عملية "تساريفت": قصة احتجاز خمسة سجناء إكس من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
بعد افتضاح قضية "السجين إكس"، عميل الموساد بن زيغير، الذي كان مسجونا في إسرائيل بشكل سري للغاية وبهوية مزورة، تكشفت قضايا مشابهة أخرى، احتجزت خلالها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية سجناء وأسرى بشكل سري، قبل عشرات السنين. وإذا كانت إسرائيل تدعي، في حالة زيغير، أن سجنه كان خاضعا لرقابة الجهاز القضائي وبمعرفة عائلته، فإن حالات مشابهة أخرى، اختطف الموساد فيها أشخاصا، وحقق الشاباك معهم وعذبهم، لفترة معينة، لم تكن فيها أية رقابة على هؤلاء "السجناء إكس".
إحدى هذه القضايا تحمل اسم "تساريفِت"، أي الحرقة في المعدة، ومتعلقة بعملية "تساريفت" التي نفذها الموساد، في 25 كانون الثاني من العام 1976، واختطف خلالها خمسة أشخاص، ثلاثة فلسطينيين وألمانيين، من كينيا وأحضرهم إلى إسرائيل. وكشف تقرير أعده محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رونين بيرغمان، تفاصيل جديدة عن هذه العملية، يوم الجمعة الماضي.
رابين يحذر من
تسريب معلومات
في 30 حزيران العام 1976 عقد رئيس الحكومة الإسرائيلية، إسحق رابين، اجتماعا طارئا ومغلقا لحكومته، بعد ثلاثة أيام من اختطاف مسلحين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طائرة تابعة لشركة الطيران الفرنسية، وعلى متنها 103 مسافرين، بينهم 83 إسرائيليا، وحطت في مطار عينتيبة في أوغندا. وطالب الخاطفون، مقابل إطلاق سراح الرهائن، أن تفرج إسرائيل عن أسرى فلسطينيين في إسرائيل ودول أوروبية، وبينهم خمسة أسرى، كانت الجبهة الشعبية تعتقد أنهم محتجزون في كينيا.
وقال رابين لوزرائه "استدعيتكم لاجتماع الحكومة من أجل أن أقدم لكم تقريرا حول الوضع وأين تقف الأمور فيما يتعلق باختطاف الطائرة... وأعتقد أن أية معلومات ستتسرب اليوم يمكن أن يكون ثمنها حياة أشخاص. لذلك، فإنني أطلب ألا نتصرف في هذه القضية كعادتنا" في إشارة إلى التسريبات المتكررة للصحافة من اجتماعات الحكومة.
ووفقا لبيرغمان، فإن الغضب الذي بدا على رابين خلال اجتماع الحكومة سببه حصول رئيس الشاباك على معلومات بأن سرا خطيرا حافظت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على كتمانه طوال الشهور الخمسة السابقة، قد تسرب ووصل إلى وسائل الإعلام.
وتحدث رابين إلى وزرائه عن "السر" بالتلميح، قائلا إن "المخربين يطالبون بتحرير 40 مخربا موجودا في إسرائيل... إضافة إلى ذلك طالب المخربون بتحرير خمسة آخرين من كينيا... وهذا يمكن أن يتحول إلى واحد من أكثر الأمور خطورة. وحكومة كينيا صامدة بشكل جيد وتدعي أنه لا يوجد كهؤلاء لديها. ليتنا نصمد مثلها ونمتنع عن الثرثرة الإسرائيلية والتسريبات. وإذا كان شيء ما يمكن أن يسبب كارثة في هذه الفترة فهو الثرثرة الإسرائيلية. وأنا أعتمد على الكينيين أكثر مما أعتمد على الثرثارين الإسرائيليين".
وقد تمكنت إسرائيل من الحفاظ على "السر" لأكثر من عام، وهو أنها احتجزت حمسة "سجناء إكس"، تم اختطافهم من كينيا وأحضروا إلى إسرائيل وتمت محاكمتهم بسرية تامة. واعترف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في حينه، شلومو غازيت، قبل عشرة أيام تقريبا، بأنه صادق شخصيا على سجن "السجناء إكس" الخمسة، لكنه رفض الإفصاح عن أية تفاصيل أخرى.
جاسوس إسرائيلي
داخل الجبهة الشعبية؟
وفقا للمعلومات التي يسردها بيرغمان، استنادا إلى ضباط في الاستخبارات الإسرائيلية في ذلك الحين، فإن وديع حداد، نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خطط لعملية ضد طائرة مسافرين تابعة لشركة "إل عال" الإسرائيلية في مطار العاصمة الكينية نيروبي. وتقرر أن ينفذ هذه العملية ثلاثة من نشطاء الجبهة وناشطان ألمانيان من جماعة "بادر ماينهوف" الألمانية اليسارية الراديكالية، وهما توماس رويتر وبريجيتا شولتس.
ووصل الخمسة إلى نيروبي، بجوازات سفر قبرصية مزورة. كما وصلت بواسطة البريد الدبلوماسي اليمني، بحسب بيرغمان، صواريخ كتف مضادة للطائرات من طراز "ستيريلي"، من أجل إطلاقها باتجاه طائرة "إل عال"، لدى هبوطها في مطار نيروبي، في 25 كانون الثاني 1976. وتدرب الخمسة على إطلاق هذه الصواريخ في منطقة قفراء في جيبوتي ودرسوا رسومات وخرائط لمطار نيروبي، وأصبحوا جاهزين لتنفيذ العملية.
لكن في تلك الفترة كان للموساد جاسوس في صفوف الجبهة الشعبية. وكتب بيرغمان أنه حتى الآن تمنع الرقابة العسكرية الإسرائيلية ذكر اسم هذا الجاسوس أو حتى لقبه أو كنيته. وأبلغ هذا الجاسوس الموساد بخطة الجبهة لتنفيذ عملية نيروبي ضد طائرة "إل عال". وطالب رابين بتصفية الخمسة، لكن الموساد عارض ذلك بشدة. وأوضح ضابط الموساد إليعازر تسفرير، الذي شارك في عملية "تساريفت" سبب معارضة الموساد بالقول "لقد شعرنا أن معالجة أمر عدة أشخاص في الوقت نفسه وفي عدة أماكن وبحوزتهم الصواريخ، قد يؤدي إلى تعقيد الأمور".
وعلى ضوء ذلك تقرر إطلاع الرئيس الكيني، جومو كينياتا، على الموضوع، خاصة وأنه تربطه بإسرائيل عامة والموساد خاصة علاقات متينة للغاية. ووصلت إلى كينيا مجموعة كبيرة من أفراد الموساد بقيادة ناحوم أدموني، الذي كان قائد الموساد في إفريقيا وكان يعرف كينياتا جيدا.
ووافق الرئيس الكيني على التعاون مع الموساد، وهنا يكمن السر الكبير لعملية "تساريفت". وكانت الخطة الإسرائيلية أن يتم إلقاء القبض على أفراد الجبهة الشعبية الخمسة في كينيا، وبعد ذلك "أن يتم إخفاؤهم عن وجه البسيطة"، ثم نقلهم سرا إلى إسرائيل، حيث سيتم احتجازهم في عزلة مطلقة ومحاكمتهم بسرية. وقد طالب الجانب الكيني بأن يتم كل شيء بسرية تامة، وشدد على أنه لن يدعم إسرائيل في حال اكتشاف هذا السر، وأنه إذا تم تسريب أية معلومات حول العملية فإن كينيا ستقطع علاقاتها الاستخباراتية مع إسرائيل.
ووافقت إسرائيل على الشروط الكينية. وبعد وصول نشطاء الجبهة الشعبية الخمسة إلى نيروبي تم وضعهم تحت المراقبة. وقبل ساعة من هبوط طائرة "إل عال" في نيروبي اعتقلهم أفراد المخابرات الكينية وسلموهم لفرقة الموساد، وتم تخديرهم ونقلهم إلى إسرائيل بطائرة نقل عسكرية. واحتجزوا في منشأة سرية تحمل رقم 504 في غديرا، حيث تعرضوا للتعذيب، وحتى أن أحد الفلسطينيين مات تحت التعذيب، الذي أشرف عليه ضابط من الموساد، يرمز إليه بالحرف "ي".
تسرب السرّ إلى
الصحافة والألمان
بعد تنفيذ عملية عينتيبة واحتجاز الرهائن ومطالبة الجبهة الشعبية بإطلاق سراح أسرى في إسرائيل وبإطلاق سراح الخمسة الذين كانت الجبهة تعتقد أنهم محتجزون في كينيا، اتصل السفير الكيني في تل أبيب برابين وطالبه بمواصلة الحفاظ على السر، بأن الخمسة محتجزون في إسرائيل. وكان يعتقد رابين أن السر طي الكتمان. لكن رئيس الشاباك، أبراهام أحيطوف، حضر إلى مكتب رئيس الحكومة وأبلغه بأن "السر في خطر".
وفي مساء 30 حزيران 1976، جمع رابين رؤساء تحرير الصحف، وهم غدعون سامت وأرنون تسوكيرمان وأمنون نداف. وكشف رابين السر أمامهم، وقال إنه "لو عرفت من الذي سرب هذه المعلومات في إسرائيل، لنظرت إلى ذلك على أنها خيانة. ويؤسفني أنه لا يمكن التحقيق مع صحافيين حول مصدر معلومة كهذه. وأكرر ما أريد تأكيده أمامكم: بخصوص كينيا، وأي موضوع متعلق بطائرة أو بخمسة وبإسرائيل، عدم نشر أي شيء". ووافق الإعلام الإسرائيلي على طلب رابين وامتنع عن النشر.
وبعد ذلك بشهرين، اتصل السفير الألماني في إسرائيل برابين وأبلغه بأن عائلتين ألمانيتين، رويتر وشولتس، تدعيان بأن إسرائيل تحتجز قريبيهما بصورة سرية. وأقر رابين بأن الاثنين محتجزان في إسرائيل فعلا، وأمر بالسماح لمندوب عن السفارة الألمانية بحضور جلسات المحكمة العسكرية السرية التي حاكمتهما.
وأصدر مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، في آذار العام 1977، أي بعد عام وثلاثة شهور، بيانا بشأن احتجاز "السجناء إكس" الخمسة، لكن من دون ذكر أسمائهم ومكان احتجازهم. إلا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلت عن "مصادر أجنبية" معلومات كشفت معظم تفاصيل هؤلاء السجناء.
وتم الحكم على الألمانيين بالسجن لمدة عشر سنوات، لكن تم إطلاق سراحهما بعد خمس سنوات مقابل اعترافهما. وحكم على الفلسطينيين بالسجن لمدة 18 عاما، لكن تم الإفراج عنهما في صفقة جبريل في العام 1985.