انشغلت إسرائيل، في الأيام الأخيرة بتقريرين متناقضين، حول عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. الأول، تقرير رسمي صادر عن دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية يؤكد صحة الإحصائيات الفلسطينية، التي تفيد ان عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع هو في حدود 3,7 مليون نسمة. أما التقرير الثاني فقد أعده من تم وصفهم بـ"خبراء إسرائيليين وأميركان"، يزعمون أن الإحصائيات الفلسطينية مزوّرة وليست علمية، وأن عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع هو 2,4 مليون نسمة.
هناك في الواقع أربع وجهات نظر بشأن عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، ثلاث منها شبه متقاربة. فدائرة الإحصائيات الفلسطينية تقول إن عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع اليوم هو 3,6، ويقول تقرير للبروفيسور ديلا فيرجولا إن عددهم 3,3 مليون وان نسبة اليهود في فلسطين التاريخية هي 51% والفلسطينيين 45% والمهاجرين من غير اليهود والعمال الاجانب يشكلون 4%، وفي تقديرات جيش الاحتلال فإن عددهم ثلاثة ملايين ولكن فيرجولا يختلف في مسألة نسبة التكاثر السكاني، ففي حين تقول الاحصائيات الفلسطينية انها 3,4%، فإنه يدعي، ايضا، ان النسبة هي 2,4%. أما التقرير الرابع فهو تقرير "الخبراء الإسرائيليين والأميركان"، الذي يدعي ان عدد الفلسطينيين 2,4 مليون، ويدعي أيضا أن نسبة اليهود في فلسطين التاريخية هي 60%.
ويدور في إسرائيل في السنوات الأخيرة نقاش "ساخن" حول العامل الديمغرافي، يطغى عليه الطابع السياسي والايديولوجي، في اطار ما يسمى بـ "الخطر الديمغرافي على إسرائيل". وهناك فريقان من "الخبراء"، الأول يصر على ان عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، بمعنى في مناطق 48 و67، سيتجاوز عدد اليهود في نفس المنطقة حتى العام 2020، في حين يدعي فريق آخر أن هذا التفوق سيتم في العام 2050، وليس قبل ذلك.
ويتمسك بكل واحدة من وجهتي النظر طرف من كلا طرفي الخارطة السياسية الاسرائيلية، فاليمينيون الذين يعتقدون أن عدد الفلسطينيين سيتفوق على عدد اليهود في العام 2020 يطالبون بتنفيذ طرد جماعي سريع (ترانسفير) للفلسطينيين من وطنهم، وهناك حزب في اسرائيل له تمثيل برلماني يطرح في برنامجه هذا الموقف.
وفي تقرير جديد لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية قدمته للكنيست الاسرائيلي (البرلمان)، تقول الدائرة إنها أخطأت في تقريرها السابق حين شككت في معطيات دائرة الإحصاء الفلسطينية، وتؤكد الآن صحة الاحصائيات الفلسطينية، وتقول إن عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع حاليا يتراوح ما بين ثلاثة ملايين الى ثلاثة ملايين ونصف المليون. كما يثبت التقرير نفسه ما تقوله دائرة الاحصاء الفلسطينية بشأن نسبة التكاثر السكاني من حيث المواليد، وانه في السنوات العشر الأخيرة ازداد عدد الفلسطينيين بنسبة 109%، وهي تضاعف نسبة التكاثر السكاني في غالبية دول العالم، في حين شككت الدائرة الاسرائيلية بشأن معطيات الهجرة الى الضفة والقطاع، وقالت انه مبالغ فيها.
أما تقرير "الخبراء" النقيض، الذي أعده باحثان يهوديان من اليمين الاسرائيلي هما بن تسيمرمان ويورام اتينغر، فإنه يزعم ان عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع هو 2,4 مليون نسمة، ويدعي التقرير وجود انخفاض حاد في نسبة التكاثر السكاني في الضفة والقطاع، من 3,8% في العام 1997، الى 2,4% اليوم، وهذا ما يرفضه خبراء دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، على ضوء أن نسبة التكاثر في إسرائيل هي 2,1%، بينما في الضفة والقطاع عدد الولادات للمرأة الواحدة هو أكثر من المرأة الاسرائيلية. ولهذا فإن عدد الفلسطينيين بنظرهم هو أقل بـ 1,4 مليون مما تعلنه الاحصائيات الفلسطينية.
ولكن من جهة أخرى فإن الطرفين في اسرائيل يتفقان على عدد الفلسطينيين في القدس المحتلة، الذين بحوزتهم بطاقات هوية اسرائيلية كمقيمين وليس كمواطنين بفعل قانون الضم الاحتلالي. هنا تسعى اسرائيل في هذه الفترة الى سلخ 140 ألف فلسطيني عن مركز المدينة من خلال جدار الفصل العنصري، الذي سيجعل غالبية الأحياء الفلسطينية والضواحي خارج إطار القدس وفق التحديد الإسرائيلي، ومن جهة أخرى فإن إسرائيل سنت قانونا يقضي بأن من تواجد خارج اسرائيل لفترة ستة اشهر، فإنه سيفقد هويته، والحديث موجه للفلسطينيين فقط.
يذكر أنه عقد قبل ثلاثة اسابيع في جامعة حيفا في الشمال يوم دراسي حول ما يسمى بـ"الخطر الديمغرافي" في اسرائيل، وطرحت فيه الكثير من وجهات النظر، ولكن لم تنشر تلخيصاته. وقد أثار انعقاد اليوم الدراسي حفيظة القوى الفلسطينية في اسرائيل، وقوى يهودية يسارية، التي تظاهرت ضد مجرد عقد هذا اليوم، واصطدمت مع الشرطة.
أما المؤيدون لفكرة ان عدد الفلسطينيين سيتفوق على عدد اليهود ليس قبل 2050، فهم بالأساس من قوى اليمين، التي تدعو الى "تهدئة" القلق الاسرائيلي، وانه لا حاجة لأي انسحاب من الضفة والقطاع، وبالامكان الاستمرار في الوضع القائم! ويكثف هؤلاء حملتهم في هذه المرحلة، في اطار نشاطات معارضة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وبات ظهورهم في الأيام الدراسية والندوات مكثفا في الآونة الأخيرة. لا بل إن ذوي هذا التوجه اليميني يتهمون دائرة الاحصاء المركزية الاسرائيلية بأنها تتبنى الاحصائيات الفلسطينية من منطلقات سياسية، وانها تريد ترسيخ الفكرة الديمغرافية، وان اسرائيل مقبلة على انقلاب ديمغرافي.
ويطالب ذوو التوجه اليساري الصهيوني الذين يعتقدون ايضا باقتراب تفوق الفلسطينيين عدديا بالاسراع في التوصل الى حل دائم والانسحاب من الضفة الغربية للحفاظ على الغالبية اليهودية، ومنهم من راح يطالب ايضا بضم مناطق من 1948، مثل منطقة المثلث الملاصقة للضفة الغربية، الى الضفة ليقل بذلك عدد الفلسطينيين في اسرائيل امام يهود اسرائيل، مقابل ضم كتل استيطانية في الضفة لإسرائيل. وهذا العرض الذي كان أول من طرحه عضو الكنيست عن حزب "العمل" افرايم سنيه، سرعان ما انتقل الى معسكر اليمين ليتبناه المتطرف افيغدور ليبرمان، وهو يقوم في هذه المرحلة بحملة تسويق له، ويدعي ان حلقة التأييد للفكرة تتسع في اوساط حزبي "العمل" و"الليكود".
ولكن انخراط قوى اليسار الصهيوني في هذا الجدل واظهار ان ضرورة اقامة دولة فلسطينية نابعة من الخوف على الأكثرية اليهودية لإسرائيل أوقعها في مطب لم تستفد منه، لأن الشارع الاسرائيلي اعتاد عند اعلامه "بالمخاطر" ان يلجأ الى رمز القوة الموجود في اليمين. معنى هذه الملاحظة أن هناك قطاعات في اليسار الصهيوني لا تتعامل مع القضية الفلسطينية كحق شعب في اقامة دولته، بل أيضا وربما أساسًا من منطلقات الفكر الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل ذات الغالبية اليهودية.