أقرت الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد 7/8/2005 وللمرة الأولى بشكل صريح إخلاء ثلاث مستوطنات في قطاع غزة. ورغم الصخب الذي رافق كل الخطوات التي انتهجها رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون منذ إعلانه عن خطة الفصل في مؤتمر هرتسليا، فإن كل تلك التدابير كانت تمهيداً لهذا القرار. وليس صدفة أن اليمين الإسرائيلي استبق القرار العملي الأول بمجزرة شفاعمرو مثلما ألحقه باستقالة وزير المالية بنيامين نتنياهو. وفي الحالين كانت المجزرة والاستقالة عملاً مدروساً لمنع اتخاذ القرار أو منع تنفيذه.
ولا ريب أن المصاعب التي اعترضت حتى الآن خطة الفصل ليس مكتوباً لها أن تتقلص قبل أسبوع من بدء التنفيذ. بل إن العقل السليم يفترض أن تزداد هذه المصاعب لا لشيء إلا لأن الخلاف ما زال على أشده بين مدرستي التفكير الأساسيتين في إسرائيل: تلك المؤيدة للفصل من دون سلام وتلك المعارضة للفصل ولو بسلام.
وإسرائيل، بمجتمعها وحلبتها السياسية، تشهد الصراع العلني حول عواقب خطة الفصل، في حين أن الجانب الفلسطيني لاعتبارات كثيرة ستر صراعاته حولها واكتفى بالتنافس في الاحتفال بالنصر. والقصة هنا، كما في إسرائيل، قصة العبرة والدرس المستخلص من تنفيذ خطة الفصل.
فالقاتل في حافلة شفاعمرو أراد أن يمنع الخطر المحيق بأرض إسرائيل عن طريق إراقة الدم العربي، الأمر الذي قد يحدث زلزالاً يعيد حكومة إسرائيل إلى رشدها فتتخلى عن الخطة. ووزير المالية قدم استقالته بأمل أن يحدث ذلك هزة سياسية تدفع أحزاب الائتلاف إلى التوقف وإعادة التفكير في هذه الخطة التي تلحق الضرر البليغ بأمن إسرائيل. وبالفعل كانت بورصة تل أبيب أول من أحس بآثار هزة نتنياهو، حيث تراجعت قيمة الأسهم بشكل كبير.
والواقع أن السلطة والفصائل الفلسطينية وإسرائيل المؤيدة والمعارضة لخطة الفصل يحاولون جميعاً الإفادة مما بات يسمى "نموذج غزة". و"نموذج غزة" هذا ليس في الحقيقة واقعاً ومستقبلاً فقط بل هو صيرورة ماض قاد إلى هذه النقطة. وتدخل في هذه الصيرورة أفعال وإخفاقات كما تدخل فيها حقائق وإشاعات. وبين هذه الأفعال أن إسرائيل كانت منذ عقود طويلة تعمل من أجل ضم قطاع غزة. وبين هذه الإخفاقات أن الجزرة الإسرائيلية لم تفلح في اجتذاب فلسطينيي القطاع مثلما لم تفلح العصا الإسرائيلية في ردعهم عن المقاومة. كما أن بين الحقائق أن إسرائيل تخلت عن شهيتها بالسيطرة على قطاع غزة ليس بسبب الإشاعة أن غزة وأريحا ملعونتان في التاريخ اليهودي.
إن قصة الاستيطان اليهودي في قطاع غزة الذي كان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان يصفه بـ"ريفييرا" البحر المتوسط هي قصة الفشل. ورغم أن المخططات الإستراتيجية التي وضعت لتوطين اليهود وتفريغ القطاع من أهله كانت كبيرة، فإن الفشل هو أقل ما يمكن أن توصف به. لقد جرى اقتطاع حوالي ثلث أراضي القطاع للمستوطنات، ولكن ذلك لم يجلب إليها أكثر من سبعة آلاف مستوطن، رغم الإعلانات التي كانت تصف مستوطناته بأنها على بعد كيلومترات قليلة من عسقلان.
ومن البديهي أن يكون اليوم، حين اتخذت الحكومة الإسرائيلية أول قرار تنفيذي بإخلاء مستوطنات في القطاع، أكثر من معنى لاستذكار تاريخ الاستيطان اليهودي فيها. فأريئيل شارون الذي آمن طوال الوقت بأن ما لا يأتي بالقوة يمكن أن يأتي بمزيد من القوة حاول، كقائد للجبهة الجنوبية في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ترسيخ المستوطنات وقمع المقاومة. واليوم في منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين يقرر إخلاء هذه المستوطنات تحت نيران المقاومة.
وعلى الصعيد الفلسطيني، تشير احتفالات السلطة الفلسطينية المبكرة إلى الأمل بأن يفهم الجمهور الفلسطيني أن العملية السياسية هي التي قادت إلى الانسحاب الإسرائيلي لا المقاومة. ولكن شارون يشدد، عبر مستشاريه، على أن الدافع للانسحاب هو منع تطور العملية السياسية. كما أن من المهم استذكار أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي وقع اتفاق أوسلو، اسحق رابين، والذي دفع حياته ثمناً لهذا التوقيع كان يرفض التخلي حتى عن نيتساريم. وكان يأمل بقاء الكتلة الاستيطانية في غوش قطيف إلى الأبد.
ثمة أكثر من معنى لاضطرار أريئيل شارون لعرض خطة الفصل التي، ورغم كل الجهود لإظهارها كانتصار على الذات حيناً وكرغبة في التعبير عن السلام حيناً آخر، هي في الواقع هروب من الإقرار بالفشل. لقد حاول شارون الإقرار بالفشل بشكل غير مباشر عندما تحدث عن أنه لو أفلحت إسرائيل في توطين مليون يهودي في الضفة والقطاع وليس ربع مليون لما كانت هناك حاجة لخطة الفصل.
لقد أراد شارون وإسرائيل على مر السنين خلق واقع جديد وفرض أمر واقع. وقد فشل بالمعنى الإستراتيجي للكلمة. وخطة الفصل في جوهرها استكمال لسياسة فرض الأمر الواقع. ومن المؤكد أن يفشل. إذ يبدو أن الواقع الطبيعي، ليس الديمغرافي وحسب وإنما روح المقاومة أيضا، كفيلة بالتغلب على كل الوقائع المفتعلة حتى لو كانت هذه الوقائع نوم السياسة العربية أثناء الحراسة.
شارون هو شارون
يكاد رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون لا يصدّق ناظريه وسمعه: فالعالم يثني على شجاعته وعلى حزمه في تنفيذ قراره بإخلاء مستوطنات قطاع غزة. وهو من كل العالم لا يولي اهتماماً إلا لمن يعتبرهم الأولى بالاهتمام: الأميركيون والأوروبيون. فهو لم يدخر وسعاً للإشارة حتى في زيارته الرسمية لفرنسا بأن العرب، طبعا جميع العرب، ليسوا أهلاً للثقة. فهذا ما رضعه من ثدي والدته التي ما كانت تنام إلا والمسدس تحت وسادتها بانتظار العربي الذي سوف يهاجمها.
والمضحك المبكي في ثناء العالم "الغربي طبعاً" أنه ينسى لشارون كل ما كانه، من أوامر قتل الأسرى في العدوان الثلاثي على مصر (حينها بتحريض ومشاركة فرنسية) أو مجزرة قبية أو حتى دوره في مجزرة صبرا وشاتيلا. ولا يتذكّر سوى إصرار شارون على تنفيذ خطة الفصل التي يعلن صبح مساء أنها ما كانت لتتم لو أن "الشعب اليهودي" أفلح في توطين مليون مستوطن في الضفة والقطاع وليس ربع مليون كما هو الواقع. ليس هناك من يشير إلى أن شارون يؤمن أن خطة الفصل في غزة هي من قبيل "خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام" لتعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية؛ لذلك لم يتأخر شارون في دعوة يهود فرنسا إلى الهجرة بجموعهم إلى إسرائيل لتحقيق مشروعه لجلب مليون مهاجر. وربما أنه أراد القول بأن الفرصة في الضفة الغربية لا زالت سانحة لتحقيق الحلم الصهيوني بتهويدها. غير أن ذلك لا يغيّر من واقع الثناء الغربي وبعض العربي على شارون. فالمهم في نظر هؤلاء أن تتخذ الخطوة الأولى وأن تتشكّل "سابقة" إخلاء مستوطنات في أرض فلسطين الانتدابية.
والواقع أن سابقة إخلاء المستوطنات كانت متوفرة قبل أن يأتي شارون وحتى قبل معاهدات السلام مع إسرائيل. ففي الذهن "كفار داروم" في قطاع غزة وغوش عتسيون في الضفة الغربية بمستوطناته المتعددة التي تمّ إخلاؤها في حرب عام 1948.
ومن البديهي أن الحديث عن سوابق يتيح الحديث عن أساليب عمل مختلفة عسكرية وسياسية. وقد كان هناك إسرائيليون يطمحون إلى الإقرار بالواقع وإقامة نوع من السلام مع العرب والفلسطينيين حتى لو كان سلاما مؤقتا. غير أن شارون لا يخفي حقيقة إيمانه بأنه لا يتطلع إلى السلام مع العرب. بل إن خطة الفصل ذاتها لم تنبع من رغبته في السلام بقدر ما كانت تنبع من رغبة في خوض المعركة ضد العرب من موقع عسكري وتفاوضي أفضل.
وفي حديثه أمام الشخصيات اليهودية التي اجتمعت للترحيب به في باريس قال، وأمام الكاميرات، إنه لا يمكن الثقة بالعرب أي عرب. وعرض كمثال على ذلك المملكة الأردنية الهاشمية التي قال عنها إنها تقيم علاقات تعاون استراتيجي مع إسرائيل منذ ما قبل معاهدة السلام. وقال للحاضرين إذهبوا إلى أي مدرسة في هذه المملكة الصديقة وابحثوا في الكتب فإنكم لن تجدوا فيها أي خريطة تشير إلى وجود إسرائيل.
وباختصار شديد، لا يدّعي شارون أنه يبحث عن السلام مع العرب وينفي عن نفسه فكرة أنه تغيّر، ويؤكد أنه يحقق الآن ما كان يحلم بتحقيقه طوال الوقت وأنه يعدل خطته تحت النيران.
ولأنه كذلك يتباهى طوال الوقت بأنه جرّ العالم من أنفه لتأييد خطة الفصل التي ظل حتى آخر لحظة يصرّ على أنها من طرف واحد وليست مرتبطة بخريطة الطريق. ومن غير المستبعد أن يستغلّ الظروف الناجمة عن خطة الفصل بعد تنفيذها لإجبار العالم على تقبّل إدارته للمعركة في الضفة الغربية بعد تحييد قطاع غزة.
وثمة بين المتابعين من لا يستبعد أن يخلق شارون عبر خطة الفصل ما سبق لمناحيم بيغن أن خلقه في خطوة السلام مع مصر: تحييد جبهة وشنّ حرب على جبهة أخرى. فقد أتاحت معاهدة كامب ديفيد لإسرائيل عموماً ولوزير الدفاع لاحقاً فيها (أريئيل شارون) وضع أسس الخطة الإستراتيجية الكبرى لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. وكان ذلك عبر الغزو الإسرائيلي للبنان والذي أُريد منه خلق صيرورة تقود إلى إقامة أنظمة حكم وسقوط أخرى في إطار تغيير المناخ المحيط بإسرائيل.
وربما أن شارون الذي فشل في تحقيق خطته الكبرى آنذاك يأمل اليوم من خلال "عملية جراحية باطنية" تعديل الوضع الداخلي الإسرائيلي بما يتكيّف مع الخطة الكبرى التي وضعتها الولايات المتحدة للمنطقة هذه المرّة. ومن الجائز أن زيارة شارون للعاصمة الفرنسية جسّدت أكثر من أي شيء آخر آماله بقرب تحقيق ذلك. فالحكومة التي كانت طوال عقود قريبة من الموضوع الفلسطيني ومتفهّمة له قررت التقارب مع إسرائيل بصرف النظر عن الخلاف. ووجدت لنفسها قواعد أخرى لإقامة علاقات مميزة مع إسرائيل على أمل أن تكون في الجهة الرابحة. ويؤمن شارون أن الحفاوة التي حظي بها هناك بعد طول قطيعة هي تعبير عن الوزن الكبير الذي توليه فرنسا للدور الإسرائيلي المقبل في المنطقة. وإذا كان هذا هو الحال في فرنسا فلا ينبغي الاستغراب: لقد بات شارون شخصية مرحّباً بها في دول عربية حتى تلك التي تقع خارج دائرة معاهدات السلام.