المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في ضوء قرار الحكومة واستمرار إطلاق الصورايخ طرحت على بساط البحث وجهة نظر تسود لدى محافل معينة في الجيش الإسرائيلي وخارجه مفادها أن العمليات العسكرية الواسعة في القطاع هي أمر لا مفر منه وأن "العقدة اللبنانية" (صدمة حرب لبنان الثانية) هي التي تمنع الحكومة الإسرائيلية من اتخاذ هذا القرار الضروري

الموضوع المركزي الذي نوقش في جلسة الحكومة الإسرائيلية في 13 أيار 2007، هو ضرورة توسيع العمليات العسكرية في قطاع غزة في ضوء استمرار إطلاق صواريخ "القسّام" وتعاظم قوة المجموعات المسلحة هناك. وقد انتهت جلسة الحكومة بقرار نَصَّ على توسيع النشاطات الوقائية ضد إطلاق الصواريخ وبضمن ذلك عمليات إحباط استهدافية (عمليات اغتيال وتصفيات..) وتوغل قوات برية صغيرة إلى المناطق المتاخمة للحدود. ولم يتخذ قرار بشن عمليات واسعة في قطاع غزة كما أوصت بعض الأوساط في الجيش الإسرائيلي (قيادة المنطقة الجنوبية). في هذه الأثناء يستمر التصعيد في إطلاق الصواريخ ويزداد الضغط لتوسيع العمليات.

في ضوء قرار الحكومة واستمرار إطلاق الصورايخ طرحت على بساط البحث وجهة نظر تسود لدى محافل معينة في الجيش الإسرائيلي وخارجه مفادها أن العمليات العسكرية الواسعة في القطاع هي أمر لا مفر منه وأن "العقدة اللبنانية" (صدمة حرب لبنان الثانية) هي التي تمنع الحكومة الإسرائيلية من اتخاذ هذا القرار الضروري. فهي عمليات لا مفر منها، أولاً لأنه لا توجد طريقة أخرى لوقف إطلاق صواريخ "القسّام" التي تكبد إسرائيل ثمناً غير محتمل. ولا يمكن لدولة ذات سيادة تَحمُّل وضع يكون فيه سكان مدنها وبلداتها منزعجين بشكل دائم جراء إطلاق الصواريخ ولا يستطيعون ممارسة حياة اعتيادية حتى وإن كانت الأضرار والإصابات في صفوفهم محدودة جداً.

هناك سبب آخر هو أن استمرار تدفق الأسلحة دون معيق إلى قطاع غزة والامتناع عن العمل ضد المجموعات المسلحة هناك يمكنان هذه المجموعات من مضاعفة قوتها وتنظيم صفوفها عدة وإعداداً، وبالتالي العمل بصورة تدريجية على بناء تهديد في القطاع مشابه لتهديد "حزب الله" الذي لاقت إسرائيل صعوبة في مواجهته في لبنان.

يستدل من ذلك أنه يتعين على إسرائيل إتباع سياسة عمليات وقائية واسعة هدفها توجيه ضربة قاسية للمجموعات المسلحة في قطاع غزة والحؤول دون تحولها إلى تهديد من هذا النوع. وهناك من يقول أيضاً بأن على إسرائيل الوصول في قطاع غزة إلى وضع يتيح لها حرية عمل كاملة تشبه حرية العمل التي تتمتع بها في مناطق "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية). تحقيق حرية عمل كهذه لا يمكن أن يتم إلا عن طريق شنّ عمليات (واسعة) على غرار عملية "السور الواقي" (اجتياح مناطق السلطة الوطنية في الضفة الغربية في ربيع 2002) تؤدي في المرحلة الأولى إلى تحطيم القوة العسكرية للمجموعات الفلسطينية المسلحة عن طريق شن هجوم شامل يستولي فيه الجيش الإسرائيلي على مناطق واسعة في قطاع غزة.

هذه الورقة (المقالة) تهدف إلى تفحص ما إذا كان القيام بعمليات عسكرية من هذا النوع في قطاع غزة أمر ضروري لا مفر منه، وبالتالي هل يجدر تبكير القيام بها قدر الإمكان؟.

