المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 982

إلى صديقي الراحل الشاعر محمد حمزة غنايم في ذكراه الأولى التي تصادف يوم ميلادي الثاني والأربعين..

قبل حوالي العام وفي الربيع من شهر مايو/ أيار تركنا عندليب الشعر والترجمة ومضى، تركنا خلفه على خط التماس نمارس عشقنا الغريب ونتحدى الغرباء فوق أرضنا وعلى تربة وطننا.. سافر الشاعر الغرائبي في رحلة لا نهاية لها ولا عودة منها.. كانت رحلة الصعود إلى السماء نزولا في الأرض واختفاءً تحت التراب.. من هناك من الأرض ومن التربة الطيبة عاد الشاعر الغرائبي محمد حمزة غنايم حاملا غرائبيته وما سطره بنون النضال الثقافي على خطوط التماس الفلسطينية – الإسرائيلية... عاد محمد ولم تعد ذاكرتنا تتسع لغير ذكراه الطيبة...

 

مات محمد كما تموت الملائكة في لحظة سفر، غاب عنا تاركا لنا مفاتيح الكتابة والترجمة وأبواب الشعر مفتوحة كقلوب المحبين على الريح ونسائم العشق وغزل البنات، وعلى ملح الشعر الذي لا تفسده مفاسد الفاسدين، وعلى الحياة التي انشد لها وأحبها لكنها خذلته باسم مرض عضال آلهة العذاب والموت.. ترك لنا بابه مفتوحا على الحب والانتماء للأزرق الغامق ولبياض الياسمين في اشتعال المسألة... ترك لنا حبه وكلماته المرتبة في صفوف مبعثرة، وترك لنا التحدي ومقاومة الذين مرغوا ثقافة الحب بسواد الحقد وضغينة التعالي حين يشعر المحتل الدخيل بنشوته منتصرا على العراة والأبرياء في بساتين الحمضيات والبرتقال وفي حقول اللوز وكروم الزيتون والتين والعنب.

 

كان محمد مسالما كوردة بيضاء، كعصفور يطير بجناحين ربانيين، مسالما كزهرة تعشق الانتماء لمرج بن عامر الممتد إلى سهل البقاع والجولان وحوران وغوطة دمشق وبساتين بغداد والجنائن المعلقة في عربستان والسهول الممتدة على الساحل السوري حتى لواء الاسكندرونة المغيب باسم التراسيم الحدودية المصطنعة.. وصولا الى سبتة ومليلة وما تبقى من تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا في الأندلس لؤلؤة الإسلام والعرب.

كان محمد نصيرا لموسى بن نصير وللذين شيدوا صروح العلم والأدب والثقافة والحضارة والنور في أندلسٍ لا تموت. كان محبا للشعر النابض بالحب وبالهيام بغرناطة وقرطبة وطليطلة واشبيلية .. أتذكر يا صديقي أندلس الثقافة والإبداع في كل المجالات ثم نهايات أجدادنا المفجعة والرهيبة، وما كتب الشعراء فيها وعنها .. لعلك تذكر أو لا تذكر قصيدة الشاعر الاشبيلي "أبو البقاء الرندي" التي ألقاها بعيد سقوط إشبيلية في يد ملك كاستيل "فردناند الثالث"، وكان ذلك في ديسمبر عام 1248:

لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان

وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهُمُ أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم واليومَ هم في بلاد الضدِّ عبدانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت كأنما ياقوتٌ ومرجانُ

 

كان محمد وكانت الاندلس باقته التي أحب مثل باقة التي نحب.. وكان محمد حمزة غنايم عربياً وفلسطينياً وأندلسياً بالثقافة والأدب والشعر والحب والعلم والإبداع... كان فلسطيني الوجع والصداع والرغبة باعتلاء عرش القافية المخطوطة بأحمر الفدائي القاني كل فجر وكل مساء، ببياض عيني كمال ناصر وسواد شعر غسان كنفاني وبراعة يراع ناجي العلي وشجاعة عبد الرحيم محمود وانتماء راشد حسين وتوفيق زياد... كان يحمل آلام شعبه أينما ذهب وحيثما حطت به رحال الكلمات الطائرة كأنها فراشات الربيع الفلسطيني الذي لم يذبل في نكبة مايو/ أيار، حيث انهار بلد وظهر كيان لا زال يعيش على الأنابيب الصناعية وإمدادات بلاد العم سام .

أذكرك يا محمد كلما تذكرت رسالتك الأولى، ودعوتك لي بالكتابة لموقع "المشهد الإسرائيلي"، هذا الموقع الفلسطيني الانتماء والغرائبي التسمية.. أقرأ كلماتك التي أرسلتها لي في بداية مشروعك المشهدي الذي خصصته لخدمة قضية فلسطين وشعبها الصامد على خط التماس الأول وفي قلب المواجهة الصعبة. وأظل أكن لك جزيل الشكر على تعريفي بأدب الأعداء وإقحامي من بوابتك في عالمهم العجيب الغريب... كما أدين لك بما زودتني من الترجمات العربية من العبرية، تلك التي أرسلتها لي مرة واحدة ثم اختطفك القدر قبل أن تواصل الإرسال.

 

اقرأ هذه الساعات فاتحة الوفاء والحب على روحك المتألقة ونبل الشهامة فيك وبساطة الفلسطيني الطيب، يا صديقي، يا أبا الطيب.. فقد كنت تخدم فلسطينك بكل ما ملكت من إبداع الثقافي الغرائبي. وكان مشهدك يُعَرٍفنا أكثر بالمشاهد عنهم وبالشواهد على الذين ما فتئوا يجلسون فوق صدر جليلك/ جليلنا، وعلى جسد باقة بلدتك حيث تشرق الشمس فيها من غربها وتغيب في شرقها رغم انف العلم والفلك والحياة والاحتلال...

 

لم يكن موتك أيها الغرائبي، يا محمد، نهاية للتاريخ المشهدي، فأنت من المتألقين يا محمد، والمتألق دوما باقٍ في كتاباته الحية التي لا تموت، كتاباته التي عبرت عن موت الغرباء في غربتهم بيننا، وعن انعزالهم في مروجنا الفسيحة وأراضينا الواسعة الامتداد والكثيفة الخضار.

 

كان محمدا للأرض الطيبة بمثابة ابنها البار، وللوطن شاعره الذي يصل الليل بالنهار.. نام الشاعر ولم تنم قصائده الساهرة على حب الوطن وراحة الأرض وتألق الشعب في ليل الحجر.

نفتقدك يا زميل البحور التي أشعرتنا بالأبيات كلها ولم توصلنا إلى باب بيتنا .. يا رفيق الكلمات التي حملتنا من منافي الغربة والضياع والشتات إلى المشهد الفلسطيني الذي يصف الاحتلال كما يجب أن يكون وصفه في زمن لا عدالة فيه ولا أمانة وأمان...

 

نفتقدك في زمن أطفال فلسطين التي قالت من بعدي على العروبة السلام ومن بعدي على السلام السلام...

 

نفتقدك يا أبا الطيب ونحن نقرأ بكائيتك في ديوانك نون وما يسطرون :

 

"صار لك سنين أيها النهر

وما خفقت

صارت لك العواصم القريبة البعيدة

عادة النسيان.

صار لك زمان وما حكيت

أم قد تسرّبَ القولُ إلى خبايا الروح

واسترحت

 

عادة النسيان

أن يستيقظ الشّعر على ثديين

هذا ثدينا جفّ

وهذا ثدينا الآخر

قام يمنح الذين سقطوا ذممهم.

 

صار لك زمان أيها الحزن

وما رحلت".

 

صار لك سنة في الغياب وكأنك لم ترتحل في تلك السنة كنجمة المساء البعيدة، فقد ظلت نجمتك على حالها يا محمد، قريبة منا رغم بعدها عنا.. سنة مضت وما رحلت لأنك مثل الحب تلازمنا في القلب، ومثل الشمس تتوهج احمرارا، ومثل الشعلة تضيء دروب الذين لم يضيعوا دروبهم. لم تكن من الذين ينسون لتنسانا حينما فاجأك القدر، فقد عرفناك أباً للذاكرة، تلك التي تتعامل مع النسيان كأنه عابر سبيل لا يحط في مكان يتبع لها...

 

صار لك زمان يا حبيب القلب، نسيت أن تصلي للرب في السماء، وللحب على الأرض الخضراء.. نسيت يا محمد وفاجأك الموت الذي لم يرهبك وأنت على بياض سريرك، في سرّك تعد الثواني المتعبة والدقائق المزعجة.. لم تنس يا محمد أنك تموت ببطء وان العضال يقف بينك وبين أحلامك الكبيرة، كنت تقول لي لم يعد يا صاحبي من العمر أكثر مما مضى حتى ادع السجائر وابتعد عن الكمبيوتر واترك المشهد والسهر وأخبار ثورة الحجر.. وتابعت دربك ومشروعك يا أبا الطيب وواصلت سهرك وشهادتك على عصر الظلام، ثم نمت نوم عصافير الجنان المعلقة، لم تمسك بيدك روحك الفالتة من روحها، ولا حبك الصاعد نحو العلا، تركتهما يفعلان ما يريدان لأنك لم تكن ترضى للصقر كما قال الشاعر المصري الراحل أمل دُنْقُل ان يصبح صقرا مستباحا...

 

سلمت لك في سفري وأنا على الطريق إلى العودة المعلقة على الوجوه التي لم ترك سوى في الصورة ولم تعرفك سوى بالشعر والترجمة .. ولم أنس تذكيرهم بقولك الغرائبي :

 

ادخل في العالم سرا

أتشهى أن اعبر لحظةَ يفجأني موتي

مطلوبٌ مني أن انزع رأسي

وأشكّ اللعبة...

وأنا أتلاطم في بحر العرق البارد

علّي أعثر، أو أمسك في دمه صوتي

 

(أوسلو)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات