المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • على هامش المشهد
  • 2242

 


أضواء على منطقة "نيتساني شالوم" الصناعية على خط التماس مع الضفة الغربية

 


السيادة اليهودية الفظة حين تمتزج بجشع جامح واستغلال بشع للعمال وتلويث للبيئة والهواء والماء بمواد كيميائية سامة!

 

 

 

بقلم: عيدان لاندو (*)

 

ليس من المعروف ما الذي جال في خاطر موظفي وزارتي المالية والتجارة والصناعة الإسرائيليتين في أوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما قرروا تدشين منطقة صناعية على خط التماس (في شمالي الضفة الغربية) تحت اسم "نيتساني شالوم" ("براعم السلام"). لعلهم استوحوا هذه التسمية من قصيدة عنوانها "نيتساني شالوم"، كتبها شاعر يهودي في العام 1918، بوحي من التأثير الشديد لـ "وعد بلفور" (1917). وعموما فقد أبدى العالم اهتماما بهذه المنطقة الصناعية، طوال ثلاثين عاما مضت على قيامها، أكبر بكثير من الجمهور الاسرائيلي الذي بالكاد سمع عن وجودها. وما رآه وسمعه العالم كان صادما جدا، ذلك لأنه تضافرت في منطقة "نيتساني شالوم" عدة شرور مستطيرة لدولة اسرائيل، انتجت توليفة سامة وبغيضة بشكل خاص: سيادة يهودية فظة ممزوجة بجشع جامح واستغلال بشع للعمال وتلويث للبيئة والهواء والماء بعديد من المواد الكيميائية السامة، وكل ذلك وسط انتهاك لكل القوانين. إن ما نتج، وما زال ينتج طوال الوقت، عن منطقة "نيتساني شالوم"، هو الفطر السام للاحتلال والاستغلال. وهذا الوجه للاحتلال، وجه البيروقراطية والصناعة والتمييز العنصري الممأسس، لا يظهر جيدا في الصور مثلما يظهر قيام جنود من "حرس الحدود" باطلاق الرصاص الحي على فتية فلسطينيين، وذلك على الرغم من أن هذه الممارسات أودت بحياة أربعة على الأقل من عمال مصانع "نيتساني شالوم"، وأضرت بصحة الآلاف.

 


مع ذلك فإن هذه الصور البشعة تمر بشكل دائم من دون أن تلتقطها رادارات وعدسات وسائل الإعلام الاسرائيلية (باستثناء حالات شاذة أو قليلة جدا).

 


حقائق أولية

أقيمت منطقة "نيتساني شالوم" الصناعية في العام 1985 على أراض فلسطينية تقع إلى الشرق من الخط الأخضر، ولم يجر الحديث منذ البداية عن مشروع فلسطيني (وإن كانت ملكية الأرض تعود لفلسطينيين؟!) وإنما مشروع تقتضي شروطه الأولية أن يكون أصحاب المصانع اسرائيليين، وأن يكون عمالها عربا فلسطينيين (من الضفة الغربية بشكل أساس، ومن مواطني إسرائيل أيضا). أما السؤال: لماذا لم تسمح إسرائيل باقامة مصانع بملكية فلسطينية؟! فجوابه: حين قلنا "سلاما اقتصاديا" لم نقصد "مساواة اقتصادية"!

 


وبالتدريج إنضمت للمصنع الأول في المنطقة مصانع أخرى، خاصة بعد اتفاقيات أوسلو، وأخذت المنطقة تتوسع وتمتد- من دون خريطة هيكلية وبشكل فوضوي تماما- إلى أن بلغ عدد المصانع القائمة فيها حاليا حوالي 13 مصنعا تقوم على مساحة تزيد عن 50 دونما، ويبلغ عدد العمال الفلسطينيين في هذه المصانع 500 عامل، غالبيتهم من طولكرم. وتعالج المصانع الكبيرة في المنطقة (في نطاق عملها وانتاجها) مواد كيميائية ذات خطورة بيئية عالية بشكل خاص، مثل مصنع "كيشت بريما" (ينتج أسمدة زراعية وتملكه عائلة غاشوري) و "سولئور لصناعات الغاز، و "طال- إل" لجمع وإعادة تصنيع النفايات، و"إنترسوبل" لانتاج الأسمدة والمبيدات الزراعية. وتقع منطقة "نيتساني شالوم" الصناعية من الجهة الشرقية على تخوم أحياء مدينة طولكرم، ومن الجهة الغربية على مقربة من جدار الفصل، كما أنها محاطة من الشرق بسور داخلي يفصل بينها وبين طولكرم، وتوجد فيه بوابة حديد صغيرة، تفتح في الساعة السابعة صباحا لدخول العمال، ثم يعاد إغلاقها، وتفتح ثانية لخروج العمال مرة عند الساعة الرابعة عصرا ومرة أخرى عند الساعة السادسة مساء. بين هذه الجدران، التي تجعل المنطقة أشبه بغيتو عمال، تحدث خلال النهار أمور لم يكن لها لتحدث في فضاء مفتوح وعلني.

 


تقفل مصانع المنطقة أبوابها في نهايات الأسبوع فقط، وفي حالة خاصة واحدة، حين تهب رياح شرقية (؟!) وسيتضح لنا سبب ذلك لاحقا.

 


الفكرة والملهم: رأسمالية كولونيالية

كما هو معروف فإن صاحب فكرة المناطق الصناعية المنتشرة على إمتداد خط التماس، هو شمعون بيريس. في خطبة المجنحة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم يسمها بيريس "مناطق صناعية"، وانما أطلق عليها "حدائق صناعية"، وسوق لكل زعماء العالم خدعة أن اسرائيل تخرج عن طورها (ومن جدار فصلها) من أجل توفير فرص عمل وبحبوحة معيشة للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، ولا تقوم فقط باعتقال الأطفال تحت جنح الظلام أو إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. وفي الواقع فقد قامت رؤية بيريس للسلام على تحويل الإحتلال من دمل نازف إلى "ستارت – أب" اقتصادي، هذا في حين أن المنطق الذي وقف خلف مشاريع المناطق الصناعية بين قلقيلية وطولكرم، كان منطقا كولونيالياً بامتياز، صاغة موظفان كبيران في وزارة الصناعة والتجارة ووزارة الخارجية في العام 1995 على النحو الآتي:

 


"الفرضية الأولية في إقامة المناطق الصناعية هي أننا ذاهبون لمساعدة الفلسطينيين، ومما لا شك فيه أن المجتمع الدولي سيتجند طواعية لدعم هذا الموضوع. البنية التحتية ستكون إسرائيلية، كذلك سيكون التخطيط إسرائيليا، أما الإقامة الفعلية لهذه المناطق فيمكن أن تتم بواسطة آلاف العمال العاطلين عن العمل من المناطق.. في إسرائيل سيجد أصحاب هذه الشركات جدوى هائلة من اختراعات العقل اليهودي، إذ سيكون في مقدورهم استغلال الفرصة في الحصول على عمل رخيص للعمال من المناطق".

 


لقد لوح الموظفان بفخر واعتزاز بالأفضلية المحلية ("اختراعات" العقل اليهودي) المتمثلة بـ "العمالة الرخيصة"، أي الأيدي العاملة العربية. ولعل من المهم التأكيد على هذا الموضوع لأنه يسود لدى معسكر السلام الاسرائيلي، الساذج، إعتقاد لا أساس له، مفاده أن فكرة السلام الإقتصادي التي تضمنتها اتفاقيات أوسلو، تقوم على رؤية متساوية للطرفين. إنه وهم سخيف، فاليهود لم يتخلوا أبدا عن الفرضية الأساس الصهيونية بأن العرب تحركوا دائما على المحور بين كونهم "مشكلة" و "مورد" وأنهم ليسوا بشرا لهم حقوق متساوية وكيان مستقل.

 


في تحليل ثاقب لتكتل المصالح خلف إقامة منطقة "نيتساني شالوم" الصناعية، رسم غادي الغازي، الخطوط العريضة للظاهرة على النحو الآتي:

 


"تدعى هذه الظاهرة رأسمالية كولونيالية: بناها التحتية – جدران، حواجز، جيش – توفرها الدولة، المنطقة التي تقوم عليها جيب يخضع لسيطرة قوة الاحتلال، ولكن خارج القانون، العمال الأصلانيون يجتازون عملية مختصرة من الاندماج في رأسمالية خنزيرية: فهم يفقدون وسائل انتاجهم (الأراضي)، وينفصلون عن مصادر الرزق السابقة (الجدار وحواجز التفتيش)، وحين يستنجدون طلبا للعمل، يتحولون إلى قوة عمل جيدة، إلى بروليتاريا يعملون لدى الأسياد المستثمرين.. إن الحواجز لا تشكل فقط انتهاكا لحقوق الإنسان، وانما هي أيضا أداة أخضاع وانضباط، وهي توفر قوة بشرية.. إنها جزء من البنية التحتية الاقتصادية للرأسمالية الكولونيالية".

