لطالما شكلت التقنيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية مصدر ذخر لإسرائيل على مدار العقود الماضية، فبفضلها انتقلت إلى مصاف الدول الرائدة في صناعة وتطوير التقنيات الأمنية والعسكرية عالمياً، كما تمكّنت من أن تحجز لها مكاناً متقدّماً في قائمة الدول المصدّرة للتقنيات الأمنية والعسكرية ومنظومات الرقابة والتجسّس حول العالم، ويعود السبب في ذلك لامتلاكها "ميزة" تُكسبها أفضلية وتجعلها أكثر قابلية من العديد من الدول في تسجيل نجاحات في هذا المجال؛ فقد شكّل استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 (وبطبيعة الحال النظام الرقابي الأمني المفروض على الفلسطينيين في الداخل)، يُضاف إلى ذلك الحروب المختلفة التي شنّتها على الفلسطينيين والدول العربية طيلة العقود الثمانية الماضية، ساحة اختبار وتجربة لهذه التقنيات والمنظومات، وهي ساحة متاحة على مدار الساعة لاختبار وتجربة هذه التقنيات والتأكد من فعاليتها استناداً لمبدأ التجربة والخطأ. لكن من ناحية أخرى، شكّلت بعض الحروب انتكاسة لإسرائيل في هذا المجال وأثّرت بشكلٍ كبير على قدرتها في تسويق هذه التقنيات أو بعض منتجات الصناعة العسكرية الإسرائيلية بالتعاون مع الشركات ذات الصلة.
في موازاة حرب التدمير والإبادة التي تواصل إسرائيل شنّها ضد قطاع غزة للأسبوع السادس على التوالي، تزداد اتساعاً، يوماً بعد يوم، دائرة وحدّة الأصوات الداعية في إسرائيل إلى تحديد المفاهيم المركزية التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي يسود الإجماع على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، انطلاقاً من القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الشرط الأول والضروري في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.
عكست سلسلة التقارير، التي ظهرت في الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية خلال الأسبوع المنتهي، حالة التخبّط في وزارة المالية وفي أوساط الحكومة الإسرائيلية بشكل عام في كل ما يتعلّق بتقدير الكلفة الإجمالية للحرب على غزة، من النواحي العسكرية وما يرافقها، وأيضا الصرف على الجانب المدني، فأحد هذه التقارير تحدث عن أكثر من 50 مليار دولار، ليلحق به تقرير يتحدث عن كلفة 16 مليار حتى نهاية العام الجاري، إلا أن محللين وخبراء يقدرون بأن الكلفة ستمتد لسنوات، خاصة في الجانبين الاقتصادي والمدني، وفي هذه الأجواء، تدخل بنك إسرائيل المركزي بقوة لوقف تدهور قيمة الشيكل، وأعاده إلى قيمته قبل الحرب، لكن محللين قالوا إن مسببات التدهور ما تزال قائمة. وبالرغم من هذا، تحدثت تقارير عن انتعاش محدود في الاستهلاك الفردي، رغم أنه ما زال متدنيا، مقارنة مع فترة ما قبل الحرب.
أطلقت إسرائيل على العملية العسكريّة البرية في قطاع غزة اسم "المناورة البريّة" بدلاً من تسميات كانت تستخدمها في السابق (الدخول، الاقتحام، الغزو البري)، وهو الأمر الذي أُثير حوله الكثير من الجدل في بداياته؛ إذ بدا وكأن هناك تياراً رافضاً لـ"المناورة البرية" لأسباب مختلفة، كان من أبرزها وجوب تأجيل "المناورة" إلى حين تحقيق اختراق حقيقي في مسألة المختطفين/ المأسورين وإعادتهم بواسطة صفقة تبادل، أو لسبب أن القوات البرية (وتحديداً قوات الاحتياط) غير جاهزة للقتال البري وبحاجة إلى فترة من التدريب قبل الالتحاق بالمعركة (موقف الجنرال السابق إسحق بريك مثلاً).[1]
صحيح أن هذا المفهوم قد يبدو مفهوماً بشكل ضمني (من حيث أن نتيجته الدخول البري للقطاع)، لكن الإبحار في المعاني والأبعاد العسكرية للمفهوم يحتمل أموراً أخرى، وهو ما سنحاول أن نتناوله في هذه المساهمة التي ستركّز على مفهوم "المناورة البريّة"، إلى جانب الفرص والمعيقات في تنفيذها كما ورد في الآراء والتحليلات الإسرائيلية.
الصفحة 68 من 859