المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كل شيء يجري في إسرائيل في غير الاتجاه الذي يتمناه كثير من العرب. فعملية الإطاحة بأريئيل شارون الجارية الآن في الليكود لا تنبع من الاعتراض على خطه المتطرف وإنما من الرغبة في معاقبته لأنه لم يكن متطرفاً بما فيه الكفاية. ولأن هذه هي الحال فإن الجميع من حوله يساراً ويميناً يتحدون من أجل إبقائه معزولاً. وهذا هو المعنى الحقيقي لما يجري الآن في الحلبة الإسرائيلية بعد تنفيذ خطة الفصل.

ففي الليكود يجتمع بنيامين نتنياهو وزعيم المتمردين عوزي لانداو على وجوب وضع خلافاتهما جانباً وتوحيد الجهد من أجل الإطاحة بشارون. وفي نظرهما فإن الإطاحة بزعيم الليكود الحالي هي مهمة قومية من الدرجة الأولى، إن لم يكن لشيء فعلى الأقل لتحذير الآخرين من تكرار خطوة تفكيك مستوطنات. وإن لم يكن ذلك مقنعاً بشكل تام فعلى الأقل تحذير الآخرين من الإقدام على خطوات من طرف واحد ومن دون مقابل.

ومن الجائز أن توحيد القوى بين نتنياهو ولانداو غطى إلى حد ما على توحيد آخر للقوى بين جهات اجتماعية في الليكود وبين نتنياهو. وعلى سبيل المثال فإن شخصاً مثل عضو الكنيست دافيد ليفي كان عملياً من خصوم نتنياهو السياسيين والطبقيين. إذ اعترض لأسباب اجتماعية على سياسات نتنياهو الاقتصادية ولكنه وجد نفسه الآن في تحالف معه ضد أريئيل شارون، ربما لأسباب شخصية.

وفي الإطار اليميني الأوسع هناك محاولات لإعادة فك وتركيب القوى من أجل كسب المزيد من التأييد في البرلمان. وتستند هذه المحاولات ليس فقط إلى استطلاعات رأي حول المواقف وإنما كذلك إلى دراسات للواقع تظهر انقسام اليمين إلى متدينين وقوميين علمانيين. وبغية التكيف مع هذا الواقع، ثمة من يحاول توحيد المتدينين الصهاينة في تيار واحد حتى لو بقي التيار مظلة لأحزاب قائمة. وهذا ما تحاول حركتا الاتحاد القومي والمفدال فعله. ويبقى خارج هذه اللعبة في هذا الاتجاه من اليمين حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يمثل خليطاً من اليمين العلماني والصهاينة الجدد من المهاجرين الروس.

وإلى جانب هؤلاء تجري محاولة لتوحيد قوة "شاس"، وهي حركة الحريديم الشرقية مع جناح "ديغل هتوراه" الحريدي الغربي من تجمع "يهدوت هتوراه". ويبقى خارج هذا التوحيد الديني المتشدد أنصار "أغودات يسرائيل" التاريخية التي يعتقد أنها ستفلح في اجتياز نسبة الحسم. ومن المعروف أن لشاس نزعات انتقامية ضد أريئيل شارون الذي اتخذ العديد من المواقف المعادية عموماً للمتدينين وخصوصاً لهذه الحركة الشرقية.

وأمام هذه الحال، يبدو أن ميل شارون لتشكيل حزب جديد يقع بشكل ما على يسار الليكود يصطدم بحقيقة أنه خسر اليمين عملياً. ومن الصعب تخيل أنه، على الأقل في المعركة الانتخابية، سوف يكسب تأييد اليسار. لذلك يجري الحديث عن محاولة كسب الوسط. غير أن تعبير الوسط في إسرائيل تعبير عمومي جداً. فحزبا الليكود والعمل في الحلبة السياسية الإسرائيلية هما حزبا وسط. أحدهما، الليكود، يمين وسط. والثاني العمل، يسار وسط. كما أن حركة "شينوي" تشكلت على أساس أنها حزب الوسط بين الحزبين الكبيرين. وليس صدفة أن الصراع دار في الغالب على الوسط لأنه وفق القناعات الإسرائيلية يشكل سبعين في المائة من الجمهور الإسرائيلي.

غير أن التصنيفات السياسية في إسرائيل، وبخلاف المعهود في العالم، لا تقوم، في الغالب، على أسس اجتماعية اقتصادية وإنما على أساس الموقف من قضايا الحرب والسلام. وبكلمات أخرى، يقوم التصنيف في إسرائيل على أسس سياسية تتسم في هذه الأيام بدرجات متفاوتة من الغموض وهي عرضة لتبدلات سريعة.

فأريئيل شارون، الذي يعتبر "نبي الاستيطان"، أقدم من خلال خطة الفصل على تفكيك مستوطنات. كما أنه، وهو الداعي دوماً للمزيد من احتلال الأرض، قرر الانسحاب من جزء منها. وعملياً ألغى شارون بذلك الفارق بينه وبين حزب العمل. وربما ان هذا ما دعا نتنياهو إلى شن حملته ضد شارون على أساس أن الأخير ينفذ سياسة شمعون بيريس.

وبالعموم تصعب رؤية إقرار شارون بهزيمته أمام نتنياهو. ولذلك يجري الحديث عن احتمالين لا ثالث لهما: إما فوز شارون على نتنياهو وبالتالي البقاء في الليكود، وهو احتمال ضعيف. وإما الانشقاق عن الليكود قبل المنافسة على الزعامة أو بعدها وتشكيل حزب جديد. وإذا كانت التطورات في حزب العمل تحول حتى الآن دون تشكيل ما يسمى بحزب "الطوفان الكبير"، فإن من شبه المؤكد أن شارون سيحاول الاتفاق مع شينوي وزعيمها تومي لبيد.

وهناك شارات كثيرة على تدهور وضع شينوي ورغبة زعيمها في الالتقاء مع شارون في الحزب الجديد. وإذا كان لذلك من معنى فإن شينوي يمكن أن تنشق قبل الانتخابات حيث يذهب قسم من يسارييها إلى الاتحاد ربما مع حزب العمل، ويذهب الآخرون إلى حزب شارون الجديد.

أما حزب العمل فقد شهد مفاجأة كبرى تمثلت في إعلان إيهود باراك دعوته إلى إلغاء التنافس والالتفاف حول زعامة شمعون بيريس. ومن شبه المؤكد أن هذا الإعلان عنى أولا وقبل كل شيء أن هذا الحزب لم يعد مطروحاً لقيادة إسرائيل، ولذلك من الأفضل، والصراع محتدم في الليكود، الظهور بمظهر توحيدي. ويؤمن باراك بأن هذا الخيار قد يجلب مزيداً من التأييد لحزب العمل أو على الأقل يقلص عداء الجمهور الإسرائيلي له.

مكانة شارون في "الليكود"

ليس من حديث اليوم في إسرائيل أكثر جاذبية من الحديث عن صراع رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون على مكانته في الليكود. وليس هناك لغز أكثر تعقيداً يبحث كثيرون عن حل له أكثر من لغز مستقبل شارون وهل هو في الليكود أم خارجه. فخروج بنيامين نتنياهو عن طاعة شارون شجع كثيرين من أمثاله في الليكود على الانضمام إليه، خاصة أن قاعدة هذا الحزب تغلي ضد زعيمها. وإذا كان شارون من دون تنفيذ خطة الفصل قد بلغ الحضيض في مستوى شعبيته في الليكود، فإن أكثر كلمة صارت تقال عن احتمال بقائه زعيماً هي أنه بانتظار معجزة.

ومن الجائز أن مكانة شارون المضعضعة في الليكود تلقي بظلالها على كل الساحة السياسية الإسرائيلية. فالخشية من خضوع الليكود لسيطرة المتطرفين في تحالف محتمل بين نتنياهو وعوزي لانداو، والإدراك بأن الشارع يميل عموماً للتصويت لليمين، تدفع عدداً من قوى الوسط واليسار إلى التريث في الانضمام إلى مساعي تقديم موعد الانتخابات. فالقصة في نظر كثيرين لم تعد مستقبل أريئيل شارون وإنما مستقبل إسرائيل برمتها. ولذلك يعزي كثيرون أنفسهم بأن الخشية من مستقبل ما بعد شارون قد يدفع الإسرائيليين إلى التمسك به.

فالصدمة التي أحدثها تنفيذ تفكيك المستوطنات دفع الجميع إلى الحديث عن أن مجابهة الشرخ أو تلمس الأمل يقتضي الدخول في معركة انتخابية لحسم عدد من قضايا الخلاف. ورأى العديد من المعلقين الإسرائيليين أن خطة الفصل في حقيقتها هي مجرد مقدمة لانتخابات عامة مبكرة تقود واقعياً إلى تغيير أسلوب التعامل مع قضايا الخلاف الداخلي.

وبحسب كل الاستطلاعات فإن الجمهور الإسرائيلي بعد تنفيذ خطة الفصل يريد من يقود إلى إحداث مثل هذا التغيير. ومن الواضح أن استمرار الحال من المحال، حيث أن الحملة في الليكود ضد شارون بلغت عنان السماء، ولذلك فإن التغيير شبه مؤكد. والسؤال هو كيف يحدث التغيير، وليس إن كان سيحدث أم لا. وحسب كل المعطيات المتوافرة فإن الاستطلاعات تفيد بتعزيز مكانة اليمين عموماً حيث لا أمل البتة في انقلاب يساري أو حتى هيمنة الوسط على الحلبة.

وتشير وقائع الليكود إلى أن شارون قد يقدم على خطوة انشقاقية تجعله يبدو كأنه طرد معارضيه من الحزب حتى لو تم النظر إلى حزبه الجديد على أساس أنه "ليكود ب".

وقد أظهرت استطلاعات عديدة نشرت مؤخراً أن تشكيل شارون لحزب يميني جديد يمكن أن يجعله والليكود الأصلي يحصلان على حوالي نصف مقاعد البرلمان. ويعتقد المقربون لشارون أن هذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحاً بين الاحتمالات الكثيرة المتوقعة من شارون. ومعروف أن بين هذه الاحتمالات اعتزال الحياة السياسية أو القبول بالخسارة في الليكود أو تشكيل حزب "الطوفان الصغير" من أنصاره في الليكود والشارع، أو تشكيل حزب "الطوفان الكبير" من تيارات الوسط واليمين والعمال.

وكما يبدو فإن سيناريو "الليكود ب" أو "الطوفان الصغير" ينقل حزب العمل وفق الاستطلاعات ليغدو في الموقع الثالث بعد حزبي الليكود الشاروني والنتنياهوي. وهذا يعني عملياً تغيير وجه الحلبة السياسية الإسرائيلية بشكل جذري، الأمر الذي لا يؤمن بحدوثه الكثير من المعلقين. ويصر هؤلاء المعلقون على أن الفارق بين نتائج الاستطلاعات ونتائج الانتخابات سوف يلعب دوراً حاسماً في دفع شارون للتردد حتى في اللجوء إلى هذا الخيار.

وحتى الآن يردد شارون أنه في وارد خوض المعركة الفاصلة ضد نتنياهو في الليكود. ولذلك يعد نفسه لحملة تشهيرية قاسية ضد نتنياهو. وقد نقلت "يديعوت أحرونوت" عنه قوله لمقربيه إن "نتنياهو، هستيري ابن هستيري". وذهبت "يديعوت" إلى حد القول بأن رغبة شارون في الصدام مع نتنياهو دفعته للقول باستعداده "لشق الليكود، والتحالف مع شمعون بيريس، في سبيل وقف نتنياهو". ويصف شارون دوماً خصمه الليكودي بـ"الرجل الخطير" و"الغريب الأطوار".

وبالعموم فإن خطة الفصل خلقت وضعاً جديداً يتنافى بعض الشيء مع ما كان يتردد في البداية.

فقد جرت الإشارة في الماضي إلى أن شارون سوف ينحرف حال الانتهاء من تنفيذ خطة الفصل إلى اليمين لضمان بقائه في السلطة. ورغم إقدامه على عدد من الخطوات التي تشير إلى صحة هذا التقدير مثل تكثيف الاستيطان في الضفة وإقرار مسار الجدار حول القدس، فإنه صار لا يجد لنفسه متسعاً في اليمين. وربما أن هذا التقدير المستجد هو ما دفع بن كسبيت في "معاريف" إلى الحديث عن فرصة شارون في تبني قضايا أغلبية الجمهور الإسرائيلي. وأشار إلى أن ذلك يعني تبني قضية تغيير أسلوب الحكم في إسرائيل من خلال انتهاج الأسلوب الرئاسي وتغيير أسلوب الانتخابات بتبني نظام الدوائر وما شابه.

وإذا كان هذا التقدير يعني شيئاً فهو أن شارون سيعمد من أجل البقاء إلى إطلاق وعود للجمهور الإسرائيلي بتغيير شامل لا ينطوي بالضرورة على مواقف سياسية. فشارون يعرف أن مؤيديه في الشارع هم في الغالب من الوسط الميال لليمين، لذلك لن يقبلوا منه الانحراف يميناً بشكل أشد.

ولكن كل هذه السيناريوهات عرضة للتغيير إن أفلح عدد من قادة الليكود في خلق لغة تفاهم جديدة بين شارون ونتنياهو. ورغم أن ذلك يبدو مستحيلاً الآن، فإن هناك من يقول انه ليس في السياسة الإسرائيلية كلمة مستحيل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات