المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ابحاث ودراسات
  • 1455

ظلّت "الديمقراطية" مجرد أيقونة لسياسة إسرائيل الخارجية، على الأغلب. فمنذ قيامها، على حساب نكبة الشعب الفلسطيني، اعتبرت إسرائيل ذاتها واحة للديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، سعيا منها للتغطية على واقعة الاغتصاب والعدوان، جرياً على عادة النظم الاستعمارية التقليدية.

 

*بقلم: ماجد كيالي

وقد استمرأت إسرائيل هذا الادّعاء لتظهير صورتها، أمام الرأي العام العالمي والغربي خصوصا، على شكل ضحيّة مسالمة يتربّص بها الأعداء، الذين يريدون القضاء عليها بسبب من نظامها الديمقراطي هذا!

طبيعي أن إسرائيل لا تريد، بهذا الادّعاء، تجميل نفسها، بقدر ما تتوخّى تأكيد استثنائيّتها، للتملّص من التزام المعايير الدولية، وتبرير احتلالها أراضي الغير، وتغييرها نمط حياتهم، وإيجاد مسوّغ لمطلبها المتعلق بتوفير حدود آمنة لها، على حساب الدول الأخرى، والسعي لتغطية احتكارها التسلّح النووي، في هذه المنطقة! أيضا، عندما وضعت إسرائيل، وجها لوجه، أمام استحقاقات عملية التسوية مع الفلسطينيين (والسوريين)، في مطلع التسعينيات، وجدت ضالتها للتملص من هذه العملية، في أيقونة "الديمقراطية"، بدعوى أن التسوية لا تقوم إلا بين أنظمة ديمقراطية متماثلة!

هكذا مثلا، فسّرت إسرائيل عدم تجاوبها مع المبادرة العربية للسلام، التي أطلقتها قمة بيروت (آذار 2002)، بعدم ثقتها بالنظام العربي الّلاديمقراطي! حتى أن دوف فايسغلاس (مدير مكتب شارون) صرح وقتها، بأن إسرائيل لن تقدم على خطوة تسوية مع الفلسطينيين، بعد طرح خطة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، إلا بعد تحول الفلسطينيين إلى فنلنديين أو نرويجيين!

الواقع أن هذه الادّعاءات الإسرائيلية هي بمثابة محاولة لذرّ الرماد في العيون، وبقول آخر فهي مجرد امتداد لسياسة المراوغة، التي اعتادت إسرائيل انتهاجها وتوظيفها، بحسب كل مرحلة وكل موقف، خدمة لمصالحها وسياساتها. فهذه الدولة الغارقة من رأسها حتى أخمص قدميها، بترسانة تسلح هائلة، وبالتبريرات الدينية، وبالسياسات العنصرية، لم تكن يوما حريصة على تسيّد الديمقراطية في النظم السياسية للمنطقة العربية، بل إن طبيعة وجودها، بحد ذاته، كان أحد أهم أسباب غياب الديمقراطية، وانتشار التوترات، وتفشّي روح العسكرة، وسيادة الدولة الأمنية، في هذه المنطقة.

وإسرائيل هذه بالذات تدرك أكثر من غيرها حقيقة أنها تستمد قدرا كبيرا من استقرارها وقوتها من هذا العطب المزمن في النظام العربي، أي من الفجوة بين الحكومات والمجتمعات، وخصوصا من تدنّي قدرة المجتمعات العربية على تنظيم ذاتها، والتعبير عن إرادتها، واستنهاض قواها.

وتبيّن التجربة المعاشة أن إسرائيل كانت، على الدوام، أكثر ميلا لمخاطبة الأنظمة السائدة وكسب ودها، على خلاف المزاعم الناجمة عن خطابها الديمقراطي المعلن، بدليل أنها عقدت معاهدات التسوية مع بعض الأنظمة، من دون أن تحظى هذه المعاهدات على شرعية شعبية. وتتبدى المفارقة، هنا، في واقع أن إسرائيل، التي تدّعي الديمقراطية، دأبت على حضّ الأنظمة التي أقامت معها معاهدات، أو علاقات ثنائية، للحد من الحريات، بمراقبة وسائل الإعلام وتقييد تحركات النقابات وقوى المجتمع المدني، لمجرد مناهضتها لإسرائيل؛ لدرجة أن الأمر وصل بها حد تحريض هذه الأنظمة للضغط على مواطنيها لإجبارهم على الانخراط في علاقات التطبيع معها!

يستنتج من ذلك أن إسرائيل، وبغض النظر عن ادعاءاتها الديمقراطية المراوغة، تعي تماما أن تطبيع وجودها مع الواقع العربي يفترض منها الارتباط بالنظام العربي السائد، على رغم نواقصه الديمقراطية، لأن هذا النظام هو الذي جلب الاعتراف بها، وصدّ النزعات الشعبية المعارضة لها، وقيد قدرة المجتمعات العربية على مواجهتها؛ في مرحلتي الحرب والسلم على السواء. إضافة إلى ذلك فإن إسرائيل تفضّل استمرار النظم السائدة، لأنها تؤكد فرادتها، وادعاءاتها، ولأنها توفّر تغطية لسياستها العدوانية والاحتلالية والعنصرية في المنطقة.

إن المقدمات السابقة تفسّر، إلى حد ما، توجّس إسرائيل، وتشكّكها، من ادعاءات إدارة بوش (السابقة)، بشأن تبني "نشر الديمقراطية" في المنطقة العربية، برغم كل الشبهات التي تحوم حول السياسة الخارجية لهذه الإدارة، إزاء العالم العربي، وضمن ذلك صدقية ادعائها بتبني نشر الديمقراطية فيه. حتى أن إسرائيل باتت تنظر بعين الحذر والقلق لسياسات هذه الإدارة في الشرق الأوسط، بعد أن انتابتها في الوهلة الأولى النشوة، جرّاء التغييرات الإقليمية، التي صبّت في مصلحتها، بعد احتلال العراق، بحكم تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة موجودة مباشرة في قلب المنطقة العربية.

ومن متابعة المواقف الإسرائيلية يمكن ملاحظة نوع من الاضطراب تجاه التعاطي مع مسألة الديمقراطية، في المنطقة العربية. فثمة من رحب بمثل هذا التطور على أساس أنه سيمكن إسرائيل من الاستقرار في محيط ديمقراطي، أي ليس للديمقراطية بذاتها، وإنما لكونه يمثل مصلحة إسرائيلية. بالمقابل ثمة وجهة نظر أخرى تعتقد بأن التغيّر نحو الديمقراطية في العالم العربي لن يؤدي للسلام، لأن المجتمعات العربية معادية لإسرائيل بطبيعتها. وإضافة إلى وجهات النظر السابقة فثمة طبعاً اتجاه يعتقد باستحالة تحول المجتمعات العربية نحو الديمقراطية، لأسباب تاريخية وثقافية، ما يتطلب من إسرائيل التمسك بصورتها كدولة حربية رادعة.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن إسرائيل لا تتعامل مع الديمقراطية، في العالم العربي، بوصفها قيمة عليا، بقدر ما تتعامل معها بشكل سياسي: انتقائي ووظيفي، على طريقة الدول الاستعمارية؛ وهذا أمر طبيعي لأن إسرائيل، عدا عن كونها دولة استعمارية، هي أيضا دولة استيطانية عنصرية، حيث يضع مجتمع المستوطنين نفسه فوق مجتمع السكان الأصليين، الذين يُخرجون من دائرة المواطنة. وطبيعي، أيضا، أن القيم العنصرية تتناقض مع القيم الديمقراطية، وبالتالي مع المساواة والعدالة.

المعنى من ذلك أن "الديمقراطية" العربية المتوخّاة إسرائيلياً، هي تلك الديمقراطية التي تخلق المناخ للاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وليس فقط بواقع وجودها. وهي تلك الديمقراطية التي تسلم بتفوّق إسرائيل وفرادتها، وروايتها الخاصة لتأريخ المنطقة. وهي تلك الديمقراطية التي تبدو مطواعة أمام إملاءاتها، وتروّج للتطبيع معها؛ على رغم كل الظلم والإجحاف الذي تلحقه بالفلسطينيين! وعلى رغم استمرار احتلالها لأراض عربية! وبالتأكيد فإن الديمقراطية التي تنشدها المجتمعات العربية، وتعمل عليها، تختلف عن ذلك كثيراً.

 ________________

 * كاتب وباحث فلسطيني يقيم في دمشق.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات