يمر حزب الليكود الحاكم منذ عدة سنوات بتحولات سياسية واجتماعية داخلية تغيره من ناحية تركيبته من جهة، وتحدث تغيرات في خطابه من جهة أخرى. ومعروف أن حزب الليكود تطوّر من المدرسة الصهيونية التنقيحية التي قادها ونظّر لها زئيف جابوتنسكي، وخلفه في قيادتها مناحيم بيغن (رئيس الحكومة الأسبق)، الذي أسس تحالف الليكود من أحزاب يمينية متعددة كان في مركزها حزب حيروت، ووصل إلى الحكم لأول مرة في تاريخ إسرائيل عام 1977، بعد ثلاثين عاما من حكم مطلق لحزب العمل.
ومتأثرا بأفكار جابوتنسكي، حمل الليكود خلال العقود الماضية توجها أيديولوجيا ينطلق من رفضه لأي تقسيم لفلسطين التاريخية ("أرض إسرائيل" في الخطاب الصهيوني والديني)، وهو موقف أيديولوجي حمله منذ تأسيس التيار التنقيحي في الحركة الصهيونية، عندما كان المشروع الصهيوني الاستيطاني في بداية طريقه في فلسطين، واستمر بعد الاحتلال لباقي الأراضي الفلسطينية في حزيران 1967. وبالإضافة إلى توجهه القومي حول "أرض إسرائيل الكاملة"، فقد حمل الليكود توجها ليبراليا وخاصة في الاقتصاد ولكن أيضا في الحقوق المدنية والفردية. ولم يكن يعتقد أن هناك تناقضا بين توجهه القومي وبين توجهه الليبرالي، فقد رأى أن الحل يكمن في فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة ومنح الفلسطينيين في هذه المناطق حقوقا مدنية وسياسية فردية في إطار الدولة اليهودية، الأمر الذي تراجع عنه بيغن (على الأقل على المستوى التصريحي والرسمي) بتوقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر الذي أقر بمنح الفلسطينيين حكما ذاتيا. غير أن تحولات اجتماعية وسياسية وفكرية ساهمت في تغيير الليكود، وقد ظهرت عبر مميزات كثيرة سنعرض لها في هذه الورقة.
مميزات الليكود في العقد الأخير: تغيرات في الأصول الاجتماعية للقيادة
أثارت مؤخرا قضية عضوية شخص يسمى يوآف إلياسي الملقب بـ"الظل" إلى الليكود مسألة التغيرات التي طرأت على قيادة وعضوية هذا الحزب في السنوات الأخيرة، والتي تتمثل في تآكل النخب القديمة ذات التوجهات الليبرالية وتقدم نخب جديدة ذات توجهات يمينية متطرفة إلى درجة الفاشية.
وكان "الظل" وهو مغني راب وشخصية تمثل الحالة الشعبوية المتطرفة والعنصرية في الشارع الإسرائيلي وله أنصار يقدرون بعشرات الآلاف يتابعون تعليقاته على شبكة التواصل الاجتماعي، أعلن مؤخرا عن نيته الانضمام إلى حزب الليكود، وقاد فكرة انضمامه إلى الحزب عضو الكنيست أورن حزان، وهو يهودي شرقي عمل سنوات طويلة في كازينوهات في بلغاريا ويسكن في مستوطنة أريئيل ويمثل الحالة الشعبية والشعبوية المتطرفة في المجتمع الإسرائيلي. وأشار حزان إلى أن "الظل" هو بداية سلسلة من العضوية في الليكود لشخصيات تنسجم مع مواقف هذا الأخير الشعبوية الفاشية المتطرفة .
والمثير في الموضوع أن انضمام "الظل" إلى حزب الليكود لاقى صمتا لدى غالبية قيادة الليكود الممثلة في الكنيست، والتي تخشى من معارضة عضويته خوفا من أتباعه على شبكات التواصل الاجتماعي، وأتباعه على أرض الواقع والذين يسمون أنفسهم "أسود الظل".
وفي الحقيقة فإن "الظل" وحده ليس الشخصية التي مثلت انسحاب أو إقصاء النخب القديمة في حزب الليكود وظهور نخب جديدة ذات طابع قومي- ديني من جهة، وذات طابع شعبوي- فاشي من جهة أخرى. فمثلا دخل إلى كتلة الليكود في الكنيست مؤخرا يهودا غليك، وهو متدين يهودي متطرف كان رأس الحربة في اقتحامات اليهود للمسجد الأقصى المبارك، ويسعى إلى تقسيم الحرم القدسي زمانيا ومكانيا بين اليهود والفلسطينيين المسلمين. وهناك شخصيات ظهرت في الدورات السابقة مثل عضو الكنيست موشيه فيغلين، وهو يحمل توجهات يمينية متطرفة تنسجم مع توجهات حركة كاخ الفاشية المحظورة، وقد كان قبل سنوات على هامش فكر الليكود وتحول فكره إلى تيار مهم في الليكود.
تجدر الإشارة في هذا الشأن، إلى أن النخب الليكودية القديمة ذات التوجهات الليبرالية وخاصة تلك النخب التي تسمى "الأمراء"، وهم أبناء الجيل الثاني من قيادات الليكود وورثوا قيادتهم عن آبائهم من الجيل الأول في الليكود، تم إقصاء غالبيتهم في الدورات الثلاث الأخيرة للكنيست بشكل تدريجي، وتسلمت مكانهم نخب جديدة تنتمي إلى الصهيونية الدينية فكريا، أو تحمل توجهات يمينية متطرفة تشبه توجهات اليمين المتطرف في أوروبا فيما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الفردية. كما أن النخب الأشكنازية اليمينية الليبرالية تراجعت في حزب الليكود لصالح قيادات شرقية تحمل أجندات غير ليبرالية وغير ديمقراطية ومعادية للعرب، وكذلك للنخب الأشكنازية القديمة من "اليسار الصهيوني". وتشترك هذه النخب الجديدة في الليكود مع النخب القديمة بفكرة "أرض إسرائيل الكاملة" (فقط نتنياهو يصرح بأنه يؤيد حل الدولتين من بين أعضاء حزب الليكود)، ولكنهم يختلفون معهم بالنسبة للحقوق المدنية والسياسية للفلسطينيين، ففي حين أن النخب القديمة تريد إعطاء الفلسطينيين حقوقا سياسية ومدنية فردية كاملة في إطار السيادة اليهودية على الأرض، فإن النخب الجديدة تؤسس فعليا لنظام أبارتهايد، يجسد إبقاء السيطرة الإسرائيلية على الأرض وضم مناطق من الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية وحرمان الفلسطينيين من أية حقوق سياسية ومدنية متساوية وكاملة.
كما بدأ المستوطنون يتغلغلون إلى صفوف الليكود للتأثير على سياسته تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عموما، وتجاه المستوطنات خصوصا، فظهرت نخبة من قيادة الليكود من المستوطنين الذي ينتمون للصهيونية الدينية، وقد ظهر ذلك في تمثيلهم في قائمة الليكود وفي تصويت المستوطنين لليكود مقابل حزب "البيت اليهودي" الذي يمثل المستوطنين وأبناء الصهيونية الدينية، حيث حصل الليكود في الانتخابات الأخيرة على نسبة تأييد داخل المستوطنات، معقل "البيت اليهودي"، تصل إلى حوالي 23 بالمئة، بينما تراجع "البيت اليهودي" إلى 38 بالمئة .
وبالعودة إلى قضية "الظل"، نشير إلى أن احتضان الليكود له أثار جدلاً واسعاً في أوساط هذا الحزب خاصة وفي الساحة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية عامة، فيما طالبت مجموعة من أعضاء الحزب ونشطائه رئيسَ الحزب ورئيسَ الحكومة، بنيامين نتنياهو، في رسالة خاصة وجههوها إليه، بمنع ضم "الظل" إلى الحزب "حفاظا على صورته"، إذ إنه (الليكود) "لا يُعتبر يميناً متطرفا"! بينما اعتبر أعضاء كنيست كانوا أعضاء في "الليكود" من قبل وانتقلوا إلى أحزاب أخرى أن انضمام "الظل" إلى حزب الليكود الحالي "ليس مفاجئا وليس مثيرا" (تسيبي ليفني) وأن "الظل هو الوجه الحقيقي لليكود الذي هرب منه تلامذة جابوتنسكي منذ زمن بعيد" (يوئيل حسون). في المقابل، اعتبر عضو الكنيست أورن حزان، الذي "جنّد" مغني الراب إلى عضوية الليكود، أن "انضمام الظل يعني إضافة قوة هائلة إلى الليكود"! بينما قال "الظل" إنه يخطو هذه الخطوة "لأنني أريد إعادة الليكود إلى ما كان عليه في السابق ـ يمين خالص"!
كما قوبل انضمام "الظل" إلى الليكود باستياء وقلق كبيرين من جانب عدد من قادة الليكود الحاليين والسابقين الذين رأوا في ذلك "استمرارا لمحاولات جرّ الليكود إلى مزيد من التطرف والشعبوية التعصبية". ومن بين القادة الحاليين، برزت بشكل خاص معارضة عضوي الكنيست تساحي هنغبي وبيني بيغن، إذ أكد الأخير أن "دستور الليكود يتيح عدم الموافقة على انضمام شخص ما إلى الحزب، وينبغي تطبيق ذلك على إلياسي". وأضاف بيغن: "من المحظور ضم شخص يمارس البلطجية ويفاخر بها ويحرّض الآخرين على سلوك مماثل. وحين يقدم ترشيحه إلى الليكود، فإنه يلقي بظله عليّ أنا أيضا".
أما الوزير وعضو الكنيست السابق دان مريدور، أحد القادة البارزين السابقين لليكود، فقد اعتبر أن "الظل يجسد فظاظة غير مقبولة. كنت أتوقع من قيادة الليكود تشكيل قدوة للسلوكيات الأخلاقية والتربوية وليس للتعاطف مع مثل هذه الظواهر. وأنا شخصيا كنتُ قد قلت في حينه: كل مَن يصوّت لفيغلين (موشيه فيغلين، عضو كنيست سابق من الليكود) أرجو أن لا يصوّت لي"! وعبر مريدور عن قلق عميق حيال ما يحصل في "بيتي السياسي السابق"، كما يصفه، خلال السنوات الأخيرة مؤكداً "أجد صعوبة كبيرة في قبول طريق الليكود الحالية. الأمر يبدو غير جيد، إطلاقا".
يذكر أن مريدور (69 عاما) هو نجل إلياهو مريدور، أحد قادة عصابة "إيتسل" الصهيونية ثم عضو الكنيست الإسرائيلي عن حركة "حيروت" و"غاحل". وكان مريدور الابن قد أشغل منصب سكرتير حكومة مناحيم بيغن في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ثم انتخب عضوا في الكنيست في قائمة "الليكود" في العام 1984. وفيما بعد، أشغل منصب وزير العدل ثم وزير المالية. وبعد أن عاد إلى النشاط السياسي ضمن قائمة "الليكود" بعد "فترة استراحة" استمرت بضع سنوات، أشغل منصب نائب رئيس الحكومة والوزير المسؤول عن أجهزة الاستخبارات ولجنة الطاقة النووية. ولكن، في الانتخابات التمهيدية الداخلية (برايميرز) التي جرت في حزب الليكود تحضيرا لانتخابات الكنيست الـ 19، في كانون الثاني 2013، تعرض مريدور لحملة "تصفية" وتم اقصاؤه إلى مكان غير مضمون في قائمة مرشحي "الليكود". وعشية الانتخابات للكنيست الـ 20، في آذار 2015، أعلن مريدور أنه لن يصوّت لحزب الليكود وقائمته برئاسة بنيامين نتنياهو. ويشغل مريدور اليوم منصب رئيس اللجنة الإدارية في معهد "بتسلئيل" للفنون ومحاضر في كلية العلوم السياسية في جامعة هارفارد.
وقال مريدور، في مقابلة مطولة نشرتها معه صحيفة "معاريف" الإسرائيلية (8/8/2016)، إن "الموازنة ما بين القومي والليبرالي كانت من سمات الليكود المميزة على الدوام. لكنني أخشى أن هذا التوازن يتغير ويختلّ الآن". وأوضح: "حينما تقف القومية وحدها، دون موازِن ليبرالي يؤكد حرية الفرد وحقوقه، فإنها تصبح قوموية (تطرف قومي)... يهمني الشأن اليهودي بالطبع، لكن اليهودية هي مسألة قيمية أيضا. إنني أرفض التوجهات التي تتصاعد وتبتغي المسّ بالكوابح المفروضة على السلطة".
من ناحية أخرى تطرق مريدور إلى تصريح وزيرة الثقافة، ميري ريغف (الليكود)، بشأن "هيئة البث العامة" الجديدة التي ستكون مسؤولة عن البث التلفزيوني والإذاعي العام (الجماهيري) في إسرائيل، وقولها إنه "لا حاجة لنا بهيئة البث العامة إذا لم نكن مسيطرين عليها"! وقال مريدور إن هذا التصريح "يعكس الروح الحقيقية السائدة في الليكود. فهي (ريغف) لا تكذب. وهذا خطير جدا في نظري"! وأضاف أن ثمة عبارة تتكرر في الليكود تقول "آن الأوان كي نحكم". والقصد هو "الحكم دون أية قيود أو كوابح". وبرأيه "هذه ليست ديمقراطية. لأن الديمقراطية ينبغي أن تحرسها وسائل الإعلام والمحاكم وأن تلجمها. يجب الحذر من مغبة المساس بهذه المؤسسات. فالهجوم على وسائل الإعلام سهل جدا، لكن بدون وسائل إعلام حرة ليست هنالك ديمقراطية". وخلص مريدور إلى التأكيد على أن "منظومة القيم الكلاسيكية التي ميزت الليكود دائما تواجه مشكلة حقيقية وصعبة الآن"! وتمنى أن "لا يواصل الليكود السير في هذا الطريق الذي يسير فيه الآن". ورأى مريدور أن إمكانية المبادرة إلى خطوة سياسية ـ حزبية في الانتخابات المقبلة للكنيست بحيث تحول دون قدرة الليكود على تشكيل حكومة جديدة هي إمكانية واردة، لأن "كل شيء مفتوح في السياسة".
حزب القائد الواحد
على الرغم من التاريخ السياسي الطويل لحزب الليكود وتنوع قواعده الاجتماعية إلا أنه تحول منذ العام 2009 إلى حزب القائد الواحد، وهو بنيامين نتنياهو. فليس هناك شخص داخل الحزب قادر على منافسته وإسقاطه من منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة. وعلى ما يبدو باتت مهمة إسقاط نتنياهو عن رئاسة الحكومة والليكود مهمة جهات خارج الليكود وداخله، ففي الانتخابات الأخيرة، وعلى الرغم من تجند نخب عسكرية، أمنية، إعلامية وأدبية لإسقاط الليكود، وخاصة نتنياهو، حيث تم التركيز على شخصه أكثر من حزبه، ومحاولة "اليسار الصهيوني" إبقاء موضوع الانتخابات متمحورا حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، التي حاول الليكود التهرب منها، فقد استطاع أن يحصل على 30 مقعدا، وهو أكبر عدد مقاعد حققه الحزب منذ عام 1992 (ما عدا انتخابات 2003 برئاسة شارون) . وكشفت نتائج هذه الانتخابات عن أن نتنياهو وليس الليكود هو الفائز، مما عزز قيادته في الحزب، وبذا أمسى بقاء الليكود في الحكم مرتبطا إلى حدّ كبير ببقاء نتنياهو زعيما له ومرشحا عنه لرئاسة الحكومة.
فمثلا في الانتخابات الأخيرة، استطاع نتنياهو في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات من جذب مقاعد جديدة لليكود بعد أن كانت استطلاعات الرأي تتوقع حصوله على 24 مقعدا على الأكثر، وذلك في أعقاب مقولتين غيرتا المشهد الانتخابي في صفوف اليمين:
أولا، إعلانه عن معارضته إقامة دولة فلسطينية، مما انعكس سلبا على حزب "البيت اليهودي" التي رفع شعار أنه الحزب الوحيد الذي يعارض حل الدولتين وحاول أن ينافس الليكود من اليمين؛
ثانيا، تحذيره من تصويت الفلسطينيين في إسرائيل، حيث صرح بأن "العرب يتدفقون على الصناديق ويهددون حكم اليمين". وفي لقاء مع القناة السابعة اليمينية قال نتنياهو إن جمعية V15 (ومعناها "انتصار 2015") تقوم بنقل الناخبين العرب بحافلات الباص إلى صناديق الاقتراع، وأن أعضاء الكنيست العرب سيتوجون منافسه إسحاق هيرتسوغ رئيسا للحكومة، مما يشكل نهاية لحكم اليمين والليكود . واستفزت هذه المقولة (العنصرية والكاذبة) قواعد الليكود الغاضبة أو المتحفظة على الليكود لأسباب اقتصادية ودفعتهم للخروج وإنقاذ الليكود، وأدت إلى عودة قواعد الليكود التقليدية في مدن التطوير والأطراف الفقيرة التي يسكنها بالأساس اليهود الشرقيون، التي رأت أن الخطر العربي الذي أنذر به نتنياهو أهم من تهميشها الاقتصادي، فعادت للحزب الأم بعد أن تفرقت في الانتخابات السابقة بين حركة شاس الحريدية الشرقية و"البيت اليهودي"، كما حفزت قواعد ليكودية قررت عدم المشاركة في الانتخابات احتجاجا على سياسات نتنياهو الاقتصادية للعودة والمشاركة في التصويت. وعادت القواعد الشرقية إلى الليكود أيضا بسبب عودة سياسات الهوية بقوة في هذه الانتخابات، وخاصة بعد سلسلة من التصريحات من طرف شخصيات يسارية أشكنازية جرى تفسيرها بأنها معادية للشرقيين وثقافتهم، الأمر الذي من شأنه إعادة التذكيـر بانتخابات عام 1981 التي وصلت فيها مثل هذه التصريحات المعادية إلى ذروة جديدة زجت أكثر باليهود الشرقيين نحو أحضان الليكود كحزب عائليّ وعضويّ للشرقيين اليهود، وليس مجرد حزب سياسي عبروا من خلاله عن احتجاجهم تجاه سياسات حزب العمل في العقود الأولى للدولة .
في السنوات الأخيرة ساهمت أحادية القيادة في الليكود التي يمثلها نتنياهو في خروج الكثير من قيادات هذا الحزب من صفوفه، بسبب صراعها مع نتنياهو على قيادة الحزب وعلى نهجه، وليس لأسباب أيديولوجية كما هي حال النخب القديمة الليبرالية. ففي السنوات الأخيرة خرجت من الليكود قيادات كانت عماد الحزب وكانت ترى في نفسها بأنها وريثة نتنياهو في قيادة الحزب، إلا أن سيطرة وهيمنة نتنياهو على الحزب ومؤسساته دفعتاها للخروج من صفوفه والبحث عن آفاق جديدة للعمل السياسي. فعلى سبيل المثال خرج من الحزب، خلال فترة نتنياهو، الوزير السابق غدعون ساعر (يدعي بأنه لم يترك الحزب ولكنه ترك العمل السياسي حاليا)، وكان يرى في نفسه مرشحا ومنافسا لنتنياهو على قيادة الحزب، ووزير المالية الحالي موشيه كحلون الذي ترك الحزب وأسس حزبا جديدا ("كولانو- كلنا")، ووزير الدفاع السابق موشيه يعلون الذي خرج لخلافه مع نتنياهو حول نهجه المتطرف ومداراته للتوجهات الشعبوية المتطرفة في الشارع الإسرائيلي. ومما يعمق من ميزة القائد الأوحد انتخاب نتنياهو ليكون مرشح الليكود في الدورة الانتخابية القادمة مما أغلق مجال التنافس على قيادة الليكود، كما أن نجاح نتنياهو في إنقاذ حزب الليكود في الانتخابات السابقة عبر تصريحاته العنصرية ضد العرب، تسبّب برفعه إلى مرتبة المخلص والمنقذ لليكود واليمين في إسرائيل، ومرتبة البطاقة الرابحة التي تضمن بقاء الليكود في سدّة الحكم. علاوة على ذلك، فإن اليمين المحافظ في الولايات المتحدة يرى في نتنياهو مرشحه في الساحة السياسية الإسرائيلية، وأصدر من أجله صحيفة خاصة داعمة له، أو صحيفة ناطقة باسمه هي "يسرائيل هيوم" (إسرائيل اليوم)، توزع مجانا، ويُمولها الملياردير اليهودي الأميركي شلدون إدلسون، وهي الآن الصحيفة الأكثر انتشارا في إسرائيل، وغيّرت كل المشهد الاعلامي الإسرائيلي الذي كان يعتبر حكرا على النخب القديمة، ويسعى نتنياهو من أجل دفع هذا التغيير لينسحب على المشهد الاعلامي كله من خلال تعيين نفسه وزيرا للإعلام في الحكومة الحالية.
الليكود: حزب الشعب
برغم السياسات الاقتصادية الليبرالية التي يتبناها الليكود وخاصة نتنياهو، والتي أضرت في البداية بالطبقات الدنيا في المجتمع الإسرائيلي ولاحقا بالطبقات الوسطى وخاصة في السنوات الأخيرة، إلا أن الليكود ما يزال يحظى بتأييد كل القطاعات الاجتماعية في المجتمع اليهودي لا سيما تلك الطبقات التي تضررت من سياسات الليكود الاقتصادية. وهذا يدل على أن الليكود يبني خطابه نحو المجتمع اليهودي بالأساس على قاعدة التخويف والتوجه القومي والأمني، الأمر الذي يخفف من حدة تأثير القضايا الاقتصادية والاجتماعية على شعبيته في المجتمع اليهودي، وهذا ما يفسر وجوده في كل شرائح المجتمع الاجتماعية- الاقتصادية.
أنماط التصويت في البلدات اليهودية بحسب العنقود الاجتماعي-الاقتصادي للبلدات (انتخابات 2015)
العنقود | الليكود | المعسكر الصهيوني | "كلنا" | يوجد مستقبل | شاس | البيت اليهودي | الباقي |
1 | 13.6 | 0.07 | 0.1 | 0.05 | 20.2 | 1 | 64.9 |
2 | 4.7 | 1.1 | 1 | 0.5 | 27.1 | 2.7 | 62.9 |
3 | 31.6 | 4.2 | 4.9 | 2.8 | 15.5 | 8.1 | 32.9 |
4 | 29.5 | 9.2 | 5.8 | 4.7 | 12.2 | 8.3 | 30.3 |
5 | 22.5 | 10.6 | 9 | 7.3 | 6 | 6.3 | 38.3 |
6 | 31.7 | 16.7 | 10.5 | 10.6 | 5.9 | 7.4 | 17.1 |
7 | 24.7 | 25.8 | 9.7 | 13.7 | 2.6 | 5.4 | 18 |
8 | 20.4 | 32.8 | 7.7 | 13.6 | 3.1 | 6.1 | 16.3 |
9 | 17.1 | 40.58 | 7.3 | 15.4 | 1.4 | 4.5 | 13.8 |
10 | 19.2 | 41.8 | 6.6 | 16.2 | 1.13 | 4.18 | 11.8 |
(إعداد وترتيب وتحليل المعطيات تم بناء على تقارير وزارة الداخلية الإسرائيلية حول تصنيف البلدات في إسرائيل على العناقيد الاجتماعية والاقتصادية وتقرير لجنة الانتخابات المركزية للكنيست الـ20 حول نتائج الانتخابات على مستوى البلدات. أنظر: www. Votes20.gov.il)
وعلى الرغم من نجاح أحزاب المركز واليسار في إبقاء موضوع الحملة الانتخابية متمحورا حول الأجندات الاقتصادية والاجتماعية إلا أن الليكود استطاع أن يحظى بدعم غالبية القطاعات الاجتماعية في المجتمع اليهودي، حتى تلك القطاعات التي تضررت اقتصاديا من جراء سياسات حكومة نتنياهو في أعوامها الستة الفائتة. وحظي الليكود بتأييد الطبقات الوسطى العليا والوسطى الدنيا، وكما يشير الجدول أعلاه فإن الليكود يتواجد في كافة القطاعات الاجتماعية في المجتمع اليهودي. ويشير الجدول إلى العلاقة بين الوضع الاقتصادي للبلدة اليهودية وبين التصويت للأحزاب الإسرائيلية. فوزارة الداخلية الإسرائيلية توزع البلدات في إسرائيل على عشرة عناقيد اجتماعية- اقتصادية بناء على معايير كثيرة، منها الدخل السنوي، مستوى التعليم، الشغل والبطالة، الخدمات الاجتماعية والتطوير الاقتصادي للبلدة ومعايير أخرى، بحيث يضم العنقود الأول البلدات ذات المستوى الاقتصادي الاجتماعي المتدني، بينما يضم العنقود العاشر البلدات ذات المستوى الاجتماعي الاقتصادي المرتفع، وتتوزع البلدات بين هذه العناقيد، وبطبيعة الحال فغالبية البلدات اليهودية تتواجد بين العناقيد الرابعة والسابعة، التي تضم الطبقة الوسطى اليهودية المدينية. وفي العناقيد الدنيا، وخاصة في العناقيد الأربعة الأولى، نجد بلدات التطوير اليهودية الفقيرة والبلدات الدينية الأرثوذكسية (الحريديم)، كما نجد كل البلدات العربية التي لم نأخذها بعين الاعتبار في بناء هذا الجدول وتحليل النتائج، لأنه يهمنا أنماط التصويت في البلدات اليهودية من جهة وأنماط تصويتها بناء على اعتبارات اجتماعية واقتصادية من جهة أخرى، ولأن البلدات العربية صوتت بغالبيتها للقائمة المشتركة، علاوة على أن كل البلدات العربية منضوية في العناقيد المتدنية ولا أهمية للفوارق الاجتماعية الاقتصادية بينها فيما يتعلق بنمط التصويت.
يبين الجدول أن الليكود له حضور في جميع العناقيد الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع اليهودي وخاصة في أوساط الطبقات الوسطى، الطبقات التي تضررت من جراء سياسات حكومة الليكود وخرجت في أكثر من مناسبة للاحتجاج ضد السياسات الحكومية. وقد راهن معسكر اليسار- الوسط على أن تعاقب الطبقة الوسطى المدينية حزب الليكود، إلا أن الليكود استطاع بدءا من العنقود الثالث حتى السابع من تصدّر نسب التصويت، بينما تفوق "المعسكر الصهيوني" على حزب الليكود في العناقيد الثلاثة العليا، أي الطبقات العليا في المجتمع الإسرائيلي، ولكن يبقى الثقل الانتخابي موجودا في بلدات العناقيد الوسطى، والتي تفوق فيها الليكود على باقي الأحزاب. وتشير هذه النتائج إلى أن القضايا الاجتماعية والاقتصادية لم تلعب دورا مركزيا في التأثير على أنماط التصويت في المجتمع اليهودي. ولعل هذه الحقيقة التي يبينها الجدول تكشف عن تأزم اليسار الإسرائيلي الذي استمر بالمراهنة على هذا العامل لإسقاط اليمين، ولم يتعلم درس انتخابات 2013، والتي شدّد فيها حزب العمل على هذا العامل بكثافة أكثر من هذه الدورة ولم يحصد فيها سوى خمسة عشر مقعدا .