 


هذا النموذج لم يظهر بين ليلة وضحاها، بل هو ثمرة جهود إسرائيليين كثر، عرفوا ووجهوا لمقاصد شريرة تقصيرات إسرائيليين آخرين ولا مبالاة الأكثرية الصامتة.

 


تاريخ من الاستخفاف بالقوانين

لم تجلب منطقة "نيتساني شالوم" معها منذ قيامها أية بشائر سلام، وانما جلبت فقط مظاهر سلب ونهب وظلم واضطهاد. في العام 1985 نقلت صناعات غاشوري مصنع "كيشت بريما" الذي يملكه الأخوان بن تسيون ورعنان غاشوري، من "بيت ليد" إلى منطقة قريبة من طولكرم، وذلك بعدما واجه المصنع تهديدات قضائية لما يتسبب به من تلويث للبيئة. وتبين محاضر نقاشات أجرتها لجنة برلمانية فرعية للشؤون البيئية في العام 2000، كيف تهرب أصحاب المصنع وممثل وزارة جودة البيئة مرارا وتكرارا من الاجابة على سؤال رئيس اللجنة، عضو الكنيست أحمد الطيبي، حول الظروف التي نقل فيها المصنع إلى منطقة "نيتساني شالوم". وقد أجريت تلك النقاشات على خلفية شكاوى سكان مدينة طولكرم، الذين تقع بيوت قسم منهم على مسافة أمتار معدودة من المصنع، حول تسرب مواد سامة تلوث مياه المنطقة.

 


بعد انتقال مصنع غاشوري، أخذت السلطات الاسرائيلية تشجع نقل وإقامة المزيد من المصانع في المنطقة، والتي استغل المستثمرون الإسرائيليون فيها حقيقة أنه يمكن في هذه المنطقة إقامة مصانع كيميائية تلوث البيئة بحرية ومن دون قيود أو تحمّل مسؤولية النتائج، وضمان تدفق الأيدي العاملة الفلسطينية بصورة متواصلة ومريحة من المدينة المجاورة، وبأجور زهيدة تضاهي أجور العبيد من دون الإكتراث بسلامتهم وشروط عملهم ذلك لأن القانون الذي يسري على المنطقة هو "القانون الأردني"، فضلا عن أنها تقع في المنطقة ج، مما يعفي أصحاب المصانع من دفع ضريبة الأرنونا.

 


ولم يكترث أصحاب المصانع والسلطات الاسرائيلية المشجعة لهم بالنواحي القانونية و"صغائر الأمور"، من قبيل كون نصف مساحة الأراضي التي تقوم عليها مصانع المنطقة هي أراض فلسطينية خاصة، والنصف الآخر "أراضي دولة" يحظر القانون الدولي استخدامها ما عدا لأغراض عسكرية مؤقتة (من جانب إسرائيل في هذه الحالة). ووفقا لما ورد في وثيقة للإدارة المدنية الاسرائيلية اقتبس منها مراقب الدولة في تقريره للعام 2011، فقد "استولى أصحاب مصانع في المنطقة الصناعية على حوالي 25 دونم أراضي دولة". غير أن وظيقة الإدارة المدنية في هذه القصة مركبة أكثر، فهي ليست فقط السلطة الموبخة، وانما أيضا السلطة التي تجيز وتصدر التراخيص. وقد كشفت إحدى القضايا (المتعلقة بنهب واستغلال الأراضي في المنطقة الصناعية ذاتها) التي بحثت في المحكمة الاسرائيلية العام 2009، غيضا من فيض الفساد المتفشي في هذه الذراع السلطوية الاسرائيلية في الضفة الغربية. وتظهر صورة الوقائع حالة التسيب التام التي سادت في كل ما يتعلق باقامة المصانع في منطقة "نيتساني شالوم"، والتي تذكر باقامة وتنامي المواقع الاستيطانية غير القانونية في الضفة الغربية. فكل الأطراف في هذا الموضوع متورطة في مخالفة القانون (سواء المتعدين أو الدولة) ومع ذلك توفر الدولة الحماية للمتعدين على القانون (أصحاب المصانع)، فهي تخصص لهم قوات حراسة وتشق الطرق وتمتنع عن تطبيق القانون، ثم تخترع في نهاية المطاف طريقة لإضفاء الشرعية على أعمالهم.

 


ويتضح من تقرير مراقب الدولة (2011) حول المنطقة الصناعية "نيتساني شالوم/ مسيلة"، أن الإدارة المدنية وثقت بأدق التفاصيل كل انتهاكات القانون التي ارتكبها أصحاب المصانع، لكنها لم تتخذ أي إجراء وقائي أو عقابي ضدهم، وهذه ظاهرة اسرائيلية معروفة، فأصحاب الوظائف التنفيذية يعملون في مثل هذه الحالات كمحللين وليس كممثلين للجمهور والقانون.

 


وعلى سبيل المثال، جاء في فقرة تضمنها التقرير المذكور:

 


"في تشرين الثاني 2007 نوقشت في الإدارة المدنية المشاكل القائمة في منطقة مسيلة نيتساني شالوم ومنها: تعمل المنطقة الصناعية دون وجود جهة إدارية، أقيمت مبان ليس بموجب الخطة المقرة، شيدت مبان على أراض فلسطينية خاصة، نقص في بنى تحتية أساسية، مثل شبكات الصرف الصحي والمياه والشوارع، تأجير (أراض ومنشآت) من دون اتفاق مسبق مع الإدارة المدنية، تشغيل فلسطينيين من دون الحصول على تصاريح تشغيل، تسبب بأضرار بيئية". ويشير ذلك إلى أن السلطة تتحدث هنا بصوتين: الصوت الشرعي – القانوني، مجرد "رغوة تطفو على سطح الماء"، والصوت السياسي الذي يمثل تيارات العمق الثابتة. والشرعية ليست سوى غطاء شفاف للقوة السياسية الخام. صحيح أن ممثلي الإدارة المدنية ينذرون ويحذرون أصحاب المصانع، وأحيانا يصدرون أوامر وقف عمل وهدم، لكنهم لا ينفذون تهديداتهم، وسرعان ما تعود الفوضى لتعم كما كانت. فهؤلاء الموظفون، من أصغرهم وحتى أكبرهم، يعلمون جيدا بأنه لا يجوز تنفيذ أوامر هدم دون هزة رأس (موافقة) من وزير الدفاع.

 


يتطلب الاستيطان الاسرائيلي كما هو معروف تدابير حماية وتحصينات، وتتطلب هذه بدورها أراضي، والأراضي متوفرة لدى الفلسطينيين، وهكذا يستمر مسلسل المصادرات. كذلك الحال بالنسبة لمنطقة "نيتساني شالوم/ مسيلة" الصناعية، التي أقيمت شرق جدار الفصل. ففي العام 2004 شُرِع ببناء جدار حماية إضافي للمنطقة إلى الشرق من جدار الفصل، ليفصل بينها وبين مدينة طولكرم. وفي نهاية العام 2005 "اكتشفت" الادارة المدنية أن الجدار الإضافي يخرج عن المسار الذي حدد له، ويلتهم مساحة (5ر2 دونم) من الأراضي الزراعية الواقعة بملكية فلسطينية خاصة، فأصدرت أوامر وقف عمل وأوامر هدم لمنشآت أقامها أصحاب المصانع الاسرائيليون. غير أن الادارة المدنية، كما ذكر تقرير مراقب الدولة (للعام 2011)، لم تنفذ أوامر الهدم رغم مرور ستة أعوام على صدورها، وبالتالي بقيت الأراضي الفلسطينية الخاصة مسلوبة بصورة غير قانونية، علما أن سريان أمر الإستيلاء عليها انتهى مفعوله في نهاية العام 2005، ولم يجر تجديده منذ ذلك الحين. وهكذا فقدت أهملت الشرعية التظاهرية في هذه الباحة الخلفية للاحتلال. وباختصار، فقد سلب مستثمرون يهود أراضي عربية خاصة بغية جني أرباح سهلة، ثم سلبوا بعد ذلك مزيدا من الأراضي الخاصة لحماية أرباحهم، وكل ذلك وسط خرق للقانون الدولي، والقانون الاسرائيلي أيضا، تحت بصر السلطة اليهودية.

 

 

 

[للبحث صلـة]

 


________________________________

 


(*) أستاذ جامعي إسرائيلي. المصدر: شبكة الانترنت. ترجمة خاصة.

 

 

 

 

 

 

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات