المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كلمة الأكاديمية البريطانية من الأسبوع الماضي لم تكن عفوية على الإطلاق في مسألة مقاطعة الجامعات الإسرائيلية، وعلى الأخص جامعتي حيفا وبار ايلان. لقد قام 48 ألف محاضر في الجامعات والمعاهد العليا في بريطانيا بدراسة قرارهم هذا لفترة طويلة قبل الإعلان عنه رسمياً. ومن الواضح أن الإعلان عن قرار المقاطعة قد لاقى ترحيبا فلسطينيا وعربيا ودولياً من الأطراف المؤازرة لعدالة قضية الشعب الفلسطيني ولعدالة البحث العلمي الموضوعي والنزيه والشريف، ولاقى القرار امتعاضا وغضبا شديدين من الأوساط الإسرائيلية الأكاديمية والرسمية والشعبية لأنه يخرج عن نطاق الانصياع والطاعة للبيت الأكاديمي الإسرائيلي.

لسنا في صدد مناقشة القرار في حد ذاته إنما يتوجب علينا الغوص في حيثياته وانعكاساته السياسية والاجتماعية والأكاديمية. فالقرار عبر عن استنكار الأكاديمية البريطانية لقيام الجامعتين المذكورتين بالتعامل بالتوافق والقبول للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من خلال إنشاء مؤسسات تابعة لها في مناطق فلسطينية مثل اريئيل وسواها من المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة. والتعبير عن الاستنكار الأكاديمي البريطاني رافقه فعل عملي هو قرار المقاطعة، أي مقاطعة لهاتين الجامعتين في باب التعاون الأكاديمي. هذا التعبير العملي هو خطوة حكيمة للغاية من حيث أنها تعكس عدة جوانب، في مقدمتها رفض الاحتلال بكل أشكاله بما فيه شكل التعليم العالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفض التعاون والتعامل مع الأكاديميين الإسرائيليين في هاتين الجامعتين، على وجه الخصوص، في مجالات ومسائل علمية متنوعة.

لا بد لنا أن نذكر أن هناك عددًا من الأكاديميين الإسرائيليين في الجامعات الإسرائيلية لا يمكن اعتبارهم منضوين تحت قطيع وراية الأكاديمية الإسرائيلية، بل إن بعضهم من معارضي الفكر الأكاديمي الإسرائيلي، وهؤلاء يتعرضون لأشكال من الملاحقات والمضايقات في جامعاتهم، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر الدكتور ايلان بابي المحاضر والباحث من جامعة حيفا والذي عبر عن تأييده لقرار الأكاديمية البريطانية مباشرة بعد الإعلان عنه.

لقد أحاطت الأكاديمية الإسرائيلية نفسها بجدارات واقية أسوة بالسياسة الإسرائيلية، فاعتبرت نفسها مرجعية علمية تزود المستوى السياسي بكل المعلومات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن الفلسطينيين والعرب والمسلمين في العالم، من خلال طواقم كثيرة من ذوي الاختصاص الذين بنوا لأنفسهم قواميس من التعابير والمصطلحات التي تبدو علمية لأول وهلة ولكنها في بواطنها اصطلاحية تحمل من الخبث والدهاء الكثير مما ينطبع مستقبلا في عقول وذهنيات متلقيها. هذه الاصطلاحية الملفقة تجاه المجتمع الفلسطيني والعربي جعلت من الأبحاث الإسرائيلية ترتدي ثوبا من الموضوعية في حال اعتمادها على نظريات مبتدعة علميا تزود القارئ والباحث والسياسي ورجل الشارع بكل ما يحتاج إليه من معلومات وأدوات تحليلية تجاه العرب والفلسطينيين والمسلمين.

الكل يدرك قوة الكلمة ومصداقية البحث العلمي لأول وهلة، فاللجوء إلى استعمال مصطلحات وتعابير وكلمات بعيدة عن التعاطي اليومي الحياتي تكسب مؤيدين وتجذب إليها مناصرين وهذا ما نجحت الأكاديمية الإسرائيلية في تسويقه للرأي العام الإسرائيلي والرأي العام العالمي. فالحكومة الإسرائيلية واذرعها الأمنية والاجتماعية تتوجه بصورة دائمة إلى الأكاديمية الإسرائيلية بطلب إجراء بحوث ودراسات ومؤتمرات لبحث قضية ما، مثل الإرهاب والتكاثر السكاني لدى الفلسطينيين والتحولات الاجتماعية والتغييرات السياسية لدى المواطنين العرب في إسرائيل وخارج إسرائيل لتُكوّن ـ أي الحكومة ومؤسساتها ـ معلومات وتحليلات بخصوص هذه المجتمعات والشرائح البشرية. وعندها يتمكن السياسيون من توجيه تصريحاتهم وأفعالهم بما يتلاءم وما صدر من بحوث ودراسات. ونحن نعلم كيفية توجيه دفة هذه الأبحاث لتتوافق مع رغبات الحكومة الإسرائيلية، مثلا في مسألتي الديموغرافيا والإرهاب الفلسطيني، فتثار القضية في الإعلام على أن هذا هو الخطر المحدق بإسرائيل وشعبها، وان إسرائيل هي ضحية دائمة معرضة لخطر الهجوم والتعدي عليها، بينما في الوقت ذاته تقوم الأذرع الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بتنفيذ هجمات تصفوية للفلسطينيين مقاومي الاحتلال الإسرائيلي.

التغطية الأكاديمية الإسرائيلية تنسجم مع متطلبات الأمن الإسرائيلي على طول الطريق. هذا الأمن بحاجة ماسة إلى غطاء موضوعي لكل ما يقوم به من خطوات وأفعال تجاه الفلسطينيين والعرب عامة. وبناء عليه أصبحت الأكاديمية أسيرة القرار السياسي وأصبحت الحكومة أسيرة الأكاديمية الإسرائيلية. بمعنى آخر فإن التوافق بين الطرفين متفق عليه ضمنا ولا حاجة إلى التوصل إلى تفاهم بين الطرفين. فالمحصلة الأخيرة أن الأكاديمية الإسرائيلية مسيسة ومعسكرة وليست مستقلة عن القرار السياسي أو الفعل العسكري.

لقد نجحت الحكومات الإسرائيلية عبر العقود الستة الأخيرة ـ أي من يوم الإعلان عن إقامة إسرائيل ـ في تجنيد الأكاديمية الإسرائيلية إلى جانبها وعدم ترك هذه الأكاديمية تنعم برياح التحرر الفكري وحرية العمل العلمي أسوة بأكاديميات أخرى في العالم. ولجأت هذه الأكاديمية إلى تبني عدة خطوط في البحث العلمي، منها خط تقديم الرواية الإسرائيلية (ناراتيف) وفق أسس تساعد السياسة الإسرائيلية بالتمام. فما حدث للفلسطينيين في العام 1948 لم تكن إسرائيل هي المسبب له، فالفلسطينيون قد تركوا ديارهم بمحض إرادتهم دون أي ضغط سياسي او عسكري من جهة إسرائيل إلا بما له علاقة بالدفاع عن الييشوف اليهودي. وان الفلسطينيين والدول العربية هم المسؤولون عن النكبة التي يدعي الفلسطينيون أنها جرت على يد إسرائيل. إن الخط المتبنى من قبل الاكاديمية الإسرائيلية هو رفض ودحض الواقع التاريخي والحقيقة التاريخية بكل أشكالها. ما زال عدد كبير جدا من الأكاديميين الإسرائيليين يرفض استعمال مصطلح "نكبة" وكثيرون منهم لا يعترفون بالمجازر التي اوقعتها المنظمات الصهيونية في عشرات من القرى والمدن الفلسطينية بهدف التخويف والترهيب والاقتلاع. ونحن نعرف أن بحثا علميا قام به تيدي كاتس حول ما جرى في الطنطورة من مذابح ومجازر ذهب ضحيتها مئات من أبناء هذه القرية الآمنين قد وصل إلى قاعات المحكمة. والفلسطينيون ليسوا في حاجة لمن يؤكد لهم وقوع تلك المجازر البشعة فذاكرتهم الشخصية والجماعية ما زالت تحتفظ بصور هذه المجازر والمذابح. ولكن ان يجرؤ كاتس وغيره على تقديم بحث علمي لنيل درجة جامعية هي في حد ذاتها خطوة متقدمة، الا انها لاقت معارضة شديدة من قبل الاكاديمية الإسرائيلية التي جردته من درجته بعد ان منحته إياها بذريعة تقديمه حقائق ومستندات غير دقيقة. والواقع ان كاتس قد خرج عن القطيع الاكاديمي الإسرائيلي ولم يقبل ضميره ما تفرضه الاكاديمية استباقيا من آراء وتوجيهات لكتابة بحثه وإخراجه بالشريط السينمائي الذي تريده هذه الاكاديمية. فشنت الاكاديمية الإسرائيلية، خاصة جامعة حيفا التي قُدم البحث إلى هيئتها العلمية، حربا ضروس لكل من يتعدى معبد الإجماع العلمي والتوافق البحثي. وكان الباحث والمحاضر في جامعة حيفا د. ايلان بابي قد ارشد كاتس في بحثه إلى أن عُزل بقرار من الجامعة لآرائه التقدمية والمنفتحة والمعارضة للإجماع الاكاديمي والطاعة الاكاديمية الإسرائيلية. ورغم أن كاتس قد تراجع عن بعض ما كتبه بفعل الضغط الا انه ما زال متمسكا بصدق بحثه الأساسي (كما صرح لكثيرين شخصياً). وواقع الأمر أن بابي يقدم نموذجا صارخا لضمير أكاديمي إسرائيلي حقيقي وواقعي يبين من خلاله أبحاثه ومحاضراته زيف البحث التاريخي والسياسي الإسرائيلي. فدعوته المستمرة إلى تبني الحقيقة كما هي والاعتراف بالجرائم والمجازر التي ارتكبتها المنظمات العسكرية اليهودية والجيش الإسرائيلي فيما بعد تجاه الفلسطينيين والعمل من اجل إقامة دولة واحدة ثنائية القومية ، كل هذه لا تتوافق مع الفكر الاكاديمي الإسرائيلي أسير الخط السياسي الصهيوني. ومن هنا ما زال بابي يتعرض إلى ملاحقات ومضايقات من قبل الاكاديمية الإسرائيلية ومعارضة شديدة لكل ما يكتبه وينشره من وثائق ومستندات وتحليلات حقيقية وواقعية يترجمها بفعل ضرورة التقارب مع الفلسطينيين على أساس كونهم شركاء متساوين وليسوا مكسورين ومهزومين.

ومثال آخر هو بيني موريس وهو مؤرخ إسرائيلي له شهرة عالمية كان من بين أوائل الباحثين الإسرائيليين الذين كشفوا سلسلة من الوثائق السرية المدفونة في سراديب الأراشيف الإسرائيلية عن أن ما جرى في عام 1948 كان وفق خطط مدروسة وموضوعة مسبقا وان مجازر كثيرة قد وقعت في عدة قرى ومدن ويستعرض عددا منها في كتبه، منها كتابه عن ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين. إلا أن موريس قد تعرض لمسلسل من الضغوط والمضايقات والنفي الفكري والإقصاء العنيف من دوائر الاكاديمية الإسرائيلية إلى أن رضخ في نهاية المطاف للإجماع الأكاديمي الإسرائيلي وعاد إلى بيت الطاعة حيث تراجع عن الكثير مما كتبه ونشره في كتبه السابقة .

التوجهات المتبناة من قبل الأكاديمية الإسرائيلية والمسيسة شكلا وضمنا لم ترق للأكاديمية البريطانية، التي تريد الحقيقة بكاملها وكما هي دون تزييفها والتلاعب بها. وأكثر من ذلك فإن هذه الاكاديمية التي تعتمد البحث العلمي الموضوعي تدرك تماما أن كل بحث علمي إنما يسير في طريق تبيان الحقيقة وكشفها وعرضها كما هي.

ومما يثير التقزز والاشمئزاز مبادرة وزيرة التربية والتعليم (ليمور ليفنات) في الحكومة الإسرائيلية إلى طرح مشروع تحويل كلية اريئيل الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة إلى جامعة معترف بها من قبل مجلس التعليم العالي في إسرائيل (وهو ما أقرته الحكومة أمس الاثنين). هذه القحة تشير بكل وضوح إلى تبني المؤسسة السياسية الإسرائيلية لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي. وواضح أن خطوة الوزيرة هذه تأتي في ظروف القرار البريطاني الصادر عن الاكاديمية البريطانية من الأسبوع المنصرم. والاقتراح من الوزيرة أعلاه هو تحدٍ للقرار البريطاني. ويبين هذا الاقتراح مدى رفض الحكومة الإسرائيلية لفكرة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والاعتراف بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ما زال أقطاب السياسة في إسرائيل متمسكين بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية باعتبارها جزءًا من ارض إسرائيل الكاملة ولا حق للفلسطينيين فيها. والغريب في الأمر أن كلية اريئيل مدعومة من الجامعات الإسرائيلية ومن الحكومة الإسرائيلية، وهذه الحكومة وسواها قد رفضت إقامة جامعة عربية مستقلة تجيب على احتياجات المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل.

كشف قرار المقاطعة البريطاني حقيقة زواج الاكاديمية الإسرائيلية بالقرار السياسي وخضوع الطرفين بعضهما لبعض بالتراضي والتفاهم المسبق.

خلاصة الأمر، فإن القرار الصادر عن الأكاديمية البريطانية هو خطوة أولى في مواجهة زيف الأكاديمية الإسرائيلية وتبديل الحقائق وتهميش البحث العلمي الفلسطيني (كجزء من عملية الصراع). وحان الوقت للأكاديميين الإسرائيليين الشرفاء وأصحاب الضمير الواعي الخروج من بيت الطاعة الأكاديمي الإسرائيلي والانطلاق نحو عالم الحرية العلمية في البحث العلمي ورفض الرضوخ لقيود الأكاديمية التي تمننهم بالمال والمكانة . ومن جهة أخرى فإن موقف الأكاديمية البريطانية المشرف يجب استثماره فلسطينيا وعربيا لمصلحة تجنيد فكر مستنير ومنفتح يعمل من أجل نشر الحقيقة التاريخية بوجهها الناصع غير المزيف والمشوه. اعتقد أن خطوة من جانب باحثين إسرائيليين وفلسطينيين موضوعيين ومستقيمين وأحرار كفيلة بإعادة صياغة أسس البحث العلمي المتعلق بكل ما يبحث ويدرس ويكتب في القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ـ العربي.

المصطلحات المستخدمة:

اريئيل, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات