تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.

يتمثل أحد مظاهر تغلغل حيتان المال في أروقة الحكم الإسرائيلية والتأثير عليها مباشرة، في تشغيل موظفين ومسؤولين كبار، فور استقالتهم من جهاز الدولة، للعمل لدى شركات حيتان المال تحت تسميات مختلفة.

ونشرت صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية التابعة لصحيفة هآرتس" الإسرائيلية أخيرا، تحقيقا حول شركة لإنشاء محطة لتوليد الطاقة، يسيطر عليها حيتان مال من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ورغم أنهم رصدوا في المشروع 57 مليون دولار، إلا أن هناك شكا في نجاح المشروع، ولكن شبكة كبار الموظفين والمستشارين في هذه الشركة تكشف جوانب عن تغلغل الحيتان في أروقة الحكم.

وتنشغل الساحة الإسرائيلية، بشكل خاص منذ منتصف سنوات التسعين، في قضية علاقة رأس المال بالحكم، وهي ظاهرة تعمقت في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل، وجرّت معها تفجّر سلسلة ضخمة من قضايا الفساد، التي قادت مسؤولين كبارا وقادة دولة إلى السجن. وكان أبرزهم رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، ووزير المالية الأسبق ابراهام هيرشزون، وقبلهما كان هناك وزراء ونواب سابقون من حركة "شاس" أبرزهما آرييه درعي وشلومو بنيزري. بينما يمثل في هذه الأيام للمحاكمة من كان وزيرا للدفاع، ورئيسا لحزب العمل، وقبل ذلك حاكما عسكريا في الضفة، بنيامين بن إليعازر. كما فلت من قضبان السجن رئيس الوزراء الأسبق أريئيل شارون بفعل المرض، فعلق في القضية ذاتها نجله الأكبر عومري. والقضية تطول حينما نبدأ في التعداد مسؤولين كبارا تورطوا في جرائم فساد ورشاوى.

وأحد أشكال تغلغل حيتان المال في جهاز الدولة هو السلك الوظيفي، فهم بداية يستغلون علاقاتهم مع منتخبي الجمهور- أعضاء كنيست ووزراء ورئيسهم- لضمان تعيين موظفين كبار في وظائف تنفيذية هامة لمصالحهم، وهؤلاء الموظفون يكون ولاؤهم الأساس لمن ضمن لهم تلك الوظيفة الدسمة. ولكن ليس هم وحدهم، بل إن موظفين ومسؤولين كبار في الجهاز الحكومي، حتى وإن أوصلتهم كفاءاتهم إلى مناصبهم، يعدون أنفسهم لليوم التالي في حال استقالوا أو أقيلوا من مناصبهم، بمعنى ضمان الوظائف المناسبة لهم ماليا في القطاع الخاص.

ولهذا فإن قائمة كبار المسؤولين السابقين، وبينهم وزراء وأعضاء كنيست، الذين انتقلوا للعمل في وظائف برواتب دسمة في القطاع الخاص طويلة جدا. وأمثال هؤلاء رصيدهم الأساس هو معرفتهم في دهاليز الحكم، وحقيقة أنه بعد سنوات عملهم في الجهاز الرسمي يكونون قد بنوا شبكة علاقات تجعلهم يتحركون بسرعة بين الأقسام المختلفة، ولدى دوائر القرار، من أجل ضمان مصالح مُشغليهم الجدد من حيتان المال.

وغالبا ما يتم تسمية هؤلاء وظيفيا لدى شركات حيتان المال بـ "مستشارين"، برواتب ومكافآت مالية دسمة وضخمة، وقد يكون هذا الجزء المعلن عنه، إضافة إلى ظروف عمل مريحة جدا، ترفع مستوى معيشتهم بما لا يقاس.

النموذج الجديد

التحقيق الذي نشرته صحيفة "ذي ماركر" في الأيام الأخيرة، يتحدث عن مجموعة من حيتان المال "أحرقت"، حسب وصف الصحيفة، 220 مليون شيكل، وهو ما يعادل 57 مليون دولار، في مشروع خاص لإنشاء محطة لتوليد الطاقة في الجنوب. فعلى مدى خمس سنوات ونصف السنة، رصد مستثمرون أموالا ضخمة، من أجل الدفع بمشروع، كان وما زال على الورق، وكان هذا كافيا ليثمر الملايين في جيوب بعض الموظفين، بفضل عملهم ودورهم في الحياة الحزبية والسياسة العامة في إسرائيل.

وبدأ الأمر في العام 2011، حينما اشترت مجموعة من المستثمرين 84% من أسهم ذلك المشروع، من مجموعة أريسون، مقابل 7 ملايين شيكل، ما يعادل 8ر1 مليون دولار. وكان المستثمرون من حيتان المال من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ومن بينهم من حصل على الجنسية الإسرائيلية من قبل، ولكنه ما زال مقيما في وطنه الأصلي. ثم بشكل مفاجئ، حسب وصف التقرير، اشترت مجموعة المستثمرين ذاتها 62 دونما من احدى الشركات، بـ 83 مليون شيكل، ما يعادل 5ر21 مليون دولار. ومن ثم بدأ دفق الأموال على الشركة، وتنوعت أسماء حيتان المال المساهمين في هذا المشروع، الذي ليس واضحا ما إذا سيرى النور، أو متى سيخرج إلى حيز التنفيذ.

ولكن كل واحد من حيتان المال، الذين وردت أسماؤهم في التحقيق، له استثمارات متشعبة، في العالم وأيضا في السوق الإسرائيلية. ومن بين الأسماء التي وردت كان المستثمر أبراهام نانيكشفيلي، وهو الشخص المركزي الذي ورد اسمه كمن دفع رشوى إلى الوزير السابق بنيامين بن اليعازر، وأيضا تيمور بن يهودا، واسمه الأصلي حاحينشفيلي، وهو كالسابق ذكره، أصله من جورجيا، وهو مقيم دائم في موسكو، رغم أن بحوزته جنسية إسرائيلية، اضافة إلى أسماء أخرى.

ويظهر من التحقيق أن عدد الموظفين في هذا المشروع الذي هو قيد التخطيط قليل جدا، ولكن تعييناتهم لم تكن صدفة، ومن بينهم: الرئيس السابق لسلطة الأوراق المالية (البورصة) موشيه تيري، الذي هو أيضا خضع للتحقيقات في قضية بن اليعازر، فخلال خمس سنوات تقاضى تيري 4ر12 مليون شيكل، ما يعادل 2ر3 مليون دولار. وكان من بين مهماته "تفكيك تعقيدات بيروقراطية رسمية للشركة وأصحابها".

كذلك تم تشغيل صديق تيري، ومن كان عضوا في مجلس ادارة شركة الكهرباء الحكومية، موطي فريدمان، وهو يتقاضى شهريا راتبا بقيمة 150 ألف شيكل، قبل خصم الضرائب والضمانات، ما يعادل 39 ألف دولار. ولكل واحد من الاثنين سيارة خاصة من الشركة مع سائق.

وأيضا غادي غورسكي، الذي لم يكن مسؤولا في جهاز الدولة، ولكنه زوج ابنة رئيس الدولة الحالي رؤوفين ريفلين، ويشير التقرير قائلا "إنه لشديد السخرية أن نانيكشفيلي وقف قبل عامين من وراء الضغط على بن اليعازر للانسحاب من المنافسة على رئاسة الدولة، ما سهّل أكثر على انتخاب ريفلين رئيسا". وحسب التقرير، فإن راتب غورسكي يبلغ 60 ألف شيكل شهريا، قبل خصم الضرائب والضمانات، وهو ما يعادل 6ر15 ألف دولار.

ويشير التقرير إلى صلات كل واحد من الثلاثة وغيرهم مع أروقة مؤسسات الحكم، فمثلا تيري ناشط "سابق" في حزب الليكود، إلا أنه ما زال يحافظ على علاقات في الحكم والحزب.

وعدا هؤلاء ورد أيضا اسم آفي بنيهو، من كان حتى وقت قريب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، وهو يعمل الآن في مكتب استشارات، وقدم "المشورة" لواحدة من الشركات الإسرائيلية التي يملكها هؤلاء المستثمرون.

كذلك ورد اسم الناطق السابق في مجلس مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، يهوشع مور، كمستشار إعلامي، ويدير حاليا مكتب استشارات يزدهر طيلة الوقت، حسب وصف الصحيفة.

وقبل بضعة أشهر كشف عضو الكنيست من حزب "العمل" وكتلة "المعسكر الصهيوني" ميكي روزنطال، قائمة تضم 20 شخصا من أصحاب المناصب والمسؤوليات الكبيرة سابقا في جهاز الدولة، باتوا يعملون في وظائف كبرى في شركة "ديلك كيدوحيم" التي يملكها الثري يتسحاق تشوفا، وهي الشركة الاحتكارية الأكبر لحقول الغاز الطبيعي التي تسيطر عليها إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط. ومعروف عن تشوفا شكل تمدده في أروقة الحكم، وخاصة في حلقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهذا انعكس في اصرار نتنياهو على تقديم امتيازات كبيرة للشركات الاحتكارية في حقول الغاز وأكبرها "ديلك".

وجاء كشف القائمة في إطار مشروع قانون قدمه روزنطال إلى الكنيست، ولم يتم التصويت عليه، وهناك شك كبير في ما إذا ستقبل به حكومة نتنياهو، ويقضي بفرض مدّة زمنية كبيرة بين اليوم الذي ينهي فيه مسؤول وموظف كبير عمله في جهاز الدولة، وبين انتقاله للعمل في القطاع الخاص، قد يكون على علاقة وثيقة بمنصبه السابق في جهاز الدولة. وهذا القانون من شأنه أن ينسف هذه الظاهرة، ولن يرضى بذلك حيتان المال ورسلهم في مؤسسات الحكم، من منتخبين ومسؤولين.

ونرى في القائمة يورام طوربوفيتش، وكان لفترة ما رئيس مجلس إدارة شركة "ديلك". وقد عمل في الماضي رئيس مكتب رئيس الوزراء أولمرت، وكان مسؤولا في وزارة المالية سابقا عن القيود الاقتصادية على الاحتكارات.

كما يمكن رؤية عدد ممن تولوا منصب القائد العام للشرطة الإسرائيلية أو نوابهم أو ضباط كبار، وتولوا لاحقا وظائف كبيرة لدى شركات تشوفا، ومن بينهم غابي ليست، ودودي كوهين، وموشيه كرادي.

كذلك بين الموظفين الكبار أودي نيسان، من كان مسؤولا عن قسم الميزانيات في وزارة المالية، وكان أيضا عضوا في اللجنة الحكومية التي فحصت قضية الاحتكارات في قطاع الغاز، وتسمى "لجنة شيشينسكي". ومعه من كان مستشارا لوزير المالية روني بار أون في حكومة أولمرت، يوسي آفو. ومن كان مدير عام وزارة العدل غاي روطكوفيف، ويعمل مستشارا لدى تشوفا. وحتى آفي يحزقيل، النائب السابق عن حزب "العمل" ومن كان مسؤول قسم التنظيم المهني في اتحاد النقابات "الهستدروت"، وهو المنصب الأهم بعد رئيس اتحاد النقابات.

ويقول روزنطال إن هذا هو أسلوب ونهج الكثير من أصحاب المسؤوليات، الذي ينتقلون للعمل لدى أصحاب رأس المال، لكونهم يعلمون الطرق لتحقيق المصالح، وأكد أن عشرات الموظفين خدموا عائلات الأثرياء، وتلقوا مكافأة على ذلك.

هذه الظاهرة لا تقتصر على الموظفين بل هي أوسع بكثير، إذ أن نسبة ملحوظة من كبار المسؤولين في الجهاز العام تغريهم الرواتب الدسمة، ويقررون مغادرة وظائفهم في كل لحظة مناسبة، ومن ثم يستثمرون علاقاتهم بأجهزة الحكم، ومعرفتهم بالتفاصيل القانونية، للحصول على وظائف كبيرة في القطاع الخاص. ولكن ليس الموظفين وحدهم، بل كما ذكر هناك أيضا منتخبو جمهور على مستوى وزراء وأعضاء كنيست، وقادة أجهزة أمنية وحكومية.

ومن هؤلاء الوزير السابق من حزب "الليكود" غدعون ساعر، الذي غادر الحلبة السياسية حينما كان وزيرا للداخلية في حكومة نتنياهو السابقة، وبشكل مفاجئ، في منتصف أيلول العام 2014، وكان من الأسماء البارزة لمنافسة نتنياهو على رئاسة الحزب مستقبلا. وقد شعر بمضايقات نتنياهو، ولهذا اختار مغادرة السياسة لفترة، والانتقال إلى القطاع الخاص. وفي شهر نيسان من العام الجاري عينه اتحاد وكلاء التأمين ليترأس لجنة خاصة للاتحاد، لفحص مجمل عمل وكلاء التأمين، وإعداد قوانين مساعدة، لتنظيم عملهم.

وقبله فعل الأمر نفسه النائب البارز ووزير الصحة الأسبق داني نافيه (46 عاما حينما غادر الكنيست في العام 2007)، وكان يحتل مراتب متقدمة في صفوف الليكود، والوزير الأسبق من حزب العمل أوفير بينيس (48 عاما حينما غادر الكنيست مطلع العام 2010)، وهو أيضا من أقوى الأسماء التي أشير اليها كقائد مستقبلي لحزبه.

وهناك نواب ووزراء آخرون تركوا الحلبة مبكرا وهم في أوج عملهم، والاعتقاد السائد أن هذه الشخصيات أيقنت في مرحلة ما أنها أمام حاجز يمنع تقدمها في الطريق السياسي، فاتجهت إلى عالم الاقتصاد، أو الوظائف المؤسساتية الكبرى والاستشارات، لتحقق لنفسها مستوى معيشيا عاليا من خلال رواتب دسمة تتلقاها بسبب خبرتها، وسرعة وصولها لكافة أذرع المؤسسة الرسمية والحاكمة.