برهنت ردات الفعل المتواترة على الخطة التي طرحها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بشأن إدارة قطاع غزة بعد الحرب المستمرة ضده، بواسطة وثيقة خاصة عمّمها ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية مؤخراً، على ما يمكن توصيفه بأنه فتور ولا سيما في الولايات المتحدة، وكذلك في إسرائيل أيضاً.
وبإيجاز تنص خطة نتنياهو على أن يتمتع الجيش الإسرائيلي بحرّية غير محدودة للعمل في جميع أنحاء قطاع غزة من أجل منع عودة النشاط المسلح، وعلى أن إسرائيل ستمضي قدُماً في مشروع إقامة منطقة أمنية عازلة في الجانب الفلسطيني من حدود القطاع. ووفقاً للخطة، ستبقى هذه المنطقة العازلة قائمة طالما كانت هناك حاجة أمنية إليها. كما تشمل الوثيقة مجموعة مبادئ تحدّث عنها نتنياهو منذ بداية الحرب يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تقديمها رسمياً إلى المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية - الأمنية ("الكابينيت") للموافقة عليها. وتدعو الخطة أيضاً إلى تعيين مسؤولين محليين ذوي خبرة إدارية، وغير مرتبطين بدول أو كيانات تدعم "الإرهاب"، لإدارة الشؤون المدنية في قطاع غزة بدلاً من حركة حماس، والتعاون مع مصر لوقف التهريب إلى غزة، وقيام دول عربية بتمويل إعادة إعمار القطاع، وإغلاق منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). كما تدعو إلى نزع سلاح قطاع غزة، وإلغاء "تطرّف" سكانها من خلال القيام بإصلاحات جذرية في جميع المؤسسات الدينية والتعليمية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية في غزة.
وبمتابعة ما نُشر حتى الآن في شتى وسائل الإعلام الإسرائيلية يرجع سبب هذا الفتور إلى أسباب عديدة، منها أن خطة نتنياهو ليست سوى خلاصة لمؤتمرات نتنياهو الصحافية المتعددة، ولا تُعتبر مخططاً سياسياً، وأنها كتبت فقط من أجل تهدئة الأميركيين الذين يلحون عليها، ويسعى فحواها أكثر من أي شيء آخر إلى عدم إثارة غضب كل من الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، مثلما صرّح مصدر مسؤول في "الكابينيت" لقناة التلفزة الإسرائيلية 12.
بيد أن الأهم من ذلك كله هو إقرار الكثير من المحللين في إسرائيل، في سياق الكتابة الإسرائيلية التي تروم أن تصل إلى معنى، بأن ما يوصف بأنه "اليوم التالي للحرب" ليس قريباً كما يتصوّر البعض، حسبما أكد مثلاً المحلل العسكري لقناة 12 نير دفوري، والمراسل السياسي لهذه القناة يارون أبراهام (موقع قناة 12، 23/2/2024)، وكذلك الباحث ميخائيل ميلشتاين، الذي سبق له أن تبوأ مناصب رفيعة في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" ("يديعوت أحرونوت"، 25/2/2024). فهؤلاء وغيرهم يقدمون قراءات لسير الحرب لا تتماشى مع التقارير الرسمية ولا تحتكم إلى المعايير الدعائية.
ويشدّد ميلشتاين على أن "اليوم التالي" ليس قاب قوسين أو أدنى، مثلما يمكن أحياناً أخذ الانطباع عنه من الخطاب الإسرائيلي السائد، ذلك أن يحيى السنوار لا يزال حيّاً، والقتال في غزة يتواصل، ناهيك عن أن قسماً مهماً من المنظومة العسكرية لحماس كُتب له البقاء، والحركة نفسها ما زالت لها سيطرة جماهيرية حتى في الأماكن التي عمل فيها الجيش الإسرائيلي وعلى رأسها شمال القطاع. وباختصار ينبغي القول، على ما يؤكد الباحث نفسه، بأن أهداف وثيقة نتنياهو التي نشرت لن تتحقق إلا مع تقويض حُكم حماس، وهو هدف لا يمكن حالياً تحديد متى وكيف سيتحقق. بالتوازي مع ذلك، يشير دفوري وأبراهام إلى أن الحملة العسكرية الإسرائيلية على رفح في جنوب القطاع، والتي يتم التعويل عليها من جانب نتنياهو وحكومته بغية تقريب "اليوم التالي"، يبدو أنها لن تبدأ قبل نهاية شهر آذار المقبل، على الرغم من محاولات رئيس الحكومة تسريع المخطط العسكري لهذه الحملة. وسبب التأجيل، برأيهما، هو أن حملة بهذا الحجم تستوجب تنسيقاً مع الأميركيين والتوصل إلى تفاهمات، إلى جانب التنسيق مع المصريين، وسلسلة من النشاطات داخل القطاع نفسه، فضلاً عن مسألة اللاجئين والإجلاء المطلوب للسكان المدنيين من المنطقة. وثمة من يعتقد جازماً بأنه حتى تلك العملية في رفح لن تجعل ذلك اليوم قريباً. ومثلما كتب المحلّل السياسي الإسرائيلي رفيف دروكر، فإن الجيش الإسرائيلي "نجح حتى الآن في إضعاف القدرات العسكرية لحماس عدة درجات. لكن ربع درجة إضافية قد يمكن إضافتها في رفح لن تشكل تغييراً كبيراً. والادعاء بأن السيطرة على محور فيلادلفيا (محور صلاح الدين) ستقطع الأوكسجين عن حماس غير مقبول. فلقد سيطرنا على هذا المحور أعواماً طويلة، وبالرغم من ذلك استطاعت حماس تهريب الأدوات القتالية والسلاح، واستغلت وجودنا هناك لتنفيذ عمليات" ("هآرتس"، 23/2/2024).
عموماً، حتى لدى الإصغاء إلى ما يصدر عن خبراء إسرائيليين من تحليلات سنتبين أن ما يتطلع إليه نتنياهو هو ليس أكثر من الحفاظ على بقائه، وفي سبيل ذلك فهو يتمسك باستمرار الحرب من جهة، وائتلافه الحكومي مع اليمين المتطرف واليهود الحريديم من جهة أخرى.
وتتجه الأنظار في الوقت الحالي إلى الولايات المتحدة، إذ أثبتت بعض المستجدات أن حجم الدعم الدولي الذي تمنحه واشنطن إلى إسرائيل بات موضع مراجعة وإعادة نظر. وبموجب ما تؤكد تحليلات كثيرة، بما فيها تلك الصادرة عن أصوات مقربة من نتنياهو، تتحدّث إدارة الرئيس جو بايدن الآن عن رئيس الحكومة نتنياهو بلهجة لم تُسمع في واشنطن حتى عندما صمم هذا الأخير على إلقاء الخطاب في الكونغرس، في العام 2015، ضد الاتفاق النووي مع إيران، على الرغم من معارضة الرئيس، حينها، باراك أوباما. ومع أن بايدن، الذي كان نائب أوباما آنذاك، مقرّب من إسرائيل أكثر من سلفه الديمقراطي في المنصب، فإنه يبدو أن صبر واشنطن إزاء كل ما يخص موقف نتنياهو وتصريحاته وألاعيبه بدأ بالنفاد ("هآرتس"، 23/2/2024).
المصطلحات المستخدمة:
بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, هآرتس, باراك, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو