المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

منذ رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بدا وكأنه ثمة تغير ملموس في مشهد الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ تراجعت وتيرة الصراع بينهما بنسبة كبيرة، وحصل تغير نوعي في خطابهما السياسي، واستؤنفت الاتصالات التفاوضية، على أكثر من مستوى، بينهما.

ومن المؤشرات الظاهرة، في هذا السياق، اعتزام إسرائيل الانسحاب من المدن الفلسطينية، إلى خطوط ما قبل مارس 2002، وإطلاق سراح مجموعة كبيرة من الأسرى، والقيام بإجراءات عديدة للتهدئة وتسهيل عيش الفلسطينيين، ضمنها: 1 ـ فتح المعابر (رفح وايرز وكارني)، التي تربط قطاع غزة بكل من مصر وإسرائيل؛ 2ـ تقليص عدد الحواجز في الضفة والقطاع غزة لتسهيل تحركات الفلسطينيين؛ 3ـ وقف عمليات الاجتياح للمدن الفلسطينية ووقف عمليات الاعتقال والاغتيال للفلسطينيين؛ 4 ـ إمكان تنسيق الانسحاب من قطاع غزة مع الفلسطينيين، واعتبار ذلك جزءا من المرحلة الأولى من خطة "خريطة الطريق"؛ هذا في حال عدم حصول تطورات مفاجئة بين الطرفين، من نوع عملية إسرائيلية أو فلسطينية كبيرة، تستدعي ردا كبيرا من الطرف الأخر، وتقلب الطاولة مجددا.

بالمقابل يبدو المشهد على الصعيد الفلسطيني مشجعا، أيضا، فثمة تفاهمات بشأن وقف إطلاق النار، وثمة نية لدى جميع الأطراف الفاعلة بإعطاء الدبلوماسية فرصة جديدة، وإنجاح الرئيس الجديد محمود عباس، وثمة توجهات بإصلاح الوضع الداخلي، بدليل إجراء الانتخابات الرئاسية والبلدية، وتحديد موعد لإجراء الانتخابات التشريعية (يوليو القادم)، وتوحيد أجهزة الأمن، وتفعيل دور القضاء والقانون والحد من الفوضى ومن مظاهر الفساد؛ وبدليل الحوار الجاري بين السلطة وبين الفصائل المعارضة؛ وخصوصا حركة حماس.

ويمكن أن نضيف إلى هذا المشهد تنشيط الفلسطينيين لحركتهم السياسية على الصعيدين العربي والدولي، وهو ما تمثل بالتحركات الواسعة التي أجراها الرئيس المنتخب مع عديد من قادة الدول، والتي ستتوج بلقاء مع الرئيس الأمريكي جورج بوش في البيت البيضاوي في واشنطن.

المهم أن التغيرات الدراماتيكية في علاقات الفلسطينيين والإسرائيليين، تطرح عديدًا من الأسئلة عن مغزى وعن جدوى الصراع الدامي والمدمر بينهما، طوال أربعة أعوام مضت، كما تطرح التخوفات من إمكان انهيار المسارات الحالية نظرا لهشاشتها، ما يعيد هذين الطرفين إلى دوامة الصراع مجددا. وبالأخص فإن التغيرات النوعية والسريعة، في علاقات الطرفين وخطابهما، ربما توحي بأن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان حقا بمثابة عقبة كأداء أمام أي تغيير، ولا سيما إزاء تهدئة الصراع مع الإسرائيليين وإزاء جهود الإصلاح الداخلي، ما قد يضفي نوعا من الصدقية على الادعاءات الإسرائيلية والأمريكية التي روّجت لذلك.

وفي واقع الحال فإن الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني يتحملان المسؤولية عن تدهور الأحوال بينهما، ولكن المسؤولية الأساسية والأكبر تقع على إسرائيل، فهي المسؤولة عن انهيار عملية التسوية، بسبب عدم وفائها بالتزاماتها، ومحاولاتها فرض واقع التهويد والاستيطان والاحتلال، ولجوئها إلى أقصى قدر من العنف لإرهاب الفلسطينيين وإجهاض مقاومتهم للاحتلال. أما الفلسطينيين فيتحملون، في هذا المجال، مسؤولية انجرارهم للاستدراجات الإسرائيلية، وربما عدم إدراكهم تماما لمعانيها السياسية. وقد فاقم من هذا الأمر طريقة القيادة الفلسطينية في العمل والخلافات بين السلطة والمعارضة، وغلبة الروح الشعاراتية والعاطفية في العمل الفلسطيني على الروح السياسية الواقعية.

النتيجة أن الطرفين المعنيين لم يستطيعا شيئا خلال صراعهما العنيف، وفقط فقد استنزف كل طرف منهما قدراته، من دون أن يستطيع أن يفرض إملاءاته على الطرف الأخر. ولعل هذا هو معنى عودة الطرفين إلى المربع السياسي الذي كانا عليه قبل اندلاع الانتفاضة (أواخر سبتمبر2000).

لكن الاستنتاج القائل بأن غياب ياسر عرفات هو الذي أتاح التهدئة مجحف ولا يتناسب مع الحقائق. ذلك أن الطرف الفلسطيني، في ظل وجود الرئيس عرفات، ظل يطالب مرارا وتكرارا بالتهدئة، وكانت إسرائيل هي التي تتعمد نقضها، بقيامها بأعمال عنيفة (اقتحامات واغتيالات) لاستدراج ردود فعل فلسطينية. ومعروف أن إسرائيل كانت أفشلت جهود محمود عباس إبان رئاسته للحكومة الفلسطينية (2003) واضطرته للاستقالة. وإضافة إلى هذا وذاك فإن الادعاءات الإسرائيلية تحاول أن تحجب حقيقة تاريخية مفادها أن ياسر عرفات هو الزعيم الذي استطاع نقل وعي شعبه إلى الواقعية السياسية، وهو الذي أقنعه بفكرة التسوية، وبهدف الدولة المستقلة في الضفة والقطاع؛ ومشكلة ياسر عرفات، برغم كل ما تقدم، أنه ظل قائدا مفعما بالرموز وبوطأة التاريخ، وبالأبجديات الأولى للصراع، لا سيما أن إسرائيل برأيه ليست جادة، وغير ناضجة لعملية التسوية بالمفاوضات. والمعنى أن ياسر عرفات لم يكن مشكلة على ما تروج دعاية إسرائيل، فالمشكلة كانت وما زالت تكمن فيها، فهي التي تملك مفاتيح التهدئة والتسوية والحل.

أما التغير الذي حصل بعد غياب ياسر عرفات، فيكمن في الطرف الإسرائيلي، الذي اتجه نحو فكفكة حكومة اليمين المتطرف وإنشاء حكومة وحدة وطنية بين حزبي الليكود والعمل؛ يمكن أن تضم لاحقا حزب شاس (للمتدينين الشرقيين). والذي تغير، أيضا، هو وجود مناخات يمكن لشارون من خلالها أن يسوق مشروعه بشأن الانسحاب الأحادي من الضفة وبعض مناطق قطاع غزة، بدعوى غياب عرفات وظهور شريك فلسطيني مناسب.

وإضافة إلى هذه التغيرات فثمة أسباب أخرى تضغط على حكومة شارون للتوجه نحو التهدئة، يتمثل أهمها بالضغوط الأمريكية على إسرائيل لكبح جماحها ودفعها نحو استئناف مسيرة التسوية مع الفلسطينيين، لتنفيس الاحتقان الحاصل في المنطقة، على خلفية تعثر الترتيبات الأمريكية في العراق.

واضح أنه ثمة مؤشرات تؤكد أن الإدارة الأمريكية بصدد مراجعة سياستها القائلة بتجاهل أثر الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على التوترات في المنطقة العربية، وهذا ما أكدته كوندوليزا رايس حينما قالت في تصريح لها، قبل أيام، أنه آن الأوان لإيجاد حل للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن لا سلام في الشرق الأوسط من دون دولة فلسطينية، وان على إسرائيل الاعتراف بضرورة أن تكون هذه الدولة قابلة للحياة ومترابطة. وقد تمثل ذلك، أيضا، برفض الإدارة الأمريكية لمحاولة حكومة شارون التقليل من أهمية التغير الحاصل في القيادة الفلسطينية، واعتبار محمود عباس "عرفات آخر مع ربطة عنق"، وكان الرد على هذه الادعاءات دعوة أبو مازن للقاء الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض. وبحسب ديفيد ساترفيلد، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي، فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى ساحة أساسية للصراع في الشرق الأوسط، بين الاتجاهات الديمقراطية والإصلاحية من جهة والنزعات الإسلامية المتطرفة من الجهة الأخرى، وإن حل هذه القضية وإقامة دولة فلسطينية سيؤدي إلى سحب البساط من تحت أقدام المتطرفين. وقد حدد ساترفيلد "المفاصل" الأربعة للسياسة الخارجية "الجديدة" في المنطقة على النحو التالي: حل المسألة الفلسطينية، إعادة الاستقرار إلى العراق، التحديث الاقتصادي والانفتاح الديمقراطي، مواجهة الإرهاب عبر بناء شراكة قوية مع دول المنطقة.

المعنى من ذلك أن الوضع على جبهة العلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين غاية في الهشاشة، فالملفات العالقة بينهما كبيرة، لا يكفي معها العودة فقط إلى مربع ما قبل سبتمبر 2000، فثمة ملفات الاستيطان والجدار الفاصل ومحاولات تهويد القدس والسيطرة على المعابر وآلاف المعتقلين، إضافة إلى المفاوضات على قضايا الحل النهائي، وهي كلها قضايا يمكن أن تشعل الوضع مجددا، إذا لم تخلق المعطيات الدولية والإقليمية المناسبة التي تضغط على إسرائيل وتضطرها إلى مراجعة سياستها المتعلقة بالتسوية بعد أن قدم الفلسطينيون ما عليهم لأجلها.

المصطلحات المستخدمة:

الليكود, تهويد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات