المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يطيب للمحللين، الذين تأخذ عقولهم أو تستهويهم الأيديولوجيات والشعارات والمطلقات، تفسير تفوق حال إسرائيل، على حال الواقع العربي، بتفوقها في المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وبتمتعها بعلاقات إستراتيجية استثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية. لكن هؤلاء يغفلون في تحليلهم هذا العوامل الذاتية، التي تضفي على إسرائيل قوة مضافة، تجعلها قادرة على تجيير عناصر تفوقها، وتحويلها إلى عوامل قوة.

واقع الحال أن إسرائيل مجرد دولة محدودة بكل المقاييس، فهي صغيرة بمساحتها، وقليلة السكان، وتفتقر للموارد الطبيعية، كما أنها دولة معزولة عن محيطها، بل إنها تواجه بعداء كامل منه، وفوق كل ذلك فهذه الدولة تعج بشتى التناقضات، بين العلمانيين والمتدينين، والشرقيين والغربيين، واليساريين واليمينيين، والعرب واليهود، ثم إنها دولة تسيطر على شعب آخر بالقوة، في حين أن هذا الشعب يواجهها بالمقاومة.

لكن مع كل ذلك من المهم الانتباه جيدا إلى أن إسرائيل تتمتع بميزة السيطرة على أزماتها ومشكلاتها (بحكم طريقة إدارتها لأوضاعها)، بل إنها تستطيع أن توجهها نحو الخارج، وبما يخدم مصالحها.

وعلى الرغم من كل ما تقدم، أي بالرغم من تحدياتها الداخلية والخارجية، وضمن ذلك تداعيات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فإن ما يلفت الانتباه أن هذه الدولة، التي نشأت، فقط، منذ أكثر من نصف قرن، ومع بداية تشكل الكيانات العربية، تبدو أكبر من حجمها وأكثر قوة من إمكاناتها وأفضل استقرارا من غيرها، خصوصا بالقياس لحال الكيانات العربية السائدة!

وما ينبغي الاعتراف به هنا هو أن إسرائيل، على الأغلب، مدينة بهذا التميز وبالقدرة على الاستقرار والتطور، إلى طريقة إدارتها لأوضاعها ولمجتمعها، وخصوصا لنظامها السياسي الديمقراطي (بالنسبة لمواطنيها اليهود)،الذي يضفي عليها قوة مضافة يجعلها قادرة على تحويل عناصر ضعفها إلى قوة؛ على عكس الواقع العربي الذي يعيد إنتاج علاقات الضعف والتهميش. وللمفارقة فإن التميز الإسرائيلي في هذا المجال، هو ما تفتقده حال الكيانات العربية، وهو نقطة ضعفها، بالقياس للإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها: المساحة ـ الكثرة العددية ـ الثروة النفطية، عوامل تكوين الأمة؛ وذلك بسبب تخلف النظام السياسي والطريقة السلطوية في إدارة الدولة والمجتمع! وهذا في الحقيقة ما يفسر أن السياسة العربية تقصر عن مواجهة التحديات التي تمثلها إسرائيل سواء كانت في حال أزمة أم من دونها.

طبعا لا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن الأوضاع في إسرائيل على ما يرام، فمثلما أنه ثمة شطط وضرر في المبالغة بما يجري، فإنه لا يجوز الاستهانة به، بمعنى أن المطلوب التعامل مع إسرائيل بشكل موضوعي (بغض النظر عن رأينا بها) بوصفها ظاهرة عادية، تعج بالتناقضات والتحولات. وبهذا المعنى تبدو إسرائيل، كغيرها من الظواهر الاجتماعية والسياسية، تعاني من أزمات ومن تحديات ومن نوع من عدم النضج أو الاستقرار، بسبب من طبيعة تكوينها، والتناقضات الكامنة فيها؛ وضمن ذلك التناقض بين كونها دولة علمانية أو يهودية، وبين كونها دولة ديمقراطية وعنصرية (إزاء العرب)، وأيضا بسبب طابعها الاستعماري وسيطرتها بالقوة على شعب آخر.

أما العوامل التي تمكن إسرائيل من تجاوز أزماتها، بل وتجييرها لمصلحتها، فيمكن تبين أهمها في الجوانب التالية:

1 ـ طبيعة نظامها الديمقراطي القائم على نظام النسبية والدائرة الواحدة، والتعددية والتنوع، والاحتكام لصناديق الاقتراع لحل القضايا الخلافية. ولا شك أن هذا الشكل من الديمقراطية يتيح لكل التيارات والجماعات والأحزاب السياسية والإثنية التعبير عن ذاتها، ويكفل لها حقها في الوصول إلى مقاعد الكنيست الإسرائيلي. وكما بات معروفا فقد أتاح هذا النظام للأحزاب الصغيرة، وضمنها الأحزاب المتطرفة، ابتزاز الأحزاب الكبيرة وفرض أجندتها عليها.

2ـ التوافق على توفر نوع من الإجماع بشأن التقرير بمصير القضايا الإستراتيجية والمصيرية، مثلا، يهودية الدولة، ومكانة الجيش في الدولة، ومركزية قضايا الأمن والهجرة والاستيطان والتقديمات الاجتماعية والعلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة؛ وهي كلها قضايا تمس هوية الدولة وحماية حدودها وأمنها ودورها الوظيفي الإقليمي.

على ذلك فمن البديهي أن قضية مصيرية، بحجم قضية التسوية مع الفلسطينيين، بأبعادها التاريخية والرمزية، لا يمكن حسمها في إسرائيل على أساس من المعادلة الديمقراطية التي تتعلق بموازين القوى في الكنيست، أو عبر قانون خضوع الأقلية للأكثرية، كونها تحتاج إلى نوع من التوافق يضم معظم التيارات السياسية الإسرائيلية. وكما هو معروف لم يكن بالمستطاع تحقيق مثل هذا التوافق، طوال المرحلة الماضية، لا في ظل حكومة حزب العمل ولا في ظل حكومة الليكود. ومثلا فهذا الحزب رغم معارضته للتسوية واعتباره الضفة والقطاع جزءا من أرض إسرائيل الكاملة (أرض الميعاد)، إلا أنه لم يستطع ترجمة ذلك بضم هذه الأراضي لإسرائيل، رغم وجوده في الحكم منذ العام 1977، ورغم تشكيله عدة مرات حكومة يمينية صرفة. أما اليسار الإسرائيلي فقد فضل المماطلة في عملية التسوية، بسبب إدراكه للصعوبات والتعقيدات المتعلقة بهذه التسوية، والتي تطال تحديد حدود إسرائيل الخارجية والداخلية، أي حدودها الجغرافية والسياسية والبشرية. وهذا ما يفسر أن حزب العمل فضل السير بطريق التسوية المرحلية، وأنه أجل الكثير من الأسئلة المتعلقة بهذه التسوية.

معنى ذلك أن الشعور الجمعي الإسرائيلي متوافق على ضرورة تخفيف وتجاوز التناقضات التي يمكن أن تشكل خطراً على الوجود الإسرائيلي؛ أي أن الإسرائيليين يمينيين أو يساريين، متطرفين أم معتدلين، لن يغامروا بتعميق التناقضات فيما بينهم على قضية تتعلّق بالعرب، أو «الأغيار»، ولن يغلّبوا أنفسهم في هذا الشأن، خاصة وأن هذا الموقف لا يحملهم الكثير من التكلفة أو الأعباء المادية والمعنوية، أو أنه يحملهم تكلفة في حدود معينة هم قادرون على امتصاصها.

3 ـ التوحد إزاء العدو الخارجي، وبذلك فإن التعنت الإسرائيلي يستمد مشروعيته من الشعور الجمعي في هذه الدولة العبرية باعتبارها دولة استيطانية ـ إحلالية ـ عنصرية، حيث أنّ هذه المجتمعات الوظيفية المصطنعة هي مجتمعات أيديولوجية بامتياز. وهي تقوم على الأغلب على أساس أيديولوجيا عنصرية ـ غيبية برغم الغلافات العلمانية التي تتغطّى بها، والتي تعبّر عن التناقض الذي يحيط بها من الجانب الآخر. وفي مثل هذه المجتمعات فإن الإحساس بالخطر الوجودي الخارجي هو إحساس لا نهاية له، لأنه متضمن في الوعي الباطني لمجموع المستوطنين في محاولتهم نفي الآخر (المجتمع الأصلي)، وفي تطلبهم لنوع من الأمن المطلق، الذي يستحيل بلوغه، إلا عبر نفي أو إلغاء أو امتصاص المجتمع الأصلي، الذي هو مستحيل في الحالة الإسرائيلية ـ الفلسطينية. فإسرائيل ليست أميركا، والفلسطينيون ليسوا الهنود الحمر، والمقارنة من ناحية الحدود الجغرافية والاقتصادية والبشرية والثقافية بين المشروعين ليست في صالح إسرائيل أبداً.

ويتبيّن من تفحّص الظاهرة الإسرائيلية أن أعلى أشكال التوحد، وتغييب التناقضات والخلافات الداخلية، كانت تنشأ في ظل ظروف الصراعات الخارجية، والعكس صحيح إذ أن التناقضات الداخلية الإسرائيلية بدأت بالبروز على خلفية غياب المخاطر والتحديات.

على ذلك فثمة استعجال في التعاطي مع أية تغييرات سياسية أو حزبية في إسرائيل بتعابير ضعف الاستقرار السياسي أو بمصطلحات الأزمة أو الانهيار أو التفكك، فالنظام السياسي عندهم لا يعمل بهذا الشكل، برغم كل ثغراته وتناقضاته ونقاط ضعفه.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات