رغم العوائد السياسية الإستراتيجية التي حصدتها إسرائيل من وراء التواجد الأميركي المباشر في الشرق الأوسط، إلا أنها ظلّت تتحسّب من الانعكاسات السلبية لهذا التواجد على وجودها ودورها، لا سيما في ثلاثة مجالات: 1ـ مكانتها لدى الولايات المتحدة الأميركية، 2 ـ الاستقرار في المنطقة، 3 ـ عملية التسوية.
فبعد أن باتت الولايات المتحدة تتواجد وتعمل مباشرة في منطقة الشرق الأوسط، بعد احتلال العراق، باتت إسرائيل تتخوّف من إمكانية انعكاس هذا التواجد عليها سلبا، لناحية تراجع مكانتها في السياسة الأميركية الشرق أوسطية، ما يمهد لتآكل علاقاتها الإستراتيجية المتميزة مع الولايات المتحدة.
على ذلك وجدت إسرائيل نفسها معنية بمراجعة ماهية دورها السياسي الإقليمي أو الوظيفي في هذه المنطقة، فالولايات المتحدة لم تعد بحاجة لوكيل يعمل بدلا عنها ولا لحارس يصون مصالحها، كما لم تعد بحاجة لقاعدة محلية أو حاملة طائرات برية. فقد أثبتت التجربة أن إسرائيل لم تستطع حماية منابع النفط في الكويت (1990)، بل إنها اضطرت للوقوف دون حراك في حرب الخليج الثانية (1991)، وحتى أنها تحولت إلى عبء على الولايات المتحدة التي تكفّلت مباشرة بإخراج العراق من الكويت. فبدلا من أن تحمي إسرائيل المصالح الأميركية جاء الجنود الأميركان مع صواريخ الباتريوت لحماية إسرائيل، آنذاك، وهو ما حصل أيضا إبان الحملة الأميركية لاحتلال العراق في مارس 2003. وفي مستوى آخر فإن تجربة احتلال جنوب لبنان أكدت تراجع قدرة إسرائيل على الردع والحسم حتى أنها اضطرت للانسحاب من طرف واحد، تحت ضغط المقاومة اللبنانية (2000). أيضا في الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993) انشغل الجيش الإسرائيلي بمواجهة الأطفال والشبان من قاذفي الحجارة، مثلما انشغل خلال الأعوام السابقة، منذ اندلاع الانتفاضة في أواخر العام 2000، بهدم البيوت وجرف المزروعات واغتيال الناشطين الفلسطينيين والتنكيل بالنساء والأطفال والشيوخ على الحواجز، وبرغم كل ذلك فقد فشل هذا الجيش في جلب الأمن والاستقرار لمواطنيه، وفي محاولاته وأد المقاومة الفلسطينية التي أثبتت نفسها باستمرار. والأنكى من كل ذلك أن إسرائيل ما زالت عاجزة عن تمويل نفسها بنفسها، وهي تطالب الولايات المتحدة، بين الفينة والأخرى، برزمة مساعدات مالية مضافة إلى المساعدات السنوية العادية التي تصل إلى 3 مليارات من الدولارات. وفوق هذا وذاك فإن إسرائيل باتت تشكل عبئا سياسيا وأخلاقيا على الولايات المتحدة، بسبب تغطيتها سياسات إسرائيل المتعنتة والعدوانية، ما يضعها في موقف حرج على الصعيد الدولي، وأمام الرأي العام العالمي.
طبعا لا يمكن الاستنتاج من ذلك أن أميركا سترمي إسرائيل جانبا. ففي تجربة الحرب ضد العراق أثبتت إسرائيل، أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي يمكنها الذهاب بعيدا مع المصالح الأميركية، مؤكدة على مقولة أنه "ليس في الشرق للغرب أفضل من الغرب نفسه". فالحكومات العربية لا تستطيع في مطلق الأحوال (ولا تريد أحيانا)، ولأسباب متعددة، دعم السياسات الأميركية، ومن جهتها فإن الشعوب العربية معادية على طول الخط لهذه السياسات بسبب غطرستها ودعمها لإسرائيل. حتى تركيا التي عرفت بتحالفها مع أميركا وبعلاقاتها الإستراتيجية مع إسرائيل اتخذت موقفا لا ينسجم مع المتطلبات الأميركية في الحرب ضد العراق، بل إنها وصلت إلى حد "التجرؤ" على ابتزاز الولايات المتحدة لأخذها بعين الاعتبار كشريك في تقرير مستقبل العراق، دفاعا عن مصالحها. لهذه الأسباب فإن الولايات المتحدة الأميركية ستبقى حريصة على تغطية سياسات إسرائيل ودعمها وضمان أمنها واستقرارها وتفوقها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري، وذلك بغض النظر عن دورها في المنطقة، وذلك بسبب الروابط والمشاعر والرؤى التي تربط بين الطرفين في المجالات: السياسية والثقافية والتاريخية والدينية؛ خصوصا وأن الإدارة الأميركية في هذه المرحلة تعج بمجموعة من المتحمسين لإسرائيل، وخصوصا لحزب الليكود، من تيار المحافظين الجدد. والمقاربة التي تحاولها إسرائيل في هذا المجال تتلخص بالتسهيل على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، على أن لا يمس ذلك أمنها ومصالحها.
أما بالنسبة للسياسات الأميركية إزاء الاستقرار في المنطقة فثمة تيار في إسرائيل يرى في محاولات الإدارة الأميركية تغيير الواقع السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي في الشرق الأوسط بمثابة نوع من العبث، فبرأي هؤلاء فإن محاولة نشر الديمقراطية، مثلا، ستصطدم بالبني والمفاهيم التقليدية، ما يخلق نوعا من الاضطراب وعدم الاستقرار، وهو ما ينعكس سلبا على إسرائيل، وعلى مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ويشرح جدعون ليفي، وهو من أشد الكتاب انتقادا لإسرائيل وممارساتها العدوانية، وجهة نظره على النحو التالي: "هناك أُمنية بأن يبزغ فجر جديد في سماء الشرق الأوسط، ولكن ليس واضحا بعد إذا كانت ستظهر في العراق ديمقراطية جديدة، والأمر المؤكد أيضا انه لا يمكن التنبؤ بإنشاء أنظمة ديمقراطية في دول عربية أخرى. أضف إلى ذلك أن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني ما زال الأكثر خطورة والذي ينطوي على تهديد جدي لسلامة العالم - كونه مغذيا للإرهاب الدولي - وهذا الصراع لن يسوى إلا إذا ما وضعت نهاية للاحتلال الإسرائيلي.." (هآرتس، 13/4/2003). ولا شك أن إسرائيل في مقاربتها قضية الديمقراطية في المنطقة العربية تحاول الترويج لفرادتها (بادعاء أنها واحة للديمقراطية في المنطقة) ولاعتبار نفسها امتدادا للغرب في الشرق الأوسط؛ في محاولاتها التحريض على الأقطار العربية، وتغيير الأولويات الدولية في المنطقة من إنهاء الاحتلال إلى محاربة الإرهاب مثلا.
أما من زاوية عملية التسوية فيبدو المشهد الإسرائيلي على حال من الاضطراب والترقب إزاء التعامل مع تداعيات التدخل الأميركي المباشر في شؤون المنطقة. فثمة تحليلات إسرائيلية، ضمن رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، تعتقد بأن تداعيات الوجود الأميركي المباشر سيضطر إسرائيل إلى مراجعة مواقفها والتجاوب مع الإستراتيجية الأميركية، وفق رؤية الدولتين، التي اقترحها الرئيس الأميركي جورج بوش (يونيو 2002) وتبنتها فيما بعد خطة "خريطة الطريق"، والتي باتت في عهدة اللجنة الدولية الرباعية. ويرى هذا الاتجاه بأن الضغط سيتركز على إسرائيل، لجهة وقف الاستيطان والقبول بقيام دولة فلسطينية. اللافت أن الصحافة الإسرائيلية امتلأت وبشكل مبكر بالتحليلات التي تؤكد بأن التغيير في المنطقة لن ينحصر في العراق وأن الهدف الثاني لتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي هو إسرائيل. وفي هذا الإطار نشرت صحيفة هآرتس (31/10/2003) خبرا مفاده أن "شعبة الاستخبارات العسكرية تعتقد انه بعد الحرب ضد العراق ستتفرغ الولايات المتحدة لإحراز تسوية إسرائيلية - فلسطينية وان على إسرائيل أن تكون مستعدة لذلك". وبرأي المحلل الإسرائيلي ألوف بن فإنه: "يوجد إجماع واسع في المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية يقول بأن الأميركيين سيتوجهون من بغداد صوب القدس من أجل التوصل إلى تسوية إسرائيلية - فلسطينية.. الرسالة التي وصلت من واشنطن تفيد بأن بوش يتعامل مع "خريطة الطريق" بجدية وأنه يريد أن يرى الدولة الفلسطينية المؤقتة خلال فترة ولايته. والإدارة الأميركية أطلقت أيضا أصواتا معبرة عن عدم الارتياح من المستوطنات" (هآرتس 7/11/2003). ولعله في هذا الإطار تبرز التخوفات الإسرائيلية من اليوم التالي لما بعد الانسحاب من غزة، حيث يرى العديد من قادة إسرائيل ومحلليها بأن الإدارة الأميركية لن تترك الحبل على الغارب لإسرائيل وأنها ستطالبها بالقيام بخطوات انسحابية أخرى في الضفة الغربية، مع تجميد البناء في المستوطنات، للشروع بتنفيذ المرحلة التالية من خطة خريطة الطريق؛ وذلك برغم العهد الذي قطعته لأريئيل شارون في أبريل 2004، بشأن عدم مطالبة إسرائيل بالعودة لحدود يونيو 1967 وإبقاء الكتل الاستيطانية تحت السيادة الإسرائيلية. ويرى هؤلاء بأن المرونة التي تبديها الإدارة الأميركية حاليا هي مجرد نوع من الانتظار للتسهيل على شارون أمام معارضيه ولتمرير خطة الانسحاب من غزة.
المهم من كل ذلك أن إسرائيل تجد نفسها من جديد في مواجهة استحقاقات تاريخية على غاية الأهمية، بالنسبة لتحديد مكانتها ودورها وبالنسبة لتحديد حدودها الجغرافية والسياسية؛ والمفارقة أن إسرائيل بقدر ما تنظر لعلاقاتها بواشنطن باعتبارها ذخرا إستراتيجيا لها بقدر ما تتوجّس من تبعات هذه العلاقة.