علاقات مأزومة بين إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة
*إسرائيل تنظر إلى مواطنيها الذين هاجروا إلى أميركا على أنهم "خونة"* الجيل الشاب من اليهود الأميركيين يعارض سياسة الاحتلال والاستيطان*
كتب بلال ضـاهر:
تدل معطيات واستطلاعات الرأي العام التي تجري بين اليهود في الولايات المتحدة، سواء اليهود- الأميركيين أو الإسرائيليين - الأميركيين (أي المولودين في إسرائيل وهاجروا إلى الولايات المتحدة)، على أن الجيل الجديد من الشبان اليهود يبتعد عن اليهودية وعن إسرائيل لصالح الاندماج، وحتى الانصهار، في المجتمع الأميركي، الذي يمر في هذه الأثناء بتحولات اجتماعية كبيرة، أبرزها الابتعاد عن الدين. ويتبين، أيضا، أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو أحد أسباب ابتعاد الجيل الشاب، وخاصة بين اليهود الأميركيين، عن إسرائيل.
وفي إطار مؤتمر اتحاد المنظمات اليهودية في أميركا الشمالية، الذي يعقد مرة كل خمس سنوات في القدس، وعُقد الأسبوع الماضي، تم تخصيص جلسة ناقشت أحوال الإسرائيليين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة سعيا وراء العمل والدراسة وبقوا هناك وأصبحوا مواطنين أميركيين. وقد أسس هؤلاء الإسرائيليون - الأميركيون مؤخرا منظمة أطلقوا عليها اسم "الجالية الإسرائيلية - الأميركية". وحذروا خلال جلسة المؤتمر من أن أبنائهم، أي الجيل الثاني من الإسرائيليين - الأميركيين، يبتعدون تدريجيا عن إسرائيل، ومن أن التخوف هو على الجيل الثالث، الأحفاد، الذي يتوقع أن ينصهر بالكامل في المجتمع الأميركي مع كل ما يترتب على ذلك من تبعات التحولات الجارية في المجتمع الأميركي. ولذلك كان عنوان هذه الجلسة "المورد الضائع".
وبيّن تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" (8.11.2013)، أن مؤسسي "الجالية الإسرائيلية - الأميركية" هم من المهاجرين الإسرائيليين الذين تمكنوا من جمع ثروة خلال عملهم على مدار عشرات السنين الأخيرة في الولايات المتحدة. ويبدو أنهم مؤيدون لليمين الإسرائيلي، إذ أن ضيف الشرف في احتفال أقاموه في ذكرى تأسيس إسرائيل، هذا العام، كان شيلدون أدلسون، الملياردير الأميركي الذي يعتبر الداعم الأكبر لرئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وأحد أبرز ممولي الحملات الانتخابية للحزب الجمهوري ومرشحه في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، ميت رومني. لكن هذه المنظمة لم تنجح حتى الآن في أن تجمع تحت لوائها جميع الإسرائيليين - الأميركيين، الذين يقدر عددهم ما بين نصف مليون إلى 800 ألف مهاجر إسرائيلي.
"أحفادنا لن
يكونوا يهودا"
عبر آدم ميلشطاين، وهو أحد مؤسسي "الجالية الإسرائيلية - الأميركية"، ولديه ثلاث بنات، عن مخاوفه من المستقبل بالقول: "ارتكبنا خطأ كبيرا. لقد أرسلنا البنات إلى جهاز التعليم العام، وهكذا ابتعدن عن اليهودية. وأدركنا فجأة أنه ليس فقط نحن أنفسنا لم نعد إسرائيليين، وبناتنا بالتأكيد لم تعدن إسرائيليات، وإنما أن أحفادنا المولودين في الولايات المتحدة لن يكونوا يهودا أيضا. وأعتقد أننا تأخرنا في إدراك ذلك".
وأشار رئيس "الجالية الإسرائيلية- الأميركية"، شارون إيفن- حاييم، إلى أنه قلق مما سيحدث للجيلين الثاني والثالث، معتبرا أن احتمال زواج ابنه من غير يهودية هو "أمر خطير جدا بالنسبة لي". وأضاف "لا أرى بنفسي يهوديا من دون إسرائيليتي، فإسرائيل هي مركز يهود العالم". ورأى أن انصهار اليهود في المجتمع الأميركي هو "تهديد كبير جدا، ومسؤولية منع حدوث هذا الأمر ملقاة علينا".
وقال مدير عام "الجالية الإسرائيلية - الأميركية"، ساغي بالشا، إن أولاده أصبحوا أميركيين "فهم يتحدثون باللغة الانكليزية غالبا، ويحتفلون بعيد ليلة جميع القديسين وعيد الميلاد. وعموما فإن الجيل الأول يتحدث ويقرأ ويكتب بالعبرية، والجيل الثاني يتحدث العبرية فقط، وهذا ليس دائما، لكنه لم يعد يقرأ ويكتب بالعبرية، والجيل الثالث لا يتحدث العبرية أبدا".
وتبين من استطلاع للرأي العام أجراه معهد الاستطلاعات الإسرائيلي "ميدغام" برئاسة الدكتورة مينا تسيمح، وشمل 2366 شخصا بينهم 1598 إسرائيليا - أميركيا و768 يهوديا أميركيا، أن 94% من المهاجرين الإسرائيليين إلى أميركا يتحدثون العبرية بمستوى لغة أم، وأن هذه النسبة انخفضت لدى الجيل الثاني إلى 57%. وقالت تسيمح "لم نفحص الجيل الثالث، لكن من الواضح أنه إذا كان هناك انخفاض في هذه النسبة لدى الأبناء، فإن الأرقام ستكون منخفضة أكثر بكثير لدى الأحفاد". كذلك تبين أن الزيجات المختلطة لدى الجيل الأول هي بنسبة 7%، وارتفعت بين الجيل الثاني إلى 17%.
وتناول الاستطلاع تعريف المهاجرين الإسرائيليين لهويتهم. وقال 83% من الذين يعيشون في أميركا منذ أقل من خمس سنوات إنهم "إسرائيليون"، و17% عرفوا أنفسهم بأنهم "إسرائيليون - أميركيون". وفي المقابل فإن 55% من الذين يعيشون في أميركا منذ فترة تتراوح ما بين 10 – 20 سنة عرفوا أنفسهم بأنهم "إسرائيليون". وبين أولئك الذين يعيشون منذ أكثر من 20 سنة في أميركا عرف 27% منهم أنفسهم بأنهم "إسرائيليون"، بينما عرف 73% أنفسهم بأنهم "إسرائيليون - أميركيون". وعقبت تسيمح على ذلك بالقول إن "هذا يعني أن الهوية الإسرائيلية تتبدد مع مرور السنين".
لكن رؤساء "الجالية الإسرائيلية - الأميركية" عبروا عن رضاهم من نتائج الاستطلاع المتعلقة بالتزام الإسرائيليين في أميركا تجاه إسرائيل. فقد قال 72% إنهم يزورون إسرائيل مرة كل سنتين. لكن يتبين أن وتيرة مثل هذه الزيارات تتراجع كلما قضى الإسرائيلي فترة أطول في الولايات المتحدة. إلا أن المعطى الأهم بنظرهم هو أن 83% قالوا إن مواقف المرشح للرئاسة الأميركية أو للكونغرس تجاه إسرائيل يؤثر على شكل تصويتهم.
غير أن ميلشطاين لفت، من الجهة الأخرى، إلى تعامل إسرائيل السلبي مع الإسرائيليين - الأميركيين، والذي يصل أحيانا إلى حد وصفهم بـ "الخونة". وقال "لم يأبه بنا أحد في الماضي. والآن ارتقينا درجة وأصبحنا نازلين من إسرائيل وليس صاعدين إليها. كذلك فإن المجتمع اليهودي - الأميركي لا يتعامل معنا دائما. والنتيجة هي أن شريحة كبيرة جدا يحتاج شعب إسرائيل إليها ذهبت إلى الضياع. لا أحد يريد معانقتها وتبنيها".
وأضاف ميلشطاين "ندرك أن إسرائيل لا تريد تشجيع الهجرة منها، لكننا نريد ألا يروا بنا كنازلين وإنما كسفراء للدولة وكذخر إستراتيجي. ونريد أن تدرك إسرائيل أن التنكر لنا لا ينسجم مع المصلحة الإسرائيلية وإنما العكس. فالدولة تقول لنا: لقد نزلتم من البلاد، فاذهبوا إلى الجحيم. لكن إذا قالت إسرائيل للإسرائيليين - الأميركيين إنهم جنودها، فإن هذا سيمنحهم محفزا لمساعدتها. يوجد هنا أفراد يعملون في مجالات الهاي - تك والأعمال والطب والأكاديميا، وتجاهلهم هو أمر خاطئ. نحن كنز".
وأشار ميلشطاين إلى الفرق بين الإسرائيليين - الأميركيين واليهود الأميركيين. وقال إن "اليهودية في الولايات المتحدة هي ديانة والإسرائيلية هي قومية. ويقول اليهود في الولايات المتحدة: نحن أميركيون أولا وبعد ذلك نحن يهود. ولذلك يوجد انصهار بحجم هائل. وهم ينظرون إلى يهوديتهم على أنها ديانة وقسم كبير منهم لا يشعر بوجود علاقة بينه وبين إسرائيل. ونحن نشعر أننا إسرائيليون ويهود في الوقت نفسه".
"أزمة الصهيونية"
نشر معهد "غالوب" الأميركي استطلاعا، قبل أسبوعين، تبين منه أن 77% من الأميركيين يعتقدون أن الديانات تفقد تأثيرها في الولايات المتحدة. وفي موازاة ذلك تشير دراسات واستطلاعات إلى أن عدد الملحدين في ارتفاع مستمر، وكذلك تأثيرهم على كافة مجالات الثقافة والحياة. وقالت "يديعوت أحرونوت" في تقريرها إن تأثير ذلك على اليهود، الذين يشكلون نسبة 2ر2% من سكان الولايات المتحدة، "يكاد يكون قاتلا".
من جهة ثانية، وفقا للصحيفة، كشف معهد "بيو"، في تشرين الأول الفائت، معطيات حول المجتمع اليهودي - الأميركي، تبين منها أن 71% من اليهود غير المتدينين في الولايات المتحدة يتزوجون زواجا مختلطا، علما أن هذه النسبة كانت 17% في العام 1970. كذلك تبين أن ربع اليهود الأميركيين هم ملحدون، وثلثين منهم لا يذهبون إلى الكنيس، وأنه في بيوت ثلث منهم تم وضع شجرة عيد الميلاد في كانون الأول الماضي.
وتناولت الدراسة قضية "كيفية الحفاظ على العلاقة بين اليهود - الأميركيين الشبان ودولة إسرائيل". وفي هذا السياق تمت الإشارة إلى كتاب من تأليف الصحافي بيتر بايرنت، الذي وصفته الصحيفة بأنه "أحد الأصوات اليهودية الشابة الهامة في أميركا". ورأى بايرنت، تحت عنوان "أزمة الصهيونية"، أن سياسة الاحتلال للأراضي الفلسطينية، إلى جانب التقهقر المتواصل للديمقراطية، يتسبب بفقدان إسرائيل للجيل الشاب اليهودي في أميركا. لكن المؤسستين الحاكمتين في الولايات المتحدة وإسرائيل اعتبرتا أن بايرنت "معاد للسامية" و"يهودي يكره نفسه".
ورأت مراسلة "يديعوت أحرونوت" في لوس أنجلوس، تسيبي شميلوفيتش، أن التعامل مع بايرنت كان خاطئا "لأن كل من يعيش الواقع الأميركي، وليس في اليوتوبيا التي تُسوّق في إسرائيل، يعرف أنه هكذا هو الوضع تماما". وقد قال 69% من اليهود - الأميركيين في استطلاع "بيو" إنهم "يشعرون بوجود علاقة عاطفية عميقة تجاه إسرائيل"، واعتبر 40% أن "الرب منح دولة إسرائيل للشعب اليهودي". لكن 17% فقط يعتقدون أن سياسة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية والبناء في المستوطنات تصب في صالح إسرائيل.
ورأت شميلوفيتش أنه "خلافا للاعتقاد السائد في إسرائيل، فإن اليهود - الأميركيين يصوتون بشكل تقليدي وجارف للديمقراطيين. وباراك أوباما، الذي ربما يكون الرئيس الأكثر تعرضا للانتقادات من جانب اليهود - الأميركيين، حصل على 72% من أصواتهم في الانتخابات التي جرت قبل عام. فاليهود - الأميركيون هم ليبراليون جدا في المواضيع الاجتماعية وتتزايد معارضتهم للاتجاه الذي تسير فيه دولة إسرائيل. وفي هكذا وضع، ليس عجيبا أن أسرا كثيرة تعتقد أن الأمر ليس خطيرا إذا تزوجت ابنتهم من طبيب يهودي".
وخلصت شميلوفيتش في مقالها إلى أن "تجاهل إسرائيل للواقع المتغير في أميركا لن يؤدي إلى تغييره. وإذا كانت دولة إسرائيل تعتقد فعلا أن الحفاظ على اليهودية في أميركا كقوة كبيرة وقوية هي مصلحة هامة لها، فإنه حان الوقت ليس فقط للسماح للإسرائيليين بالانتقال للسكن هناك من دون أن يشعروا أنهم خوَنة، وإنما البدء في التعامل معهم على أنهم كنز. لأنه في هذه المرحلة، فإن الإسرائيليين في أميركا، وليس اليهود الذي ولدوا هناك، هم الذين يحافظون على اليهودية".
وهناك جانب آخر في العلاقة بين إسرائيل وبين اليهود في أميركا والعالم عموما، وهو الجانب المتعلق بالأموال الطائلة التي يتبرع بها يهود العالم لإسرائيل، بينما لا توجد مساهمة كهذه من جانب أثرياء إسرائيل.
وقال رئيس مؤتمر اتحاد المنظمات اليهودية في أميركا الشمالية، روني دويك، إنه "يوجد هنا [في إسرائيل] نحو عشرة آلاف مليونير، لكن 10% منهم فقط يتبرعون بأكثر من 100 ألف شيكل في السنة، وهذا ربع ما هو متعارف عليه في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك اضطر القطاع المدني في إسرائيل، على مدار سنين طويلة، إلى الاعتماد على الإحسان اليهودي في العالم. ويدعى المجتمع اليهودي - الأميركي في السنوات الأخيرة أن النخبة الغنية في إسرائيل لا تستثمر بالشكل الكافي في مبادرات تجارية محلية".
وحذر دويك من أن "الجيل الجديد من الأميركيين، الذي يقرأ عن الأثرياء في إسرائيل، يتساءل لماذا يتعين الاستثمار في إسرائيل، وربما من الأفضل أن يستثمر في مجتمعاته هناك؟. وأعتقد أنه محق. وحان الوقت لنتوقف عن التصرف كمتسولين والبدء في إدارة علاقات متساوية وفي كلا الاتجاهين مع يهود العالم على أساس الاحتياجات المشتركة لجميعنا".