المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ابحاث ودراسات
  • 1306

لا يبدو أن المعسكر المناوىء لسوريا، والذي تعززت قوته عقب تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان واستبدال قادة أجهزة الأمن، في صدد محاولة إجبار منظمة (حزب الله) على نزع أسلحتها، سواء لأن الأمر يبدو كغير ممكن أو لأن القوة العسكرية لحزب الله تعتبر بمثابة "ثروة" قومية. وطالما سينظر في لبنان إلى إسرائيل كدولة عدوانية مهدِّدَة فإن "حزب الله" سيظل يتمتع بتأييد المحافل الرسمية وأركان المعارضة اللبنانية وسيكون من السهل عليه أكثر تسويق نفسه كقوة ردع وطنية وقومية في مواجهة إسرائيل. ويستعد "حزب الله" للمرحلة المقبلة التي لم يتضح بعد الدور الذي ستلعبه سوريا فيها.

 

توطئة

 

تُطرح على بساط البحث منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في أيار 2000 مسألة مستقبل منظمة "حزب الله" اللبنانية، ومبرر وجودها في ظل عدم وجود احتلال إسرائيلي في الجنوب اللبناني.

 

هذه المسألة لا تشغل المحيط المحلي والإقليمي الذي تؤثر عليه المنظمة وحسب، بل وتشغل أيضاً زعامة "حزب الله". وقد برهنت هذه الزعامة قدرتها على مواءمة طابع المنظمة وأنماط عملها مع الواقع المتغير، كما حصل بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 والحرب في أفغانستان والإطاحة بنظام صدام حسين في العراق.

 

في أعقاب اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري، في منتصف شباط الماضي تصاعد الضغط الدولي واللبناني الداخلي على سوريا ليصل إلى ذروة جديدة. وبالفعل فقد أثمر هذا الضغط عن قيام سوريا بسحب قواتها من لبنان.

 

هذا المقال سيتناول ثلاثة جوانب منبثقة عن الظروف الجديدة:

أولاً/ معالجة منظمة "حزب الله" للأزمة الحالية التي تواجهها في الساحة الداخلية اللبنانية.

ثانياً/ الطريقة التي تتبعها "حزب الله" في توطيد مكانتها كقوة مسلحة في لبنان.

ثالثاً/ إمكانيات دمج "حزب الله" مستقبلاً في الجيش اللبناني، وهي مسألة مطروحة على بساط البحث السياسي والإعلامي في لبنان منذ اغتيال الحريري.

 

الإدعاء المركزي في هذا المقال هو أن منظمة "حزب الله" تلقي حالياً بكل ثقلها في الساحة اللبنانية، من أجل تكريس وجهة نظر مؤداها أن من مصلحة وفائدة الدولة الحفاظ على قوتها العسكرية كقوة ردع استراتيجية في مواجهة إسرائيل، وأن "الحزب" حصل في هذا الصدد على تأييد المؤسسة الحاكمة الموالية لسوريا والتي استبدلت مؤخراً، وحتى على تأييد قسم من المعارضين للتواجد السوري ويلحون في المطالبة برحيله. ومن المتوقع أن يتعزز التوجه نحو بسط شكل من أشكال الرعاية الرسمية على قوة "حزب الله" العسكرية وذلك تبعًا للضغوط الدولية على سوريا ولبنان، وسيسعى الحزب، الذي ينبع تأثيره الرادع تجاه إسرائيل من كونه بالذات هيئة غير مؤسسية، إلى التمتع بحماية المؤسسة اللبنانية الرسمية، جنباً إلى جنب الاحتفاظ قدر المستطاع باستقلاليته.

 

اغتيال الحريري، الذي سيسجل على ما يبدو كواحد من الأحداث المُشكِّلة لصورة لبنان في عصر ما بعد إبرام "اتفاق الطائف" وانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1989، أدى كما أسلفنا إلى تصعيد الضغط المحلي والدولي، الثقيل أصلاً، على سوريا وإلى حد الذروة، والهادف إلى حمل دمشق على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 (الصادر في أيلول 2004) والذي يدعو من جملة أشياء أخرى، إلى انسحاب "جميع القوات الأجنبية" من لبنان و"حل ونزع أسلحة جميع المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية" وإلى "بسط سيطرة حكومة لبنان على كامل تراب لبنان". من ناحية "حزب الله"، الذي وصف الحادث بـ "الزلزال"، جاء اغتيال الحريري، ليضع المنظمة تحت طائلة ضغوط دولية جديدة.

 

تغيير الأولويات: حزب الله يتوجه إلى الساحة الداخلية

 

يستدل من سلوك "حزب الله" حتى الآن أن المنظمة (الحزب) لم تكن جامدة في تفكيرها حيال تطورات دراماتيكية، كالحرب في العراق والتغيير في التوجه الدولي إزاء الإرهاب. كذلك يمكن القول أيضاً، في كل ما يتصل بالساحة الداخلية اللبنانية على الأقل، إنه طرأ منذ عشية شن الحرب على العراق، تغيير بعيد الأثر على أنماط عمل وسلم أولويات حزب الله.

 

أولاً: راح "حزب الله" يؤكد على انفتاحه تجاه جميع الأحزاب السياسية في لبنان، وبضمن ذلك جهات سياسية نأى "الحزب" في الماضي عن إقامة أي اتصال معها. وفيما كانت الغالبية المطلقة من تقارير وسائل الإعلام اللبنانية تتناول في الماضي الجوانب العسكرية لحزب الله، فقد تردد إسم المنظمة خلال العامين الأخيرين على الصعيد اليومي لا سيما في السياق السياسي الداخلي. وعلى سبيل المثال فقد شارك الأمين العام للمنظمة، الشيخ حسن نصر الله، في حفل افتتاح المؤتمر الفرانكوفوني في بيروت، وهو ما أُعتبر حدثاً منقطع النظير، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يُشارك فيها "نصر الله" في مناسبة غير مرتبطة بالصراع مع إسرائيل، والتي جرت أيضاً بمشاركة سفير الولايات المتحدة لدى العاصمة اللبنانية. وفي طريقة إلى مقعده (في حفل افتتاح المؤتمر ذاته) صافح الشيخ نصر الله للمرة الأولى البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير وهو من أوائل الذين طالبوا بانسحاب سوريا من لبنان. أما اليوم فقد أضحت لقاءات الحوار والتنسيق من هذا النوع مسألة روتينية في جدول أعمال زعامة حزب الله، بمن في ذلك مع أعوان أبرز المعارضين للتواجد السوري في لبنان، ميشيل عون.

 

ثانياً: على الصعيد العسكري يُسوِّق حزب الله نفسه حالياً في شكل أساسي كقوة ردع إستراتيجية في مواجهة إسرائيل، وبدرجة أقل بكثير كمنظمة تمارس قتالاً تكتيكياً يومياً ضد الدولة العبرية.

ويمكن تقسيم السنوات الخمس المنصرمة منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان (في أيار 2000) إلى فترتين رئيسيتين: من تشرين الأول 2000 وحتى نهاية 2002، حيث بادر "حزب الله" خلال هذه الفترة إلى شن هجمات ضد مواقع الجيش الإسرائيلي في مزارع شبعا مَرَّة كل بضعة أسابيع؛ والفترة الثانية من مطلع العام 2003 وحتى الآن، حيث تفصل أشهر عديدة بين الهجمات التي يشنها "الحزب" على المنطقة ذاتها، وغالبيتها تأتي رداً على ما يصفه الحزب "استفزازات إسرائيلية".