هناك وسيلتان لمعرفة ما إذا كانت مثل هذه العمليات ضرورية. الأولى عن طريق تفحص الفرضية بأن الديناميكية الأمنية والسياسية في إسرائيل ستقود بالضرورة إلى اتخاذ قرار بوضع مثل هذه العمليات موضع التنفيذ. الوسيلة الثانية، عن طريق تفحص المنطق الإستراتيجي لهذه العمليات. حتى إذا افترضنا أن الجواب على السؤال الأول سيكون إيجابياً ويحيل إلى أن ثمة احتمالية عالية في وصول الحكومة الإسرائيلية إلى هذا القرار، فإن ذلك لا يلغي جدوى أو ضرورة القيام بعملية التفحص الثانية وذلك نظراً لأنها ستساعد في التنفيذ الواعي والمدروس لعمليات من هذا النوع بحيث تخدم مصالح إسرائيل.

الديناميكية الأمنية والسياسية

خيمت على الجمهور الإسرائيلي أجواء قاسية في أعقاب حرب لبنان الثانية ووصل انعدام الثقة بالحكومة إلى درك غير مسبوق. العبرة المركزية المنبثقة عن الحرب، والتي أكد عليها التقرير الجزئي (المرحلي) للجنة تقصي أحداث الحرب (لجنة فينوغراد)، مؤداها أن هناك ضرورة للتفكير ملياً والدراسة المتأنية لمدى التلاؤم بين القرارات بشن عمليات عسكرية وبين قدرة هذه العمليات على تحقيق أهداف عسكرية واقعية تجسد الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل.

كل هذه الأمور، مضافاً إليها الخشية الإسرائيلية الأولية، التي سبقت حرب لبنان الثانية، من الانجرار أو التورط مجدداً في "المستنقع الغزي"، تجعل الحكومة الإسرائيلية تتردد وتفكر جيداً قبل اتخاذ قرار بشن عملية عسكرية شاملة في قطاع غزة.

من السهل على الحكومة أن تتردد وأن تتصرف بحذر وتروٍّ طالما كان إطلاق صواريخ "القسّام" (من قطاع غزة) لا يوقع إصابات تذكر في صفوف الإسرائيليين. والمشكلة هي أن صواريخ "القسّام" تشكل في الواقع سلاحاً فاعليته محدودة للغاية، كما أن أجهزة الإنذار المسبق تقلل بدورها أيضاً من احتمالية وقوع إصابات في الأرواح، غير أن استمرار إطلاق هذه الصواريخ يزيد من الاحتمالية الإحصائية في أن تحدث في نهاية المطاف حالة وحيدة يَقع فيها عدد كبير نسبياً من الإصابات في الأرواح (إصابة مباشرة لمدرسة أو روضة أطفال مثلاً) أو تراكم في عدد المصابين. علاوة على ذلك فإن تعاظم المنظمات المسلحة في قطاع غزة دون معيق يُمكّن من إجراء تحسين تدريجي لمدى وجدوى القذائف الصاروخية المصنعة في غزة، بالإضافة إلى تهريب صواريخ ذات نوعية عسكرية (كاتيوشا) بكميات محدودة. هذه العملية تزيد احتمالية سقوط عدد أكبر من المصابين فضلاً عن وقوع مناطق أخرى في مرمى الصواريخ في مدى زمني أبعد. هناك أيضاً إمكانية وقوع عمليات فلسطينية أخرى على غرار العملية التي أدت لاختطاف الجندي جلعاد شاليت، والتي لن ينجح إحباطها. وفي ظل هكذا أوضاع سيمارس ضغط شديد على الحكومة الإسرائيلية كي تقوم برد عسكري قاس.

الاستنتاج المترتب على ذلك هو: هناك بالفعل احتمالية كبيرة بأن تجد الحكومة نفسها مضطرة في مرحلة معينة لاتخاذ قرار بشن عمليات عسكرية واسعة في قطاع غزة.

المنطق الإستراتيجي

مصالح إسرائيل الإستراتيجية التي ينبغي لكل قرار أن يراعيها هي:

í استمرار الانفصال عن سكان قطاع غزة (الاعتبار الديمغرافي) وتقليص الاحتكاك معهم.

í ضمان وتأمين نمط الحياة الاعتيادي للسكان الإسرائيليين في المناطق المتاخمة لقطاع غزة.

í تعزيز الردع الإسرائيلي أو المحافظة عليه على الأقل.

í وقف، أو الحد على الأقل من تعاظم المجموعات المسلحة في قطاع غزة.

عمليات إطلاق الصواريخ التي تمت من قطاع غزة منذ موافقة حركة "حماس" على وقف إطلاق نار محدود، نبعت من عدة أسباب:

- اقتصار وقف إطلاق النار (التهدئة) على قطاع غزة، واستمرار إسرائيل في عملياتها وأنشطتها الأمنية الوقائية في مناطق الضفة الغربية والتي تؤدي من حين إلى آخر إلى سقوط قتلى فلسطينيين. وفي قطاع غزة ستكون هناك دائماً مجموعات ترد بإطلاق صواريخ على إسرائيل سواء من باب الثأر والانتقام أو كمحاولة لخلق معادلة ردع متبادلة مع إسرائيل.

- الصراع بين التنظيمات الفلسطينية وحالة الفوضى والفلتان في القطاع، فليست جميع الفصائل الفلسطينية موافقة على "التهدئة"، خاصة حركة "الجهاد الإسلامي" التي تواصل عملياتها العسكرية، بالإضافة إلى مجموعات مسلحة مختلفة ليست لها هوية تنظيمية وسياسية واضحة. حالة الفوضى وعجز الحكومة الفلسطينية عن أداء مهامها واستمرار المواجهات، بما في ذلك المواجهات العنيفة بين "فتح" و"حماس"، تعطل كلها أية قدرة على فرض وقف إطلاق النار على المجموعات المتمردة. وتولد حالة الفوضى هذه أيضاً حوافز لإطلاق الصواريخ على إسرائيل لتوظف كأداة في نطاق الصراعات الداخلية. ولعل عمليات الإطلاق (القصف) التي وقعت في الأيام الأخيرة تشكل مثالاً على ذلك، وهي تهدف إلى صرف الأنظار عن أعمال القتل المتبادل، وتحميل إسرائيل مسؤولية التدهور الحاصل، وربما أيضاً جرها (إسرائيل) للقيام بعملية تضع حداً للصراعات الداخلية.

- كذلك يمكن الافتراض أن حركة "حماس"، التي تشعر بالإحباط أيضاً نظراً لأن قيام حكومة الوحدة الوطنية لم يؤد إلى النتائج المرجوة- رفع العقوبات وقدرة الحكومة على ممارسة مهامها وسلطتها- معنية حتى في ظل "التهدئة" بمواصلة مستوى محدود من النشاط المسلح ضد إسرائيل. وهي بهذا المعنى تشبه "حزب الله"، الذي، ورغم قيامه بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان بتحويل معظم أنشطته إلى الساحة السياسية الداخلية، ظل حريصاً عل الإبقاء على درجة محدودة من المواجهة العنيفة مع إسرائيل. وبمقدار ما تتولد لدى حركة "حماس" قناعة بأن إسرائيل والغرب وحركة "فتح" يعملون معاً بغية عدم تمكين حكومتها (حكومة "حماس") من ممارسة سلطتها والانقلاب في نهاية المطاف على نتائج الانتخابات، بمقدار ما تزداد دافعية الحركة للاستمرار في إطلاق الصواريخ على إسرائيل.

لا توجد طريقة عسكرية لمنع إطلاق الصواريخ نهائياً باتجاه إسرائيل من قطاع غزة بواسطة نيران مضادة، وإن كان بالإمكان المس بجزء من الضالعين في عمليات الإطلاق وضرب البنية التحتية لإنتاج وتخزين الصواريخ وبالتالي تقليص حجم عمليات إطلاق الصواريخ والحد من فاعليتها . بالإمكان منع إطلاق الصواريخ عن طريق السيطرة على مناطق الإطلاق وتطهيرها من العناصر المسلحة، وهي عملية تتطلب وقتاً طويلاًً، نسبياً، في كل منطقة. في المقابل سوف تزداد كثافة إطلاق الصواريخ من المناطق التي لم يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي. هذا الأمر له بُعدان رئيسان:

- من أجل منع إطلاق الصواريخ بطرق عسكرية لا بد من سيطرة عسكرية دائمة ولفترة طويلة على مناطق واسعة في قطاع غزة.

- هذه المناطق ستتسع أكثر فأكثر كلما ازداد (طال) مدى الصواريخ، وقد تشمل هذه المناطق كامل مساحة قطاع غزة تقريباً. لا بد أيضاً أن يؤخذ بنظر الاعتبار أن أية عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة تعني الانهيار التام للتهدئة والتجند الكامل من جانب حركة "حماس" لإطلاق الصورايخ. وهذا يعني أن نتيجة العمليات العسكرية ستكون، في المرحلة الأولى، توسيعاً ملموساً في حجم إطلاق الصواريخ وأضرارها.

على أية حال، إذا كنا نتطلع لبلوغ وضع أمني مشابه للوضع في مناطق "يهودا والسامرة" فلا بد من القيام بعملية واسعة ضد سائر المجموعات المسلحة وهذا يعني السيطرة على معظم مساحة قطاع غزة ومواصلة العمل هناك لفترة زمنية طويلة.

يمثل قطاع غزة أيضاً تحدياً عسكرياً ذا طبيعة مختلفة عن التحدي الذي واجهه الجيش الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية عشية حملة "السور الواقي". فالقوات الفلسطينية التي يتعيّن مواجهتها في هذه الحالة ستكون أكثر عدداً وعدة وتنظيماً، إضافة إلى تمتعها بمستوى أفضل من حيث التسليح والتدريب. كذلك فإن طابع المنطقة مختلف. فالحديث يدور هنا عن مجال عمراني مكتظ يمتد على جزء كبير من مساحة المنطقة. إلى ذلك، لا توجد إمكانية للفصل بين العناصر المسلحة والسكان المدنيين إذ لا يوجد مكان يمكن لهؤلاء السكان اللجوء إليه.

في هذه الآونة هناك مواجهة عنيفة تدور بين المجموعات والفصائل المختلفة في قطاع غزة، ولا سيما بين حركتي "فتح" و"حماس"، ولذلك فإن عملية عسكرية إسرائيلية واسعة من شأنها أن توقف هذا الصراع وأن توحد الجميع في مواجهة "الغزو الإسرائيلي". وهذا يعني أن القتال سيكون أكثر ضراوة وستترتب عليه خسائر بشرية أكبر بكثير.

يستدل من التحليل الآنف أن عملية عسكرية واسعة جداً، تؤدي إلى احتلال جزء كبير من قطاع غزة وتتطلب أيضاً البقاء في المنطقة، في البداية لفترة زمنية طويلة من أجل تطهيرها، وبعد ذلك من أجل المحافظة على السيطرة فيها، هي الكفيلة فقط بتحقيق الأهداف الإسرائيلية بطريقة عسكرية، تلك الأهداف المتمثلة بمنع إطلاق الصواريخ لضمان مجرى الحياة الاعتيادي في المناطق الإسرائيلية المجاورة لقطاع غزة، وتوجيه ضربة ملموسة لقوة الفصائل الفلسطينية في القطاع والحد من تهريب الأسلحة إليها.

المشكلة هي أن مثل هذه العملية قد تتطلب دفع أثمان باهظة، سواء في الخسائر (البشرية) المباشرة للقتال أو بالثمن الذي يقع على كاهل السكان المدنيين الذين سيكونون عرضة لهجمات صاروخية واسعة طوال فترة لا بأس بها إلى أن تتحقق السيطرة (العسكرية الإسرائيلية) على المنطقة وتطهيرها.

فيما يتعلق بالتأثير على ميزان الردع، يمكن الافتراض أن تنفيذاً ناجحاً للعملية العسكرية سيساعد في صيانة الردع الإسرائيلي، بيد أن المخاطر المرتبطة بعملية واسعة والأثمان التي قد تتكبدها إسرائيل، يمكن أن تضر بتحقيق هذا الهدف، ذلك لأن قدرة المنظمات الفلسطينية المسلحة على إلحاق الأذى بإسرائيل تعتبر في المنظور الإقليمي، وحتى بالمنظور الإسرائيلي الداخلي، انتصاراً لهذه المنظمات حتى في ظل تعرضها لضربات مؤلمة. فضلاً عن ذلك فإن العمليات الواسعة يمكن أن تترتب عليها ردود فعل دولية قاسية، وذلك بحكم عدم تفهم المحافل الدولية لما يجعل إسرائيل ترد بطريقة تبدو خارجة عن المعايير.

بيد أن كل هذه الأثمان تبدو غير ذات شأن بالمقارنة مع الاعتبار المتعلق بالضرر الذي سيلحق بالهدف الإستراتيجي المتمثل بالانفصال عن الفلسطينيين، والرامي للمحافظة على دولة إسرائيل كدولة ديمقراطية للشعب اليهودي.

سوف تجد إسرائيل نفسها غارقة مجدداً في قطاع غزة. كذلك من المحتمل أن تؤدي حالة الفوضى التي ستنشأ في القطاع إلى انهيار السلطة الفلسطينية مما سيفرض على إسرائيل تجديد نظام الحكم العسكري، وبضمن ذلك عناصر الإدارة المدنية بغية تقديم الخدمات للسكان، وبالتالي ستضطر قوات كبيرة لمواصلة التواجد داخل قطاع غزة.

استنتاجات

الاستنتاج المركزي هو: في ضوء الضرر المحدود الذي سيلحق بإسرائيل من جراء تصدير العنف من قطاع غزة، فإنه يجدر الحذر من الوهم الخادع بشأن إمكانية إيجاد حل تام للمشكلة الغزية. ليس من الواضح ما هي مصلحة إسرائيل في الانجرار والتورط مجدداً في قطاع غزة مع كل ما يترتب على ذلك من دفع أثمان عالية جداً مقابل إنجاز أو مكسب يضر بمصلحة إسرائيلية مركزية. إن المبرر بشأن ضرورة القيام بعملية وقائية بهدف منع المنظمات الفلسطينية من تحقيق تعاظم إضافي لا يبدو قوياً بدرجة كافية. فأولاً، لم ينجح التواجد الإسرائيلي في محور "فيلادلفي" (صلاح الدين) في الماضي في منع عمليات تهريب الأسلحة وإنما ساهم فقط في الحد منها بدرجة معينة. ثانياً، الزمن الممتد حتى اللحظة التي ستبدو فيها المواجهة حتمية يمكن أن يستغل أيضاً من جانب الطرف الإسرائيلي. وهناك درس آخر يجدر تعلمه من حرب لبنان الثانية وهو أن النتائج غير المرضية للمعركة البرية نبعت بدرجة كبيرة من غياب الاستعداد والجهوزية الكافية لدى الجانب الإسرائيلي وليس فقط من جهوزية "حزب الله". ليس واضحاً ما الذي سيجعل الجانب الفلسطيني، الذي يعاني من عقوبات ومصاعب مالية جسيمة فضلاً عن المواجهات العنيفة المتصاعدة بين المجموعات والفصائل المختلفة، يستغل بالضرورة هذه الفسحة الزمنية بشكل أفضل من الجانب الإسرائيلي.

إن فهم وإدراك الأثمان المترتبة على عملية عسكرية شاملة لاحتلال مناطق واسعة في قطاع غزة لا بد له أن يؤثر أيضاً على أهداف العملية إذا ما اضطرت إسرائيل لردود كاسحة بغية وقف التصعيد في إطلاق الصواريخ. يتعين على إسرائيل أن تدرك بأن من الأفضل وضع أهداف محدودة أثمانها أقل تكلفة حتى إذا كان معنى ذلك هو حلول جزئية تحد من أضرار صواريخ "القسّام"، ولا تقدم حلاً شاملاً للمشكلة. وعلى سبيل المثال فإن القيام بنشاط دائب من أجل "اصطياد" خلايا إطلاق الصواريخ والضرب المتواصل للمنظمات الضالعة في الهجمات، وقياداتها والسيطرة على مناطق إطلاق محدودة، يمكن أن يكون فعالاً ومؤثراً في تقليص عمليات إطلاق الصواريخ والحد من جدواها وبالتالي دفع حركة "حماس" على الأقل للقبول باستئناف وقف إطلاق النار المحدود.

ومن هذه الناحية فإن عمليات الجيش الإسرائيلي التي أعقبت اختطاف الجندي جلعاد شاليت يمكن أن تبدو كنموذج جيد، حيث تكبدت حركة "حماس" نتيجة لها خسائر جسيمة مما دفعها للعودة إلى المحافظة على وقف إطلاق النار المحدود.

على الرغم من أن إسرائيل تقع الآن في عين عاصفة التصعيد في قطاع غزة، إلا أنه يجب أن يؤخذ بالحسبان أن هذه الموجة يمكن أن تهدأ أيضاً.. وكما حصل في الماضي فإن حركتي "حماس" و"فتح" يمكن أن تحجما عن الانجرار إلى حرب أهلية شاملة، وأن تضطرا إلى تهدئة المواجهة العنيفة فيما بينهما. حينئذٍ ستتجدد مصلحة "حماس" أيضاً في وقف إطلاق النار، خاصة إذا ما دفعت الحركة أثماناً باهظة أثناء هذه العملية. وفي مثل هذه الحالة سيتعين على إسرائيل أن تتفحص فيما إذا كانت هناك أيضاً طرق سياسية ودبلوماسية للحد من التهديد القادم من قطاع غزة. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى النقاط التالية:

í أن من شأن عملية لتوطيد التهدئة وتوسيعها لتشمل مناطق "يهودا والسامرة" أن تساهم بشكل كبير في الحد من حجم إطلاق صواريخ القسّام.

í حالة الفوضى والاقتتال الداخلي في قطاع غزة يؤديان على المدى القصير إلى إضعاف الفصائل المسلحة غير أنهما يضران بالمصلحة الإسرائيلية. هذا الوضع لا يبقي أية فرصة لتبلور عنوان فلسطيني يمكن لإسرائيل التعاطي معه، أو مواجهته، ويشكل هذا الوضع الداخلي أيضاً أحد الأسباب المركزية التي تقف خلف عمليات إطلاق الصواريخ في الآونة الأخيرة. يتعين على إسرائيل النظر في ما يمكن أن تساهم به لكبح عملية التدهور في غزة. وفي هذا السياق ينبغي تفحص مدى مساهمة عدم الاستعداد للتعاطي مع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية واستمرار العقوبات المفروضة عليها - في مقابل تشجيع عناصر في حركة "فتح" على الدخول في مواجهة مع حركة "حماس"- في التدهور الحاصل.

í أثبتت التجربة أن العمل الدبلوماسي المستمر مع مصر يدفع الأخيرة للقيام بجهد حثيث ودور مساعد في الحد من عمليات تهريب السلاح من سيناء إلى قطاع غزة.

خلاصة القول، يتعين على الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي في ضوء تزايد احتمالية وقوع صدامات عسكرية واسعة أكثر في قطاع غزة، الشروع باستعدادات حثيثة لمواجهة هذه الإمكانية، ولا يجوز هنا الاكتفاء بخطط عسكرية مفصلة وبتجهيز القوات وإعدادها للقيام بمثل هذه العمليات، وإنما هناك ضرورة أيضاً لاستعداد المستوى السياسي والعسكري الأعلى على الصعيد الفكري لتحديد أهداف واقعية ورسم الطرق الملائمة لتحقيقها إضافة إلى تفحص سيناريوهات عسكرية مختلفة.

____________________________

* شلومو بروم- باحث كبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. المقال ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات