النزاع مع الفلسطينيين أشبه بحجر الرحى على عنق إسرائيل... فهو يقوّض نموها الاقتصادي ويثقل كاهل ميزانيتها ويحد من تطورها الاجتماعي ويشوش رؤيتها ويضر بمكانتها الدولية ويستنزف جيشها ويفتت ساحتها السياسية ويهدد مستقبل وجودها كدولة قومية يهودية، إضافة إلى أنه يقتل ويجرح آلاف الإسرائيليين * موجز وثيقة جديدة صادرة عن مركز أدفا- معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل
عبء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني: صورة ومعطيات شاملة
[موجز وثيقة جديدة صادرة عن مركز "أدفا"- معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل من إعداد د. شلومو سبيرسكي]
إعداد: سعيد عياش
احتفلت إسرائيل مؤخرا بمرور ستين عاماً على قيامها. وقد أقيمت الدولة واعترف بها على أساس قرار الأمم المتحدة من العام 1947، والقاضي بتقسيم المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط بين دولتين، واحدة عربية وأخرى يهودية.
في حرب العام 1967 أحرزت إسرائيل انتصاراً عسكرياً كبيراً سيطرت في أعقابه على كامل المنطقة بين النهر والبحر، وسيطرت من خلال ذلك أيضاً على قسم كبير من الشعب الفلسطيني. عندئذٍ كان في وسع إسرائيل أن تطبق توصية الأمم المتحدة بتقسيم البلاد بينها وبين الفلسطينيين، وظن الكثيرون، وفي مقدمتهم مؤسس الدولة دافيد بن غوريون، أن ذلك هو الخطوة الصائبة. غير أن "النصر" ولد غطرسة واستكباراً ورغبة في السيطرة على البلاد بأكملها. منذ ذلك الوقت وإسرائيل تمعن في حرمان الشعب (الفلسطيني) المجاور لها من الاستقلال.
في العام 1987 انتفض الفلسطينيون، ووافق الطرفان في أعقاب ذلك (في أوسلو) على الاعتراف المتبادل وإقامة سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن ظهر لدى الطرفين معارضون للاتفاق، فاستمرت الصدامات العنيفة من دون توقف، وتوسعت المستوطنات بدلاً من أن تضيق. في العام 2000 اندلعت الانتفاضة الثانية، وعادت إسرائيل لتسيطر مجدداً على كامل المنطقة.
هذا النزاع المستمر يلحق ضرراً شديداً بالجانبين، وخصوصاً الفلسطينيين الذين لا يتمكنون من إقامة مؤسسات مستقرة وتحقيق تنمية اقتصادية، ويتعرضون للقتل والجرح والطرد والاعتقال ومصادرة الأراضي وتدمير الممتلكات وحرمان الكثيرين من الدراسة، فضلاً عما يعانون من بطالة عالية وفقر واسع وانعدام أمن غذائي وإذلال يومي في بيوتهم وشوارعهم، ناهيكم عن حواجز التفتيش والمعابر. أما بالنسبة لإسرائيل، وبما أنها الطرف المسيطر والأقوى مؤسسيا وعسكريا واقتصاديا، فإن الانطباع العام يوحي ليس فقط بأنها لا تخسر بل وتجني فوائد أيضاً من الوضع القائم.
لكن الحقيقة هي أن النزاع مع الفلسطينيين أشبه بحجر الرحى على عنق إسرائيل... فهو يقوّض نموها الاقتصادي ويثقل كاهل ميزانيتها ويحد من تطورها الاجتماعي ويشوش رؤيتها ويضر بمكانتها الدولية ويستنزف جيشها ويفتت ساحتها السياسية ويهدد مستقبل وجودها كدولة قومية يهودية، إضافة إلى أنه يقتل ويجرح آلاف الإسرائيليين. إسرائيل تدفع إذن ثمناً باهظاً جراء استمرار النزاع، وجراء التلكؤ في تطبيق حل يستند إلى تقسيم عادل ومتفق عليه.
هذه الوثيقة تسعى إلى استعراض الثمن الاجتماعي والاقتصادي والعسكري والسياسي الذي تدفعه إسرائيل. قطعاً سيكون من الصعب على الكثيرين من الإسرائيليين التفكير بمصطلحات تتعلق بسياسة توجد لها بدائل. فمعظم الإسرائيليين ولدوا أو قدموا إلى البلاد بعد العام 1967، وهم لا يعرفون "الخط الأخضر" واعتادوا على رؤية المقاومة الفلسطينية كتعبير عن عداء مستحكم لا كتعبير عن رغبة في زوال الاحتلال وتحقيق الاستقلال السياسي. فضلا عن ذلك، حتى عندما يكون هناك وضوح بشأن وجود ثمن، فإنه ليس من السهل دائماً التبصر بذلك، لا سيما في الحالات التي لا يكون فيها الثمن شخصياً وإنما ماكرو- اقتصادي أو ماكرو- اجتماعي.
في هذا الوقت بالذات، ورغم النمو الاقتصادي الذي تشهده إسرائيل للسنة الخامسة على التوالي، جدير بنا أن نتذكر أنه من دون التوصل إلى تسوية سياسية تتيح للفلسطينيين أيضاً العيش في ظل استقلال وكرامة ونماء اقتصادي، فإن إسرائيل يمكن أن تعود لتدفع الثمن الذي دفعته في سنوات الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية.
اقتصاد في ظل النزاع
التنمية
حقق الاقتصاد الإسرائيلي منذ العام 1967 نمواً كبيراً. لكن من المحتمل جداً أن يكون النزاع المستمر قد حال دون تحقيق نمو اقتصادي أكبر مما تحقق فعلياً. القفزة الكبرى حدثت في السنوات الخمس التي أعقبت الحرب (1968-1972)،حيث ازداد الناتج بنسبة 75%. في أعقاب حرب يوم الغفران 1973 سجلت زيادة غير مسبوقة في ميزانية الأمن، هذه الزيادة جنباً إلى جنب مع أزمة النفط العالمية، أدت إلى ما يسميه خبراء الاقتصاد بـ "العقد الضائع" (1973-1984)، سنوات طويلة سادها تضخم مالي مرتفع ومعدلات نمو منخفضة.
في العام 1985 بدأ الاقتصاد بالانتعاش، غير أن الانتفاضة الأولى التي اندلعت في أواخر 1987 عادت وقلصت النشاطات الاقتصادية. موجة الهجرة الكبيرة من دول الاتحاد السوفييتي، والتي بدأت في العام 1989، أدت إلى توسيع النشاطات الاقتصادية.
الانتفاضة الثانية التي اندلعت في أواخر سنة 2000، أدت إلى نمو سلبي أو منخفض في السنوات الثلاث التالية. في أعقاب انحسار الانتفاضة في العام 2003 عاد الاقتصاد الإسرائيلي إلى النمو مجدداً، لكن نسبة النمو في السنوات الخمس 2003-2007 (25%) كانت أقل بشكل ملموس من نسبة النمو التي سجلت في السنوات الخمس التالية لحرب 1967 (75%). عملية الصعود والهبوط التي تسم النشاطات الاقتصادية في إسرائيل، والناجمة في شكل أساس عن التقلبات الأمنية وفي مقدمتها (منذ العام 1987) الانتفاضات الفلسطينية، خلقت فجوة بين إسرائيل والدول الأخرى التي تتطلع إسرائيل لأن تكون مشابهة لها. ويمكن الوقوف على حجم الفجوات من خلال معطيات مقارنة تتعلق بسنوات 1997-2006 وهي فترة شهدت فيها إسرائيل نموًا لا بأس به- 9% في 2000، 2ر5% في 2004 و 2005، إضافة أيضا إلى سنتي "انتفاضة" ونمو سلبي- 4ر0% في 2001 و6ر0% في 2002. خلال هذه السنوات العشر وفي الوقت الذي نما فيه الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 43% شهد اقتصاد العالم نمواً بنسبة 67%- الولايات المتحدة 68%، دول الاتحاد الأوروبي 68%، الهند 139%، دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي 167%، دول الخليج العربي 174% والصين 193%.
الاستقرار الاقتصادي
منذ أن راكم الفلسطينيون قدرة جماعية كافية للتمرد ضد الاحتلال الإسرائيلي، بات في استطاعتهم ونجحوا في زعزعة الاستقرار الاقتصادي في إسرائيل. فقد أدت الانتفاضتان إلى انكماش وتراجع النشاطات الاقتصادية الإسرائيلية، وهو ما وجد تعبيراً له في انخفاض حركة السياحة الوافدة، تراجع وانحسار الاستثمارات، وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض القوة الشرائية لدى الجمهور.
في العام 1987، الذي اندلعت في أواخره الانتفاضة الأولى، بلغت نسبة النمو 1ر6%، ولكن في السنة التالية (بسبب الانتفاضة) انخفضت نسبة النمو إلى 6ر3%، وهبطت في 1989 إلى 4ر1%.
اتفاقيات أوسلو (1993-1995) ومعاهدة السلام مع الأردن (1994) عادتا بنتائج طيبة على الاقتصاد الإسرائيلي، إذ فتحت أمامه أسواق جديدة. غير أن المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين ضد المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي في الخليل (نيسان 1990) احتجاجا على اتفاق أوسلو، أشعلت سلسلة من الهجمات الفلسطينية داخل إسرائيل زعزعت الأمن العام وألحقت ضرراً شديداً بالنشاطات الاقتصادية. عقب اندلاع الانتفاضة الثانية في أواخر العام 2000، سادت إسرائيل في السنوات الثلاث التالية حالة من الركود الشديد في النشاطات الاقتصادية اعتبرها "بنك إسرائيل المركزي" الأطول في تاريخ إسرائيل، ولم يعد الاقتصاد إلى النمو مجدداً سوى في النصف الثاني من العام 2003. منذ ذلك الوقت يشهد الاقتصاد الإسرائيلي حركة نمو مستمرة. لكن هذا النمو يقتصر على الجانب الإسرائيلي للحظ الأخضر، بينما في الجانب الفلسطيني ليس فقط لا وجود لأي نمو اقتصادي وإنما هناك تراجع مستمر في النشاطات الاقتصادية، وبالتالي هناك بطالة متفاقمة وفقر شديد. إنّ تجربة العقدين الأخيرين تبين بوضوح أن الاستقرار الاقتصادي في إسرائيل مرتبط بدرجة كبيرة بما يحدث على الجانب الفلسطيني من الخط الأخضر.
ميزانية في ظل النزاع: العبء الاقتصادي- الأمني
جعل انتصار العام 1967 إسرائيل قوة عسكرية هي الأقوى في المنطقة. غير أن هذه المكانة ألقت على إسرائيل عبئاً اقتصاديا- أمنياً ثقيلاً. فبعد حرب العام 1967، وخلافاً لحروب سابقة، لم تتقلص الميزانية العسكرية بل على العكس ازدادت باستمرار، وأصبحت تشكل بعد 1973 قرابة ثلث الميزانية العامة للدولة، الأمر الذي أفضى إلى الأزمة الاقتصادية الحادة التي شهدتها إسرائيل في أواسط الثمانينيات. في البداية لم يكن النزاع مع الفلسطينيين العامل المركزي في العبء الاقتصادي- الأمني، وإنما النزاع مع مصر وسورية. معاهدة السلام التي أبرمت مع مصر في العام 1979 مكنت إسرائيل من تقليص الميزانية العسكرية، ولكن بعد فترة غير طويلة من توقيع هذه الاتفاقية، أخذ النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي المباشر يحتل مركز الصدارة. وجاء اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987 ليرفع دفعة واحدة وبشكل دائم الثمن الاقتصادي- الأمني الذي تدفعه إسرائيل لقاء استمرار احتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية، حيث اضطر الجيش الإسرائيلي لإقامة أطر قيادية وفرق ووحدات عسكرية خاصة من أجل مواجهة المنتفضين الفلسطينيين، وليس هذا وحسب بل واضطر إلى زج معظم وحدات الاحتياط القتالية في الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة، فضلاً عن تعزيز وتدعيم نظام الأمن والحماية في سائر المستوطنات اليهودية. التوقيع على اتفاقيات أوسلو لم يؤد إلى تقليص قوات الجيش الإسرائيلي العاملة في الأراضي الفلسطينية، وفوق ذلك أقام الجيش شبكة كبيرة من حواجز التفتيش والعبور في نقاط التماس بين مناطق المسؤولية التي قسمت بموجب تلك الاتفاقيات إلى أ، ب، و ج. كذلك أدت موجة الهجمات التي جاءت رداً على مجزرة الحرم الإبراهيمي، إلى تعزيز تواجد ونشاطات الجيش وجهاز المخابرات الإسرائيلية العامة (الشاباك) في المناطق الفلسطينية.
وفيما كانت الانتفاضة الأولى شعبية- مدنية غير مسلحة، فقد اتسمت الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في أيلول 2000، بطابع مسلح، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى استخدام كامل قوته في الرد عليها، إذ زج قسما كبيرا من الجيش النظامي وجهاز الاحتياط في مهام قمع الانتفاضة، وقام الجيش الإسرائيلي بالسيطرة مجدداً على كامل الأراضي الفلسطينية. ومع أنه جرى تقليص تواجد الجيش الإسرائيلي عقب انتهاء الانتفاضة الثانية إلاّ أن قوات كبيرة يزيد عددها عما كان عليه في السابق، ما زالت متواجدة في كل أنحاء الضفة الغربية وحول قطاع غزة.
نظراً لأن بنود الميزانية الأمنية تبقى سرية في أغلبيتها فإنه ما من وسيلة لمعرفة التكاليف المالية الكاملة لسيطرة إسرائيل العسكرية في الأراضي الفلسطينية. إن المعطى الوحيد الذي ينشر مرة كل سنة، يتعلق فقط بالزيادات للميزانية العسكرية والمترتبة على النشاطات المكثفة للجيش الإسرائيلي. وفقاً لهذا المعطى الرسمي فقد حصلت وزارة الدفاع بين سنوات 1989- 2008 على زيادات إضافية بلغ مجملها 6ر36 مليار شيكل (بأسعار 2007). وإذا شئنا تقدير حجم هذا المبلغ فيكفي أن نشير إلى أنه يزيد عن حجم الإنفاق المالي السنوي على جهاز التعليم وجهاز التعليم العالي في إسرائيل العام 2008.
تكلفة الانفصال وجدار الفصل
تشمل الموازنات العسكرية الإضافية تغطية تكاليف الانفصال عن قطاع غزة وتكاليف بناء جدار الفصل الذي شرعت إسرائيل في إقامته في الضفة الغربية منذ العام 2003. وفقا لتقديرات راهنة فقد بلغت تكلفة الانفصال الأحادي الجانب، الذي أخلت إسرائيل في نطاقه سنة 2005 المستوطنات ومعسكرات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، حوالي 9 مليارات شيكل. ولتقدير حجم هذا المبلغ يكفي أن نشير إلى أنه يفوق حجم الإنفاق السنوي الشامل للوزارات الحكومية المسؤولة عن مجالات اقتصادية مثل الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة وغيرها. أما التكلفة المتوقعة لجدار الفصل الذي سيبلغ طوله نحو 790 كم (في مناطق الضفة الغربية) فتقدر وفقاً لمعطيات وزارة المالية الإسرائيلية، بنحو 13 مليار شيكل. ولتقدير حجم هذا المبلغ يكفي أن نشير إلى أنه يضاهي الميزانية السنوية لوزارة الصحة الإسرائيلية في العام 2008.
العبء الاقتصادي الأمني- نظرة إلى المستقبل
في ظل غياب تسوية سياسية ستكون تكلفة أية مواجهة مستمرة مع الفلسطينيين باهظة جداً في المستقبل أيضاً. ويمكن الوقوف على ذلك من خلال توصيات اللجنة التي أقيمت برئاسة دافيد برودت لمراجعة الميزانية العسكرية، والتي قدمت في أيار 2007:
"... الجبهة الفلسطينية تحتاج إلى موارد كبيرة... ويبدو أن المستويين السياسي والعسكري على حد سواء لم يستوعبا التكاليف البديلة المرتفعة الناجمة عن التحويل الدائم للموارد لصالح هذه الجبهة... الرؤية الأمنية المحتلنة (المحدَّثة) تحيل إلى أن هذه الجبهة ستبقى مركزية وذات وزن أكبر في المستقبل... سيستمر الجيش الإسرائيلي في توظيف موارد كبيرة في هذه الساحة في السنوات المقبلة أيضاً (...) فضلاً عن ذلك يبدو أن هناك عملية تضخم فوضوية لهذه التكاليف نظراً لأن (عناصر الإرهاب) مصممة على الاستمرار في ما يشبه سباق التسلح (أو ميزان الرعب)... وعلى سبيل المثال فقد استدعى إرهاب الانتحاريين إقامة جدار أمني تقدر تكاليفه بأكثر من 13 مليار شيكل. هذا الجدار أثبت فاعليته (في الضفة الغربية) ولكن في غزة نجحت عناصر "الإرهاب" إلى حد ما في إبطال فاعلية الجدار عن طريق إطلاق القذائف الصاروخية واستخدام الأنفاق، الأمر الذي اقتضى من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية العمل على تطوير ردود إزاء هذه التهديدات، لكن تكلفة الوسائل الدفاعية والهجومية مرتفعة جداً... النقطة المهمة هي أن تكلفة المواجهة مع الفلسطينيين أصبحت باهظة أكثر، وخاصة من ناحية تحويل موارد عسكرية بصورة مستمرة ومن دون وجود فرصة ملموسة في الأفق. هذا التطور المهم لم يستوعب كما يجب، ويرجع أحد الأسباب إلى كون جزء كبير من التكاليف لم ينعكس بشكل كامل وصريح في نطاق الميزانية الأمنية ذاتها...".
الميزانية
يخلق الاحتلال مصاعب أمام ميزانية الدولة وليس فقط بسبب حجم الإنفاق على الأمن. ففي فترة الانتفاضة الثانية عانى الاقتصاد من ركود شديد، وتراجعت جراء ذلك النشاطات الاقتصادية كما انخفضت إيرادات الدولة من الضرائب . في ضوء كل ذلك اضطرت الحكومة إلى تقليص ميزانية الدولة، باستثناء ميزانية الأمن. خلال السنوات الأربع الممتدة من 2001-2005 تم تقليص ميزانية الدولة بمبلغ إجمالي بنحو 65 مليار شيكل، وهو أكبر تقليص في تاريخ الدولة. ومن أجل تقدير حجم هذا المبلغ نشير إلى أنه شكل في العام 2005 قرابة ثلث الميزانية السنوية الاعتيادية للحكومة. وقد أضر هذا التقليص بكل ميزانيات الخدمات الاجتماعية في إسرائيل، وبينها الصحة، الرفاه، التعليم والتعليم العالي، السكن وقبل كل شيء بمخصصات مؤسسة التأمين الوطني. آثار هذا الضرر ما زالت ماثلة وملموسة حتى الآن، وهي التي وقفت خلف الإضرابات الطويلة لمستخدمي السلطات المحلية وإضرابات المعلمين والمعلمات والمحاضرين في مؤسسات التعليم العالي، وخلف احتجاجات أخرى. وهي التي تقف خلف زيادة الإنفاق الخاص للمواطنين على خدمات كانت تقدم في السابق مجاناً، مثل الصحة والتعليم.
النزاع والثمن الاجتماعي
الثمن الاجتماعي الداخلي للسيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين كان ثقيلاً ولا يزال. وزير الدفاع في حرب 1967 والسنوات الأولى التالية، موشيه ديان، صرح في أثناء حرب الاستنزاف مع مصر أن إسرائيل لا تستطيع أن ترفع في نفس الوقت رايتين- راية الأمن والراية الاجتماعية. إسرائيل العام 2007 مجتمع مختلف عن مجتمع 1967، ومع ذلك يخيل أن مفعول مقولة ديان ما زال نافذاً. فالمجموعات الاجتماعية التي أخفقت في توطيد نفسها قبل حرب "الأيام الستة" لاقت صعوبة في عمل ذلك بعد الحرب، وهذا ينطبق مثلاً على سكان مدن التطوير والبلدات العربية. الفجوة بين الأطراف والمركز أخذت تترسخ أكثر فأكثر. مؤسسات التعليم تترك معظم أبناء الشبيبة خارج نواة النمو الاقتصادي. عائلة من كل خمس عائلات إسرائيلية تعيش تحت خط الفقر، مقارنة مع عائلة من كل عشر عائلات في السبعينيات.
المجتمع الإسرائيلي يشاهد كل ذلك ولا يجد القوى الداخلية القادرة على تغيير الوضع. ولا غرابة، فهذه القوى مكرسة للنزاع. لقد كان للنزاع في بعض الحالات تأثير مباشر على الوضع الاجتماعي القائم وهو ما تجلى، أولا: جزء من الفجوات نشأ نتيجة التغيير في سياق التنمية الاقتصادية، حين انصرفت إسرائيل بعد العام 1967 إلى الاستثمار في توسيع الصناعات العسكرية بدلا من مواصلة تطوير الصناعات التي أقيمت قبل الحرب، ومن ضمن ذلك في مدن وبلدات التطوير. أما الصناعات الحديثة فأقيمت في مركز البلاد واعتمدت على قوة بشرية متعلمة وأجور مرتفعة. وفي فترة لاحقة اتسعت أكثر الفجوة الطبقية- الطائفية- الجغرافية وذلك حين أفرزت الصناعات العسكرية صناعات الـ"هاي تك". ثانياً، تراجعت قدرة المساومة لدى العمال الإسرائيليين نتيجة دخول عمال فلسطينيين إلى سوق العمل الإسرائيلية، حيث جرى تشغيلهم دون حماية مهنية من الدولة أو نقابات العمال- الهستدروت. وعندما باشرت السلطات الإسرائيلية (عقب اندلاع الانتفاضة الأولى) بفرض الإغلاق والحصار على المناطق الفلسطينية استقدم إلى إسرائيل مئات آلاف مهاجري العمل من شتى أنحاء العالم والذين أضعفوا أكثر قدرة العمال الإسرائيليين على المساومة . ثالثا، الاستثمارات الحكومية الضخمة في المستوطنات أقصت مدن وبلدات التطوير عن رأس سلم الأولويات كذلك كانت هذه الاستثمارات أكبر بما لا يقاس من الاستثمارات الحكومية في مشروع إعادة تأهيل الأحياء الفقيرة في المدن. رابعا، النزاع المستمر مع الحركة الوطنية الفلسطينية يعيق إلى حد كبير عملية الدمج المدني بين اليهود العرب على الجانب الإسرائيلي من الخط الأخضر، كما يعيق أيضاً التطور الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين العرب في إسرائيل.
الفقر- تفش مطرد
تشهد معدلات الفقر في إسرائيل منذ الثمانينيات تفاقماً مطرداً. في عقد الثمانينيات بلغت نسبة العائلات الفقيرة 5ر13% بالمتوسط، وفي التسعينيات ارتفعت نسبة العائلات الفقيرة إلى 7ر16% بالمتوسط، وفي العام 2006 قفزت هذه النسبة إلى 20%.
هذا الازدياد في معدلات الفقر ليس نتاجاً حصريا للنزاع وإنما هو ناتج، من بين جملة أشياء، عن قدوم مئات آلاف المهاجرين اليهود من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً ومن أثيوبيا، والذين يعانون من بطالة عالية في صفوفهم و/ أو جراء تشغليهم بأجور متدنية؛ كذلك فهو ناتج عن سوق عمل تعاني من بطالة مرتفعة في بعض السنوات وعن سياسة تسعى لخفض تكلفة العمل عن طريق إضعاف النقابات المهنية وتشغيل أيد عاملة عن طريق شركات خاصة للقوى البشرية. لكن ازدياد الفقر ناتج أيضا عن العبء المالي الذي تفرضه السيطرة الإسرائيلية المستمرة في الأراضي الفلسطينية. ففي فترة الانتفاضة الثانية زادت الحكومة حجم الميزانية الأمنية على حساب تقليص مخصصات التأمين الوطني بشكل ملموس، الأمر الذي أدى إلى ازدياد فوري في معدلات الفقر. في السنوات الخمس 2001-2005، وعلى إثر التقليصات التي أجرتها الحكومة وبلغت قيمتها الإجمالية نحو 65 مليار شيكل، لحق ضرر شديد بمخصصات التأمين الوطني وعلى سبيل المثال قلصت مخصصات الأولاد بنحو 45%، وقلصت مخصصات البطالة بنحو 47%، ومنحة ضمان الدخل بنحو 25%. واضح إذن أن ازدياد الإنفاق على الأمن قلص بدرجة كبيرة المخصصات الهادفة إلى تعزيز الأمن الاقتصادي والاجتماعي، الشخصي والعائلي، للمواطنين الإسرائيليين.
التعليم- أكاديميون أم مدافع؟
ّ
كانت أكثرية أبناء الشبيبة الإسرائيليين في العام 2006 (54%) غير حاصلة بعد على شهادة الثانوية العامة- التوجيهي (البجروت) التي تشكل شرطاً للقبول في مؤسسات التعليم العالي. التقليصات الكبيرة في الميزانية، والتي جرت في فترة الانتفاضة الثانية، ألحقت ضرراً شديداً بميزانية التعليم. من أجل رفع نسبة استحقاق شهادة الثانوية هناك حاجة للاستثمار في تطوير المدارس في مختلف مناطق البلاد. ففي المدن والبلدات الغنية بلغت في العام 2006 نسبة الاستحقاق لشهادة الثانوية 3ر66%، في حين بلغت في مدن التطوير 50%، وفي البلدات العربية 7ر35%، وفي صفوف بدو النقب 9ر29%. فضلاً عن ذلك فإن إسرائيل ما زالت بعيدة عن جعل شهادة الثانوية شهادة شاملة أو عمومية، ويرجع أحد الأسباب إلى كون إسرائيل تستثمر في هذا المجال أقل بكثير من دول أخرى. ففي سنوات 1995 و 2003 زاد الإنفاق القومي على التعليم في مجموعة الدولة المتطورة OECD بنسبة 33% في المتوسط، في حين زاد هذا الإنفاق في إسرائيل 2% فقط.
التعليم العالي
في العام 2006 لم تتمكن أغلبية الشبان المتعلمين في إسرائيل (70%) من الوصول إلى الدراسات الأكاديمية، فقط 30% من الذين أنهوا المرحلة الثانوية في العام 1998 وصلوا حتى العام 2006 إلى الدراسة في جامعة أو كلية أكاديمية. وكانت التقليصات الكبيرة في الميزانية في فترة الانتفاضة الثانية قد أضرت بشدة بميزانية التعليم العالي. ففي غضون ست سنوات (2000-2005) تآكلت الميزانية الحكومية للطالب الجامعي بنسبة 19%. مما لا شك فيه أن التقليصات في ميزانية التعليم والتعليم العالي هي نتاج الأزمة الاقتصادية الناجمة عن فترة الانتفاضة الثانية. مع ذلك فإنها تعكس سياسة عامة، استهدفت تشجيع النمو الاقتصادي. ظاهرياً فإن سياسة تقليص الميزانية يجب أن تشمل أوجه الإنفاق كافة، بما في ذلك الأمن. بيد أن النزاع المستمر يلقي بظلاله البعيدة المدى على هذا المجال أيضاً. فقد أوصت "لجنة برودت" في أيار 2007 بزيادة ميزانية الأمن بمبلغ 46 مليار شيكل على مدى عشر سنوات (حتى العام 2017) وهذا لا يشمل الزيادة المتوقعة في المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل. معنى ذلك أن ميزانية الأمن ستزداد في كل سنة من السنوات العشر المقبلة بمبلغ 6ر4 مليار شيكل. وهذا يعني أيضاً أن ميزانية الأمن ستزداد بمبلغ سنوي يعادل الميزانية الإجمالية المخصصة للتعليم العالي. إذن فقد أجبر النزاع المستمر مع الفلسطينيين - وما يتفرع أو ينتج عنه من نزاعات إقليمية أخرى لإسرائيل ضلع فيها- الحكومة الإسرائيلية على أن تختار بين الأكاديميين والمدافع، فاختارت المدافع.
الجيش- بين تراجع الكفاءة والتسييس
يدفع الجيش ثمناً باهظاً لكون مهمته التنفيذية الرئيسة هي، منذ سنوات عديدة، فرض السيطرة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن أحد جوانب هذا الثمن يتمثل في الحاجة لتوجيه قوى وطاقات كبيرة من أجل مواجهة الفصائل الفلسطينية المقاتلة. وكانت لجنة برودت لتفحص الميزانية العسكرية قد أكدت أن مواجهة الانتفاضة الفلسطينية أضرت بالكفاءة التنفيذية للجيش الإسرائيلي. هناك ثمن آخر يدفعه الجيش الإسرائيلي وهو تحوله رغم إرادته إلى لاعب سياسي. فحيث أن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني بشكل عام، والسيطرة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية بشكل خاص، هما الموضوع المركزي في السياسة الإسرائيلية، فإن الجيش الذي يشكل الذراع التنفيذية الرئيسية للدولة في هذه المجالات، يجد نفسه رغما عنه وخلافا لمصلحته، يتحول إلى طرف في الساحة السياسية . عالم الاجتماع موشيه ليسك أكد، في العام 1990، عقب الانتفاضة الأولى، أن الجيش الإسرائيلي، وخلافاً لحالات الحرب التي يعمل فيها وفقاً لاعتبارات عسكرية، لا يستطيع في مواجهته للانتفاضة أن ينأى بنفسه عن الاعتبارات السياسية والأيديولوجية. فهو هنا يجد نفسه في صراع ومواجهة مع شخصيات سياسية مركزية من جهة، ومع مستوطنين من جهة أخرى. وحذر ليسك في ضوء ذلك من خطر انحسار التأييد العام للقيادة العليا للجيش الإسرائيلي سواء في صفوف اليسار أو اليمين، وأشار أيضاً إلى أن الوضع الجديد الذي نشأ جراء الانتفاضة ينطوي على خطر فقدان شرعية الخدمة العسكرية.
زعزعة الثقة بشرعية الحرب
أستاذ العلوم السياسية يورام بيري لخص الانعكاسات التنفيذية المترتبة على مواجهة انتفاضة قومية، بالتالي: عدم يقين قانوني في كل ما يتعلق بالحرب ضد مدنيين غير مسلحين؛ توتر بين الجيش الإسرائيلي والجهاز القضائي نتيجة لصعوبة تحديد قواعد السلوك المسموح بها؛ شعور لدى الضباط بالخذلان بسبب القيود القانونية التي فرضت على طريقة إدارة الحرب وكثرة المحاكمات بسبب نشاطات وممارسات غير قانونية.
وأضاف بيري أن الانتفاضة خلقت للمرة الأولى شرخاً في نظرية الأمن الإسرائيلية، فإذا كان قد ساد في الماضي إجماع حول شرعية حروب إسرائيل، فقد كان ثمة في هذه المرة من رأى في الانتفاضة نضالا عادلا للفلسطينيين من أجل تقرير المصير. إلى ذلك فقد أخذت تظهر بوضوح عقب الانتفاضة تصدعات في الشرعية الواسعة التي حظي بها الجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه، وراح الكثيرون يتساءلون بشأن مدى أخلاقية استخدام الجيش من أجل فرض السلطة الإسرائيلية على الفلسطينيين. كذلك وجد الجيش الإسرائيلي نفسه مراراً أمام ظاهرة رفض البعض من جنوده للخدمة أو التجنيد للقيام بمهام ألقيت على عاتق الجيش، وقد برزت ظاهرة الرفض خلال حرب لبنان الأولى (1982) ثم اتسعت بشكل ملحوظ خلال الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، وظهرت العديد من الحركات الاحتجاجية المناهضة لاستخدام الجيش الإسرائيلي لأغراض الاحتلال والسيطرة والقمع.
النزاع والسياسة والمكانة الدولية
أضحى النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، منذ اندلاع الانتفاضة الأولى، الموضوع المركزي في الساحة السياسية الإسرائيلية، إلى حد إقصاء مواضيع تحتل في دول أخرى بؤرة النقاش العام، مثل السياسة الاجتماعية والاقتصادية، إلى الهامش.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه مثل هذه المواضيع (الاجتماعية والاقتصادية) هي المواضيع التي تميز في الدول الأخرى بين المعسكرات السياسية الرئيسية (يسار ويمين) فإن الموضوع الفاصل في إسرائيل هو السياسة تجاه الموضوع الفلسطيني.
وقد ظل موضوع النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني على مدار السنوات منذ العام 1967، وبالأخص منذ اندلاع الانتفاضة الأولى، الشغل الشاغل للزعامة السياسية في إسرائيل، بكل ما له من إفرازات وتداعيات ومضاعفات محلية وإقليمية ودولية.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني أفرز أول حادث اغتيال في إسرائيل لرئيس حكومة، إذ قتل رئيس الحكومة اسحق رابين (1995) بسبب توقيعه على اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية.
على صعيد علاقات إسرائيل الخارجية، أدى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية إلى وضع إسرائيل في موقع الاحتكاك وأحيانا المواجهة الدائمة مع أجزاء كبيرة من المجتمع الدولي وأضعف بالتالي مكانتها وسمعتها في المنظومة الدولية، وجعلها على مدار سنوات طوال عرضة للنبذ والمقاطعة من قبل العديد من دول العالم والعديد من المحافل الثقافية والحقوقية والأكاديمية في الغرب.