 

وقد حرص قادة "حزب الله" منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي على التوكيد بأن المنظمة تسعى وتعمل من أجل الحفاظ على الهدوء والاستقرار الأمني في الدولة اللبنانية. واليوم أُضيفَ بُعد آخر، إذ يسعى زعماء المنظمة عبر تصريحاتهم إلى توصيف قوتها المسلحة كقوة مكملة لجيش الدولة و مُنَسَّقة معه. ويُعلل كبار المسؤولين في "حزب الله" بقولهم: في ضوء ضعف الجيش (اللبناني) ينبغي الحفاظ على القوة العسكرية للمنظمة التي "تقف في خندق واحد مع جيش لبنان". هذا التوجه يحظى برد فعل إيجابي من جانب المؤسسة اللبنانية الرسمية.

 

دمج "حزب الله" في العقيدة العسكرية

 

تلقى المخاوف الإسرائيلية من "حزب الله" استيعاباً وتذويتاً على الجانب الشمالي من الحدود، سواء لدى محافل رسمية في سوريا أو لدى منظمة "حزب الله" والمؤسسة اللبنانية، وكذلك لدى جزء من زعماء المعسكر المناهض لسوريا. ولا يكتفي "حزب الله" بمراقبة مظاهر وتجليات هذه المخاوف وحسب، بل ويوظفها أيضاً في حملته الدعائية الداخلية الهادفة إلى المحافظة على مكانته وقُدراته العسكرية.

 

أمين عام "حزب الله"، الشيخ حسن نصر الله، أكد ذلك بشكل واضح عندما شدّد على أن جيش لبنان لا يستطيع وحده ردع إسرائيل، التي تستطيع قوتها الجوية القضاء على هذا الجيش بأكمله في غضون "ثلاث أو أربع ساعات". في المقابل، اضاف نصر الله مشيراً إلى أنه توجد تحت تصرف الدولة اللبنانية "المقاومة التي هزمت وأذلت وردعت إسرائيل طوال أربع سنوات ونصف السنة".

 

من جهته أكد نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أن "المقاومة الرادعة" تشكل قوة "تُخيف إسرائيل".

 

تجدر الإشارة إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تقارباً ملحوظاً بين "حزب الله" والمؤسسة الرسمية اللبنانية. ففي أيار من العام 1999 أوفد رئيس الجمهورية اللبنانية قائد "الحرس الجمهوري" لمقابلة الشيخ حسن نصر الله، وتوزيع أوسمة على مقاتلي الحزب تقديراً لقتالهم وصمودهم في جنوب لبنان، الأمر الذي اعتبر لفتة منقطعة النظير من جانب الحكم تجاه المنظمة. اليوم، واستناداً لما يستدل من المعلومات الإستخبارية المتوفرة في حوزة إسرائيل، والتي تعكس التعاون القائم بين "حزب الله" والجيشين السوري واللبناني، فإن الموقف المعلن للكثيرين من المسؤولين في المؤسسة العسكرية والسياسية في لبنان هو أن "حزب الله" يساعد في التعويض عن الفجوة في موازين القوى مقابل إسرائيل. في تموز من العام الماضي أُقتبس عن رئيس أركان الجيش اللبناني، العماد ميشيل سليمان، قوله مخاطباً الشيخ حسن نصر الله، إن "حزب الله"، وفي ضوء عدم إمتلاك لبنان لطائرات مقاتلة وجيش قوي لمواجهة إسرائيل، "يملأ هذا الفراغ" ويشكل "السلاح الذكي" للبنان. كذلك أكد رئيس لبنان إميل لحود أن حزب الله "لا يزال يمثل السلاح الخاص والضروري للبنان في ظل عدم توفر توازن عسكري تقليدي بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي"، فيما صرح وزير الدفاع اللبناني (السابق) عبد الرحيم مراد قائلاً: "قدراتنا محدودة ومساحة لبنان صغيرة جداً، ولذلك نحن نعتقد أن تعزيز ودعم المقاومة يشكل السبيل الأمثل من وجهة نظرنا".

 

تجليات وجهة النظر هذه، العلنية منها والسرية، اكتسبت خلال الأشهر الأخيرة، وربما كان ذلك جزءاً من محاولة المؤسسة العسكرية اللبنانية الدفاع عن "حزب الله" أمام الضغوط الدولية، تدعيماً ملموساً، وإلى الحد الذي باتت فيه شخصيات رفيعة في لبنان تتحدث اليوم عن أن "حزب الله" يندمج في العقيدة العسكرية للدولة اللبنانية، حتى أن الحديث عن ضرورة حماية "المقاومة" – أي حزب الله – ورد في نشرة خاصة لمديرية التعبئة والتوجيه في الجيش اللبناني وزعت على الجنود، وذكر فيها أن "المقاومة مقوّم ضروري في صمود الموقف اللبناني في مواجهة شتى المخاطر والتهديدات من جانب إسرائيل". وفي وقت لاحق صرح رئيس أركان الجيش اللبناني، سليمان، بأن "دعم المقاومة يشكل أحد المبادىء الأساسية الوطنية في لبنان وإحدى الركائز التي تقوم عليها عقيدة الجيش. إن حماية المقاومة هي المهمة الأساسية للجيش".

 

نائب أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، أكد من جهته قائلاً: "نحن كمقاومة موجودون دائماً في صلب العقيدة العسكرية للجيش اللبناني".

 

سجال أولي حول دمج "الحزب" في الجيش

 

في ظل هذه الظروف والمعطيات كان من الطبيعي فقط أن تكون المرحلة التالية في الانشغال بمستقبل "حزب الله" بداية سجال علني حول دمج المنظمة الشيعية بصورة رسمية – أو شبه رسمية – كجزء من جيش لبنان. مثل هذا السجال بدأ يدور حالياً، وذلك في أعقاب الوضع الناجم عن اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان. فبعد حوالي أسبوعين من حادث اغتيال الحريري نقل عن مصادر لبنانية قولها إن مستقبل "حزب الله" وقوته المسلحة سيكونان موضع بحث "في المرحلة القادمة"، وأن الأمر سيتم من خلال التشاور مع مختلف القوى السياسية في الدولة. ومن بين الإمكانيات التي طرحت في هذا السياق: إقامة علاقة مُنَسَّقَة ووثيقة بين "حزب الله" والجيش اللبناني؛ دمج القوة العسكرية للمنظمة داخل الجيش؛ أو الإعلان عن هذه القوة كقوة "إسناد" للجيش اللبناني في إطار لواء خاص يُسمى "لواء المقاومة".

 

يمكن الافتراض أن المنظمة ذاتها ستفضل الإحتفاظ بدرجة كافية من التميز والإستقلالية للحؤول دون ذوبانها التام داخل الجيش، بمعنى تفادي فقدان أفضلياتها حيال الجيش الإسرائيلي. أي أن المنظمة ستسعى إلى الإبقاء على الصيغة الحالية، والتي وصفها الشيخ نصر الله مؤخراً كـ"مقاومة تقيم تنسيقاً مع الجيش وتشكل رديفاً مكملاً له"، ولكن مع التمتع في الوقت ذاته باعتراف مؤسسي رسمي ومعلن بما يشكل حماية لها.

 

في مقابلة نشرت في مطلع نيسان الماضي نقل عن الشيخ نعيم قاسم قوله: "سنبحث مسألة السلاح بعد [انسحاب إسرائيل من مزارع] شبعا، شرط أن يتوفر بديل موثوق للدفاع عن لبنان. جيش الاحتياط لا يعني تحول المقاومة إلى جزء من الجيش، وإنما هي صيغة من التنسيق مع الجيش ... أي أن الحديث يدور حول مقاومة تحت إسم آخر".

 

في أعقاب نشر هذه التصريحات سارعت منظمة "حزب الله" إلى إصدار توضيح رسمي، ذكر فيه أن الشيخ قاسم أُقتبس بشكل غير صحيح، وأن الإقتباس الدقيق هو: "الفكرة التي يدور الحديث عنها لا تعني أن المقاومة ستتحول إلى جزء من جيش لبنان وتكون تحت قيادته، وإنما ستكون هناك صيغة مُنَسَّقة للدفاع عن لبنان وحمايته. أما الكيفية والتفاصيل فهي مسألة تحتاج إلى بحث ونقاش". أي أنه يمكن الاستنتاج من المقارنة بين النصين (الاقتباسين) بأن ما أزعج المنظمة في النص الأول هو أن يفهم منه بأن حزب الله سيفقد استقلاليته التنفيذية لصالح جيش نظامي، بمعنى فقدان الطابع التنفيذي الخاص للمنظمة.

 

إسرائيل وحزب الله:

التهديد وتجسيداته

 

تنظر إسرائيل إلى التطورات في الساحة اللبنانية وإلى مسألة النفوذ السوري في الدولة (اللبنانية) كشأن له ارتباط مباشر بأمن الحدود الشمالية، على الرغم من أن هذه الرؤية تغيرت كثيراً منذ بدء التواجد العسكري السوري في لبنان سنة 1976.

 

في ذلك الوقت، حيث كانت الصدمة الناجمة عن حرب "يوم الغفران" (1973) لا تزال ماثلة أو حديثة نسبياً، عبَّر البعض (في إسرائيل) عن تخوفهم من تواجد الجيش السوري على امتداد حدود إضافية. سياسة إسرائيل، التي دعت إلى خروج سوريا من لبنان، لم تنبع من خشية المواجهة العسكرية مع الجيش السوري على امتداد جبهة إضافية، وإنما من وجهة نظر مؤداها أن هذه الخطوة ستحرر الحكم في بيروت من قيود وصاية دمشق وستتيح انتشار الجيش اللبناني على امتداد الحدود مع إسرائيل، ما يعني إبعاد "حزب الله" وتواجده من المنطقة.

 

إن تتبع ما نشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية أو تصريحات كبار المسؤولين في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة يمكن أن يولد الإنطباع بأن الخشية من منظمة "حزب الله" – التي تضم بضع مئات من المقاتلين والمسلحة حسب تقدير شعبة الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية بأكثر من 13,000 صاروخ كاتيوشا وصواريخ بعيدة المدى – تفوق خشية إسرائيل من الجيش السوري الذي يمتلك فيما يمتلك نحو 3,800 دبابة وأسلحة كيميائية ومدى صواريخ يغطي مساحة دولة إسرائيل كاملة.

 

وتوصف المواجهة بين الجيش الإسرائيلي و"حزب الله" بأنها مواجهة "غير متكافئة" من منطلق أن الطرف الثاني (حزب الله) هو منظمة لا تخضع للمنطق والاعتبارات التي توجه بشكل عام دولة ما، وهذا على سبيل المثال خلافاً لحرب ممكنة ضد الجيش السوري، والتي يفترض أن تدور وفق أنماط عسكرية تقليدية معروفة. ما ينتج عن هذا الفهم إذن هو إبراز أو تضخيم التهديد المتجسد في "حزب الله". وعلى سبيل المثال، عندما قام "حزب الله" في تشرين الأول من العام الماضي (2004) بإرسال طائرة صغيرة بدون طيار للتحليق في أجواء شمال إسرائيل (فوق نهاريا) حظي الحادث بتغطية إعلامية بارزة وواسعة جداً واحتل العناوين الرئيسية في الصحف، وسط نشوب جدل إعلامي حول إمكانية قيام "حزب الله" في مرة قادمة بإرسال طائرة بدون طيار محملة بشحنة متفجرة. بل وذكرت أنباء أن الجيش الإسرائيلي قام في ضوء هذا التطور بنصب بطارية صواريخ "باتريوت" في منطقة حيفا.

 

مثال آخر نجده في السطور التالية، التي نُشرت في صحيفة "معاريف" في أوج أزمة صواريخ الـ"إسكندر" و "SA-18" والتي دارت حول تخوف إسرائيل من قيام روسيا ببيع سوريا وسائل دفاع جوية متقدمة يمكن أن تشق طريقها إلى لبنان، حيث ورد في ما كتبه المراسل والمعلق السياسي في الصحيفة بن كسبيت: "قالت مصادر في الجيش الإسرائيلي: باستطاعتنا أن نتدبر أمرنا في مواجهة مع الجيش السوري... لديهم صواريخ وسيكون لديهم المزيد منها، وميزان الرعب بيننا وبينهم واضح وحاسم، وهم (أي السوريون) لا يُثيرون قلقنا في هذه المرحلة. الذي يُثير قلقنا فعلاً هو حسن نصر الله. فمن يصغي لخطب وبيانات حزب الله في الأشهر الأخيرة سيلاحظ بين السطور إشارات إلى أن المنظمة تعكف على وضع حلول إبداعية لمواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي".

 

هذا الفهم هو الذي أدى بـ"جهات أمنية رفيعة" في إسرائيل – على الأقل حسب مصادر صحافية – إلى الإعلان بشكل غير مسبوق عن وقوف إسرائيل وراء اغتيال المسؤول الكبير في حركة "حماس"، عز الدين الشيخ خليل، في تشرين الأول من العام الماضي في دمشق. وإذا كانت إسرائيل هي المسؤولة أيضاً عن محاولات وعمليات الاغتيال التي وقعت ضد أعضاء ومسؤولين في "حزب الله" خلال السنوات الأخيرة في لبنان، فإنها وخلافاً لحادث إغتيال الشيخ خليل، امتنعت عن تبني مسؤولية هذه الاغتيالات.

 

مع ذلك ثمة أيضاً مؤشرات إلى أن هناك في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من بدأ ينظر لتهديد "حزب الله" بمقاييس مختلفة: ففي ضوء الزوبعة الإعلامية التي ثارت عقب تسلل وتحليق الطائرة بدون طيار فوق شمال إسرائيل، صرح ضابط كبير في قيادة المنطقة الشمالية: "كلنا نتحدث كما لو أنهم سيطلقون نحونا بعد برهة وشيكة قنبلة ذرية. واضح أنني لست سعيداً أو مرتاحاً إزاء قيام طائرة صغيرة بدون طيار بطلعة قصيرة فوق نهاريا ... ولكن هذه مجرد طائرة صغيرة بدون طيار قامت فقط بطلعة قصيرة ثم لاذت بالفرار". رئيس قسم العمليات في الجيش الإسرائيلي، الجنرال يسرائيل زيف، علق من جهته قائلاً إن "حزب الله سدد لنا ضربة تحت الحزام. قد يكون ذلك محرجاً لكنه ليس مخيفاً".

 

في مطلع نيسان الماضي عاد "حزب الله" وأرسل ثانية طائرة صغيرة بدون طيار حلقت في أجواء شمال إسرائيل. ولكن خلافاً للمرة الأولى، جاء رد فعل وسائل الإعلام (الإسرائيلية) في هذه المرة أكثر إعتدالاً بكثير.

 

تلخيص

 

أدى حادث اغتيال رفيق الحريري إلى تصعيد الضغط الدولي واللبناني الداخلي على سوريا لإرغامها على سحب باقي قواتها من لبنان، وفي نهاية نيسان الماضي أعلنت دمشق عن استكمال سحب جميع قواتها العسكرية والمخابراتية من الأراضي اللبنانية. هذا الأمر لا يعني أن سوريا ستتخلى كلياً عن تأثيرها ونفوذها في لبنان، والذي يمتد إلى عشرات السنين، ذلك لأن النظام السوري ينظر إلى هذا النفوذ كمصلحة قومية حيوية، ستتعرض أهمية سوريا بدونه إلى ضرر شديد، وهو ما عبر عنه رئيس وزراء لبنان الأسبق، سليم الحص، بقوله إنه إذا فقدت سوريا لبنان فإنها (سوريا) سوف تتحول إلى "دولة عادية كأية دولة أخرى في المنطقة".

 

من ناحية سوريا فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون أسوأ من ذلك هو أن يحل نفوذ إسرائيلي مكان النفوذ السوري في لبنان. في المستقبل المنظور يمكن أن تؤدي أية خطوة، تفسر كمحاولة من جانب إسرائيل لتجديد نفوذها في لبنان، إلى خطوات وتحركات مضادة من جانب سوريا، بما في ذلك تحركات تزعزع استقرار الدولة اللبنانية.

 

فيما يتعلق بـ"حزب الله"، لا يبدو أن المعسكر المناوىء لسوريا، والذي تعززت قوته عقب تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان واستبدال قادة أجهزة الأمن، في صدد محاولة إجبار المنظمة (حزب الله) على نزع أسلحتها، سواء لأن الأمر يبدو كغير ممكن أو لأن القوة العسكرية لحزب الله تعتبر بمثابة "ثروة" قومية. وطالما سينظر في لبنان إلى إسرائيل كدولة عدوانية مهدِّدَة فإن "حزب الله" سيظل يتمتع بتأييد المحافل الرسمية وأركان المعارضة اللبنانية وسيكون من السهل عليه أكثر تسويق نفسه كقوة ردع وطنية وقومية في مواجهة إسرائيل. ويستعد "حزب الله" للمرحلة المقبلة التي لم يتضح بعد الدور الذي ستلعبه سوريا فيها.

 

وعموماً فإن المنظمة تدرك الآن بأنها لا تستطيع الإعتماد أكثر على الركيزة السورية مثلما فعلت حتى اللحظة. هذا الوضع يفرض على "حزب الله" العمل من أجل حفز وتعظيم سيرورات كانت جارية في صفوفه من قبل وفي مقدمتها "لَبْنَنَتِهِ"، بمعنى تأكيد البعد اللبناني في هويته.

 

الأحاديث العلنية عن دمج "حزب الله" في العقيدة العسكرية اللبنانية، تستهدف تكريس وتوطيد حق الحزب في الوجود في الواقع المتشكل، وحمايته حيال الضغط الدولي الشديد الذي يتعرض له. من جهته سيسعى "حزب الله" إلى الإفادة قدر المستطاع من الجوانب الإيجابية الكامنة من ناحيته، في هذه الرعاية الرسمية اللبنانية، دون الإضرار أو الانتقاص من استقلاليته كقوة مسلحة.

 

مع ذلك، فبمقدار ما يكون حزب الله أكثر "لبنانية"، أي أن تكون الحماية المؤسسية اللبنانية له أكثر رسمية وإلزاماً، بمقدار ما سيكون من الصعب عليه مزاولة أنشطة غير شرعية، من قبيل المساعدات التي يواصل تقديمها في هذه الأيام أيضاً للمنظمات الفلسطينية في المناطق (الضفة الغربية وقطاع غزة)، هذه المساعدات التي آثرت إسرائيل حتى الآن عدم الرد عليها تفادياً لتقويض الاستقرار والهدوء على حدودها الشمالية. من المحتمل أن يجد "حزب الله" في المستقبل أقل صبراً وتسامحاً في لبنان ذاته حيال هذه النشاطات (المساعدات) في الساحة الفلسطينية، الأمر الذي يمكن أن يُوَلِّدَ الإدعاء بأن وجود "حزب الله" المسلح في حد ذاته وأعماله الاستفزازية هي التي تحوّل إسرائيل أساساً إلى تهديد للدولة اللبنانية.

 

من ناحية إسرائيل، لا تعني الأمور أن "حزب الله" لن يرد في المرة القادمة على ما يمكن أن يعتبره انتهاكاً إسرائيلياً على الحدود الشمالية، ولكن بمقدار ما ترتدي المنظمة (حزب الله) لبوساً رسمياً ومؤسسياً أكثر، بمقدار ما ستتحول تدريجياً من تهديد إلى خَطَر.

 

(*) دانيئيل سوبلمان هو باحث في مركز "يافه" للدراسات الإستراتيجية، وهذا المقال ظهر في "النشرة الإستراتيجية" للمركز، عدد أيار 2005، ترجمة "مدار".

المصطلحات المستخدمة:

نهاريا, طائرة بدون طيار

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات