سجلت وسائل الاعلام الاسرائيلية، في نهاية الأسبوع الماضي، قمة جديدة في الانحطاط، عندما نشرت، طباعةً وبثًا، صورًا للأسير مروان برغوثي وهو يتناول طعام الغداء في زنزانته العزلية، وذلك بهدف "فضحه" أمام مستهلكي الاعلام الاسرائيلي- ولكن وبالأساس أمام زملائه الأسرى، ضمن حرب نفسية محمومة تشنها مصلحة السجون ضد أبطالنا الأسرى.
وينضوي هذا النشر في سلسلة التردي والهبوط المطّردين في المعايير المسلكية الجماهيرية في دولة إسرائيل. وهي السلسلة التي اندلعت ضراوتها وتكثفت عند تفجّر الانتفاضة الثانية، مع أنها لم تتوقف للحظة منذ 1948 عن تعرية العربي من أية صفات إنسانية، وبالتالي إقصائه عن لعبة "حقوق الانسان" الغربية والمضمونة للعالم الغربي، أو كما يحب جورج بوش وعملاؤه تسميته بالعالم "الحر"، أي بعالم البشر المتحضرين، على خلاف المسلمين والإفريقيين ومن جاور حماهم.
ويأتي هذا النشر على الرغم من أنّه يشكل خرقًا للقانون وتعليماته، ويتمّ بأيدي جهات ومؤسسات حكومية من المفترض أنها تدافع عن القانون، أو على الأقل تهتم بعدم خرقه: مصلحة السجون والصحافة الاسرائيلية- كلب حراسة الديمقراطية. وقد أثبتت مصلحة السجون هذه المرة أنها لا تتعدى كونها جسمًا شبه جنائي يحاول بأية طريقة - شرعية أكانت أم غير شرعية، في الغالب- كسر الإضراب عن الطعام وهو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الأسرى والمعتقلين في أرجاء العالم.
وحتى لو أهملنا جانبًا وللحظة هذه المسألة الأخلاقية - التي تثير بالتأكيد السخرية العارمة عند غالبية الاسرائيليين اليوم لمجرد طرحها- فإنه من المفترض طرح بعض الأسئلة المتعلقة بهذا النشر: كيف علمت وسائل الاعلام وبالتأكيد أن الصور المنشورة قد صُوّرت "أمس" (قبل نشرها بيوم) كما ادعى الناطق المحموم بلسان مصلحة السجون؟ هل أقام أحد الصحفيين أو المحررين اتصالاً مع برغوثي أو مع محاميه ليتأكدوا من صحة ادعاءات مصلحة السجون؟ وإذا تم التأكد من هذا المعطى، هل حاول أحد تفسير حقيقة تناول برغوثي لطعامه (مثلا: اتفاق ضمني بين الأسرى بأنّ من يقبع في الحبس العزلي لا يضرب عن الطعام؛ أو مثلا التوجهات والاجتهادات المختلفة، بين التنظيمات الفلسطينية المختلفة في السجون- وهذا شرعي جدًا بالمناسبة- والتي قرأنا عنها قليلا، حول البدء بالاضراب ومن سيشارك فيه ومن سينضم بعد ذلك)؟ هل قام أحدهم في وسائل الاعلام بأدنى متطلبات مهنته (العمل الصحفي- معذرة على المصطلح) وطرح هذه الأسئلة على الناطق بلسان مصلحة السجون؟
لهذا النشر وجهان: المُسرّب للصور والناشر لها، أو توخيًا للدقة: المتعاون مع المُسرِّب. وهنا نسارع للقول إنّ هذه المقالة ليست ضد ظاهرة التسريب للصحافة، وهي من أهم مظاهر الديمقراطية والصحافة الحرة؛ المشكلة الملحة تكمن في خضوع وسائل الاعلام الاسرائيلية التام لتسريبات مغرضة من هذا النوع، هدفها التحول إلى سلاح ضد مجموعة معينة وليس الكشف الصحفي السليم. كما أنّ نشرًا من هذا النوع يخرق القانون لسبب مسّه بالخصوصية وسرية الفرد للأسير برغوثي. فمنذ لحظة أسره، يتحول السجن والغرفة في السجن إلى بيتٍ لكل أسير. كل هذا ناهيك عن أنّ الحق في الخصوصية، والمثبّت في قانون أساس: كرامة الانسان وحريته، يحظى بمكانة رفيعة في القضاء والقانون، بحيث أنّ خصوصية الانسان ثُبّتت أيضًا في الأحكام القضائية بكونها كرامته وحصنه النفسي.
وهنا يحق السؤال: أين تحكيم الرأي عند وسائل الإعلام؟ فلنفترض أنّ الناطق بلسان مصلحة السجون يرى في هذه الصور أداةً شرعيةً ويؤمن بأنّ الغاية تبرر الوسيلة، ولكن كيف يسمح الاعلام الاسرائيلي لنفسه (مرة بعد أخرى) بالخنوع أمام ناطقين على أنواعهم، يستغلونه لأهداف ليست سامية بالضرورة؟ هل هو التنافس بين وسائل الاعلام الذي دفع إلى نشر هذه الصور، أم أنه بالذات التعاون الطوعي مع "النظام"، كرد فعلي آلي "للأمر 8" الوطني، الصادر ضد "أعداء" إسرائيل و"كارهيها"؟؟
الأسير برغوثي - مثله مثل سائر الأسرى- ليس ملكًا شخصيًا لمصلحة السجون. وبحكم موقعه، كان من المفترض بالآمِر يعقوب غانوت، مفوض سلطة السجون، أن يذود عنه وعن سائر الأسرى، في مقابل السيطرة العدائية من جانب مرؤوسيه- وخاصة الناطق بلسان مصلحة السجون- بالغ الحماس. وفي عصر تحولت فيه الحروب الاعلامية في إسرائيل إلى جزء من مشاهدنا اليومية، يجب على غانوت وأمثاله أن يهتم بتنفيذ عمله وهو الحفاظ على القانون وتعليماته، وألا ينجرّ إلى حروب إعلامية متدنية.
كما أنّ هذا النشر، إضافةً إلى الأبعاد الإعلامية التي سبق ذكرها، يزيد من إذلال الأسرى المصنفين "أمنيين"، عن طريق البيان المعلن من وراء هذا النشر: هؤلاء الأسرى ليسوا بشرًا متساوي الحقوق؛ فهم أداة ليس إلا، ولذلك من المسموح تصويرهم سرًا كاللصوص (المصوِّرين وليس المصوَّرين)، نعتهم بأنهم مخربون وقتلة كما يحلو للجميع، وإشعال المناقل وشيّ اللحم في باحات السجون للتثبيط من عزائمهم. ومجرد الموافقة على نشر من هذا النوع، من جانب غانوت ومن جانب الاعلام، يشهد على القالب والمضمون: تحقير متعمد وعن سابق إصرار لسلطة القانون (على الرغم من محدوديتها اليوم في دولة إسرائيل) وإذلال بحق الأسرى الذين يتمتعون بحقوق ممنوحة لهم لكونهم بشرًا.
وإذا كانت الغاية تبرر الوسيلة حقًا، حتى بالنسبة لكلب حراسة الديمقراطية، فأنتم مدعوون بحرارة للبدء بالصلاة والتضرّع!