إجمـال
تتسبّب التحولات السياسية والاجتماعية التي تجري داخل حزب الليكود الحاكم في السنوات الأخيرة بتغييرات ملموسة من ناحية تركيبته وفي خطابه السياسي. ومعروف أن حزب الليكود تطوّر من مدرسة الصهيونية التنقيحية التي قادها ونظّر لها زئيف جابوتنسكي، وخلفه في قيادتها مناحيم بيغن (رئيس الحكومة الأسبق). وخلال العقود الماضية حكل الليكود متأثرا بأفكار جابوتنسكي، توجها أيديولوجيا ينطلق من رفضه لأي تقسيم لفلسطين التاريخية حتى بعد احتلال الأراضي الفلسطينية في حزيران 1967. وبالإضافة إلى توجهه القومي حول "أرض إسرائيل الكاملة"، حمل الليكود توجها ليبراليا وخاصة في الاقتصاد ولكن أيضا في الحقوق المدنية والفردية. ولم يكن يعتقد أن هناك تناقضا بين توجهه القومي وبين توجهه الليبرالي، فقد رأى أن الحل للصراع يكمن في فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة ومنح الفلسطينيين في هذه المناطق حقوقا مدنية وسياسية فردية في إطار الدولة اليهودية، الأمر الذي تراجع عنه بيغن (على الأقل على المستوى التصريحي والرسمي) بتوقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر الذي أقر بمنح الفلسطينيين حكما ذاتيا.
وبرغم أن هذه التحولات تعكس تغيرات تتعلق بميزان القوى الحزبي الداخلي وبالصراع على السلطة، إلا أنها تؤثر في سياسة إسرائيل حيال الصراع مع الفلسطينيين. وما يجدر ذكره في هذا الشأن هو أن النخب الليكودية القديمة ذات التوجهات الليبرالية تم إقصاء غالبيتها في الدورات الثلاث الأخيرة للكنيست بشكل تدريجي، وتسلمت مكانها نخب جديدة تنتمي إلى الصهيونية الدينية فكريا، أو تحمل توجهات يمينية متطرفة تشبه توجهات اليمين المتطرف في أوروبا فيما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الفردية. كما أن النخب الأشكنازية اليمينية الليبرالية تراجعت في حزب الليكود لصالح قيادات شرقية تحمل أجندات غير ليبرالية وغير ديمقراطية ومعادية للعرب، وكذلك للنخب الأشكنازية القديمة من "اليسار الصهيوني". وتشترك هذه النخب الجديدة في الليكود مع النخب القديمة بفكرة "أرض إسرائيل الكاملة" (فقط نتنياهو يصرح بأنه يؤيد حل الدولتين من بين أعضاء حزب الليكود)، ولكنهم يختلفون فيما بينهم بالنسبة للحقوق المدنية والسياسية للفلسطينيين، ففي حين أن النخب القديمة تريد إعطاء الفلسطينيين حقوقا سياسية ومدنية فردية كاملة في إطار السيادة اليهودية على الأرض، فإن النخب الجديدة تؤسس فعليا لنظام أبارتهايد، يجسد إبقاء السيطرة الإسرائيلية على الأرض وضم مناطق من الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية وحرمان الفلسطينيين من أية حقوق سياسية ومدنية متساوية وكاملة.
هذه الورقة قام بإعدادها المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية – مدار
بالتعاون مع
دائرة شؤون المفاوضات
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, بتسلئيل, القناة السابعة, يسرائيل هيوم, دورا, كاخ, الليكود, الكنيست, نائب رئيس الحكومة, رئيس الحكومة