنذ قدومه إلى اسرائيل في العام 1986من أجل الاستيلاء على السلطة، لجأ نتنياهو في خضم بحثه هو ومعاونوه عن موالين في مركز حزب "الليكود"، مثل الإعلامي إيال أراد وأفيغدور ليبرمان، إلى إقامة تحالفات مع المقاعد الخلفية في حزب "الليكود الشرقي" وحرص على الاستعانة فقط بهامشيين من البلطجية والغوغاء كما حرص على "تدليلهم" وترقيتهم إلى مناصب رفيعة.

في المقابل شرع نتنياهو بـ "قطع رؤوس" الزعماء الشرقيين البارزين والموهوبين في الحزب. هؤلاء الأشخاص، وخلافا لزعماء العقد الأخير، لم ينفعلوا أو يتأثروا نهائيا، مثل الصحافة الإسرائيلية في ذلك الوقت، إزاء هذا الرجل الذي جاء ليطبق قيم وأعراف الديمقراطية الأميركية في الإقليم، وإنما عملوا وحاربوا ضده منذ ذلك الحين بسبب ميول الأبوية والعنصرية، غير أنه تمكن من التخلص منهم بسرعة. وهكذا أفلح نتنياهو مثلا في العام 1995 في إقصاء دافيد ليفي الذي طرح نفسه كوريث لمناحيم بيغن (في زعامة الحزب والسلطة)، والذي نعته نتنياهو بسخرية بـ "زعيم أصيل"، وفي العام 1999 أقال نتنياهو إسحاق مردخاي، الذين تنافس ضده على زعامة "الليكود"، من منصبه كوزير للدفاع. تحالف نتنياهو مع رجالات الهامش الشرقيين جعله يصرح في زلة لسان فرويدية، في مقابلة تلفزيونية وصف فيها دافيد ليفي بقوله إنه "كبير في الليكود محاط بزمرة من المجرمين"! ومن ناحية عملية فإن أي قدر ضئيل من الاستقلالية يعبر عنه شرقيون في حزب الليكود، يوصف من جانب نتنياهو على أنه خطر على حكمه الفردي، ولذلك لم يبقَ في الليكود إلا شرقيين موالين لنتنياهو في دور "جوقة المشجعين".

هذه الشراكة السياسية الفوقية التي أقامها نتنياهو والتي تدير علاقات إثنية على أساس غير متساوٍ، تعيد الشرقيين في الليكود إلى مربعهم الهامشي في الحزب كما كان عليه حتى سبعينيات القرن الماضي. ويصف ليئون وكوهين هذه العلاقات بقولهما إنها جرت في حينه في حركة "حيروت" تماما مثلما جرت في حزب "مباي". وقد ناضل نشطاء "حيروت" ليس فقط من أجل ضم مزيد من الشرقيين للزعامة، وإنما نادوا بمطلب ثوري: ألا يتم التوزيع نهائيا على أساس التمثيل الإثني وإنما على أساس المريتوقراطيا للجميع، وهو ما يصفه الباحثون بـ "شراكة تنافسية". هذا المطلب الذي دفعه قدما في شكل أساس دافيد ليفي، والذي لاءم أيضا برنامج الليبراليين في الليكود، تم قبوله في نهاية المطاف بصورة رسمية.

وبما أن نتنياهو يمسك بمقاليد الحكم والسيطرة، بواسطة زبانيته، فإنه لا يواجه أية مشكلة في السعي خلال ولايته الحالية إلى تحسين التمثيل الدوني الذي تمتع به الشرقيون في الحكومة السابقة. وقد حرص نتنياهو على إغراق القائمة الإنتخابية للكنيست بموالين شرقيين مما هب ودب، فجل ما يهمه أن لا تثار شكاوى تدعي إنعدام الشرقيين. وفي هذا السياق عين نتنياهو ميري ريغف وزيرة للثقافة وداني دانون سفيرا لإسرائيل في الأمم المتحدة، وعين أعضاء كنيست كلا من أورن حزان، يارون مزوز، عنات باركو، ونافا بوكر، التي جيء بها لمنصبها كعضوة كنيست في مسار مباشر قبل ثمانية أيام فقط من الانتخابات التمهيدية (البرايمرز) في حزب "الليكود"، وذلك من قبل زوجة رئيس الوزراء، سارة نتنياهو.

بغية تفحص مؤهلات ومواهب اليهود الشرقيين الذين عَينهم ورقّاهم نتنياهو، يكفي أن نقارنهم بأعضاء الكنيست من حزب شاس (وكذلك نواب أحزاب "الحريديم" الأشكناز)، ليس وفق مقارنة لهم بشخصية تمتلك كاريزما وموهبة مثل آرييه درعي، وإنما بأعضاء كنيست آخرين في القائمة، فمثل هذه المقارنة تظهر بوضوح أن ثمة مصفاة مريتوقراطية تعمل في حركة "شاس" علما أن الحديث يدور هنا عن أشخاص أذكياء وبارعين ومتزنين في ميدان العمل السياسي. لقد كان نتنياهو مستعدا على الأرجح لاستبدال جميع أعضاء الكنيست الأشكنازيين في الليكود بأعوانه وأبواقه الشرقيين باستثناء وزير دفاع شرقي، كي لا يمارس استقلالية في المنصب الرفيع الوحيد في نظر الجمهور الذي يمكن لوزير في الحكومة أن يتبوأه، أو أن يحاول أن يسرق منه (من نتنياهو) أصوات الشرقيين كما حصل مع إسحاق مردخاي في حينه (ويُذكر في هذا السياق أن نتنياهو حاول أيضا إحداث إنقلاب داخل صفوف حركة "شاس" – لكنه أخفق في ذلك – وذلك بغية تنحية آرييه درعي، مستعينا بالحزب الذي أقامه لصالح إيلي يشاي).

لقد تضاءل نفوذ الشرقيين أعضاء حزب السلطة ليس فقط جراء مسألة التمثيل، الذي توجد وفرة منه الآن، وإنما لأن هؤلاء الأعضاء الشرقيين لا يستطيعون التأثير على الأجندة السلطوية التي حددها نتنياهو وزبانيته وحدهم فقط. ويحقق نتنياهو، في إعادة النشطاء الشرقيين إلى الوراء وفق أساليب "مباي"، مكسبا مزدوجا، فهؤلاء لن يعيقوه في ممارسة الحكم، إذ يمكن دائما "تدليلهم"، بواسطة مراسم وألقاب محترمة.

ومن المعلوم أن نتنياهو يُعتبر من ضمن أفضل زعماء العالم من حيث كفاءة الظهور الإعلامي، لكن اللافت بشكل خاص هو كفاءته في إطلاق أكثر التصريحات ظلامية وأن يجد حتى الآن من يصغي إليه كإنسان معقول وكرجل "مركز" متزن، وهو أمر يمارسه نتنياهو بالذت بواسطة إستراتيجيا سياسية. هذه الصورة للرجل الذي يجوب ويتجول بصورة طبيعية في أروقة ودوائر الحكام في العالم الكوني والاقتصادي، تتعزز في نظر مواطني إسرائيل بشكل دائم. ويشار في هذا السياق إلى أن خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي وفي مقابل جمهور مؤيد ومصفق مؤلف من شخصيات أميركية رفيعة المستوى، يعطيه أفضلية على السياسيين "المحليين" و"الإقليميين"، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك وكفى، فنتنياهو يمثل في نظر الجمهور الإسرائيلي العاطفي قدوة لرجل متطرف وعنصري يلاقي مشروعه طويل الأمد في تعزيز صورة العرب كإرهابيين، نجاحا في العالم أيضا وهو في الوقت ذاته الضد للمنبوذ في نظر أمم وشعوب الغرب، بل إنه يلقى قبولا واحتراما لدى الدول الغربية عامة.

ويمكن إجمال سلوك نتنياهو بناء على التسجيلات التي يحبها في خطبه، فبمقدار ما يوثق علاقاته مع "منقذين للعالم"، نجده يعزز في المقابل من هامشية الشرقيين في معسكره، ولعل ذلك هو سر حكمه مديد السنوات.

_________________________

(*) كاتبة المقال صحافية وسيناريست ومعدة برامج في التلفزيون الإسرائيلي. كما أنها من مؤسسي حركة "القوس الشرقي" الديمقراطية التي تعنى بقضايا وأوضاع اليهود الشرقيين في اسرائيل. المصدر: شبكة الانترنت. نُشر القسم الأول من المقال في العدد السابق من "المشهد الإسرائيلي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات