المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 828

في التطورات السياسية والحزبية الأخيرة في إسرائيل (هزيمة أريئيل شارون المزدوجة في مؤتمر "الليكود"، والصراع المتفاقم في حزب "العمل" على مسألتي زعامة الحزب والانضمام إلى الحكومة، المتصلتين ببعضهما البعض) ما يوحي بأن الأزمة الأشد والأدهى باتت قاب قوسين أو أدنى من الإنفجار. مع ذلك فإن ما يصدر عن "شارون" من إشارات لا يشي بأنه في عجلة من أمره، بل على العكس فهو لا ينفك يؤكد أنه ماض قدمًا في "جهود توسيع إئتلاف حكومته الهشّ"، وربما الأهم من ذلك، وفقًا للمقاييس الاسرائيلية، تأكيده أنه سائر في وجهة تطبيق خطة "فك الارتباط"، التي يظهر أن الواقع السياسي في إسرائيل لن يجد لنفسه فكاكًا منها الآن، وربما حتى إشعار آخر.

 

 

هذا الحكم الأخير هو ما نعالجه هنا، وهو ما يتفق عليه، بل يكاد يشكل خلاصة المقال الإفتتاحي في العدد الأخير من نشرة "المحتلن الإستراتيجي"، الصادرة عن مركز "يافه" للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب (عدد تموز/ يوليو 2004). ويؤكد كاتب المقال، شلومو بروم، الباحث في المركز، أنه لا مهرب من النظر إلى خطة "فك الارتباط" باعتبارها قطارًا غادر المحطة وانطلق مسرعًا في سكته، بحيث أن أي "رئيس حكومة سيأتي بعد شارون سيكون من الصعب عليه عدم المضي في عقبيه".

 

يتيح مقال "بروم"، على ما يمثله من رؤية إسرائيلية "إستراتيجية" لخطة الانفصال الشارونية واحتمالاتها وإحالاتها، المجال للإطلاع، بكيفية ما، على خفايا تفكير "العقل السياسي الاسرائيلي"، من حيث أن النصوص الصادرة عن مركز "يافه" تتسم، أكثر شيء، بكونها "نصوصًا مهندسة للسياسة العامة".

 

يقيم "بروم" فيصلاً بين الدوافع الذاتية لخطة "فك الارتباط"، التي تشمل في قراءته ما تنطوي عليه مواقف شارون من عناصر ثابتة ومتغيرة، وبين الواقع الموضوعي الذي يمكن أن تتأتى عنه وقائع جديدة، مغايرة، فور وضع الخطة على محك التطبيق للإنطلاق بها قدمًا. ولأن إستشراف هذه الوقائع، من نقطتنا الزمنية الراهنة، لن يعدو كونه أكثر من "رجم بالغيب"، فإن من المفيد أكثر أن نضع أمام القارىء بعض المستحصلات الذاتية الآنية لتلك الرؤية، التي لا يواريها الكاتب في ثنيات المقال.

 

بداية، يشير "بروم" إلى أن خطة "فك الارتباط"، بما تعنيه من إنفصال، راسية داخل مفهوم "غياب شريك فلسطيني للتفاوض"، من جهة. ومن أخرى فانها راسية داخل ما يسميه "جدية الجهوزية لدى شارون لقبول حل مستند إلى مبدأ دولتين لشعبين"، حسبما يتبين، في قراءة الكاتب، من تصريحاته "بشأن استعداده لقيام دولة فلسطينية، منوط قيامها بثمن باهظ من إخلاء المستوطنات".

 

وبسبب هذا الشق الثاني وحده يعتقد "بروم" أن الخطة ينبغي أن تحظى بتأييد "إسرائيليين يؤمنون بامكانية تسوية النزاع، بقدر ما يؤمنون أن ذلك يتعين أن يتم فقط بواسطة مفاوضات بين الطرفين" (الاسرائيلي والفلسطيني). وفي سبيل إقناع هؤلاء بصورة تامة فهو يقرر ما يلي: "في الواقع السياسي الحالي في اسرائيل وفي الجانب الفلسطيني، فان إمكانية الوصول إلى محادثات حقيقية مشكوك فيها. بينما نجاح الخطة من شأنه أن يغير الشروط الأساسية وأن يؤدي إلى محادثات كهذه، يعني أن يؤدي إلى نشوء "شريك" في الجانب الفلسطيني".

 

يقرّ الكاتب، أيضًا، بأن الخطة في صيغتها المعدلة ستفضي، في حال تطبيقها، إلى واقع من الفصل شبه الكامل بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة، غير أنها في غالبية مناطق الضفة الغربية ستؤدي إلى نشوء واقع إنتقالي، تظل فيه، حتى بعد الانتهاء من بناء الجدار الفاصل حسب تخطيطه الراهن، مستوطنات كثيرة في المناطق الواقعة شرقي الجدار ويبقى تجمع كبير للسكان الفلسطينيين في الجانب الاسرائيلي من الجدار. وهذا واقع غير مستقر، في رأيه.

 

يفترض الكاتب أن شارون "جادّ" في تطبيق الخطة، حتى ولو على أساس أحادي الجانب. ويرى في "استعداده لدفع أثمان سياسية باهظة إلى حدّ تفكيك الائتلاف وإلى حدّ قد يستدعي تبكير الانتخابات، إذا لم يحالفه الحظ بضم حزب العمل إلى حكومته" وفي "استعداده للمخاطرة بالاعتماد على مصر في تنفيذ بعض مركبات الخطة، على رغم موقفه الأساسي (الراسخ) المتشكك حيال مصر عمومًا" مؤشرات، ضمن أخرى غيرها، إلى هذه الجدية.

 

مع ذلك، حتى لا نقول رغم ذلك، فإن الثغرات والثقوب الكثيرة في الخطة، التي يتوقف عندها الكاتب في هيئة المتأمل والمتساءل، لا تدع أي مجال للوثوق بسلامة نواياها حيال الفلسطينيين.

 

في هذا الشأن يطرح "بروم"، بادىء ذي بدء، السؤال التالي: هل يملك رئيس الوزراء مفهومًا كاملا متكاملا لحل النزاع مع الفلسطينيين، بصورة تعطي مشروعية للإعتقاد بأن تكون خطة "فك الارتباط" مرحلة واحدة منه، أم أن في نيته الاكتفاء بهذه الخطة فقط ( غزة أولاً وأخيرًا)؟.

 

ويجيب: أوضح شارون مرات عديدة أنه، وفقًا لمفهومه (إزاء النزاع)، يستحيل التوصل إلى حل دائم مع القيادة الحالية للفلسطينيين. ويبدو كذلك أنه يشك في إمكانية الوصول إلى حل دائم مع أية قيادة فلسطينية (في المستقبل). ولذا فمن الواضح أنه لا يسعى البتة إلى "حل بالاتفاق" ويؤثر "خطوات أحادية الجانب".

 

في هذا الإطار أيضًا ثمة، برأي "بروم"، فارق كبير بين "خطة كاملة تسعى إلى انفصال أحادي الجانب (شامل) عن الفلسطينيين"، ومن نافل القول إن مثل هذه الخطة غير قائمة، وبين خطة شارون، المطروحة على الأجندة و"التي تتغيّا إنفصالا كاملا عن قطاع غزة، غير أنها في الضفة الغربية لا تغيّر الوضع تغييرًا جذريًا". في أكثر من مناسبة قال نائب رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، إنه يسعى إلى "إنفصال كامل عن الفلسطينيين". لكن من غير الواضح بتاتًا ما إذا كان رئيس الوزراء شريكًا في هذا المفهوم.

 

فوق ذلك كله ثمة مكان للافتراض، وهو ما سبق أن ألمح إليه كثيرون، بأن شارون إنما يسعى إلى تطبيق إنفصال كامل عن قطاع غزة وإنفصال جزئي (للغاية) عن الضفة الغربية، من أجل تعزيز سيطرة إسرائيل على أجزاء من الضفة الغربية ومن أجل تكريس المستوطنات في هذه الأجزاء.

 

لئن كان كل ما تقدّم ذكره يندرج في إطار الأسئلة الخاصة عن الرغبات أو النوايا الدفينة، فإن هناك، في الموازاة، أسئلة أخرى مفتوحة تتعلق بسير التطبيق لا تزال الأجوبة عليها مبنية للمجهول، على شاكلة ما يلي من أسئلة:

- الخطة أحادية الجانب ومن الواضح أنه ليست هناك نية لدخول مفاوضات مع الفلسطينيين حول مركباتها الشتيتة. فهل يعني ذلك، يتساءل "بروم"، أنه لن تكون هناك أية محادثات مع الفلسطينيين حول تطبيقها ولن تبذل أية محاولة لتنسيق التطبيق معهم؟.

- ما هو نطاق وعمق التدخل الدولي الذي ستكون إسرائيل على إستعداد لقبوله.

- في أية شروط ستوافق إسرائيل على إخلاء الشريط الحدودي مع مصر (محور فيلادلفيا) وتتيح إمكانية فتح المطار والميناء؟.

- هل ستؤدي الخطة فعلا إلى تخفيف مستوى العنف وتحسين أوضاع الأمن، حسبما يأمل أصحابها.

 

فضلا عن ذلك يرى "بروم" أن حكومة إسرائيل، بإعرابها المتحفظ عن استعدادها لرؤية الانفصال كجزء من تطبيق خطة "خريطة الطريق"، إنما تجاوبت فقط مع مطلب لحوح في هذا الصدد من جانب الأسرة الدولية، وبالأخص من الولايات المتحدة و"الرباعية"، غير أن هذا الاستعداد تحدّدت غايته الأرأس في استدرار تأييد الأسرة الدولية للخطة (أي أنه مجرّد ضريبة كلامية) ولا يعني وجود تقديرات قوية في إسرائيل باحتمال تطبيق خطة "خريطة الطريق" في صيغتها الناجزة. كما أن هذا الاستعداد لا يعني، بحال من الأحوال، أن شارون جاهز للذهاب إلى مفاوضات حول الحل الدائم، وفقما هو مطلوب في سياق المرحلة الثالثة من "خريطة الطريق".

 

لعلّ الأمر الوحيد شبه الأكيد الآن هو أن شارون يهمّ بتطبيق خطته بصورة أحادية الجانب، إذا ما أسعفته ظروفه الداخلية الشديدة التعقيد. في هذا الشأن يؤكد "بروم" أنه في حالة نجاح الخطة في تحقيق الإنفصال عن قطاع غزة، فإن المرحلة التالية المطلوبة، من ناحية المنطق الداخلي الواقف وراءها، هي تطبيق إنفصال أوسع بكثير عن الضفة الغربية. لكن من المشكوك جدًا أن تكون في حوزة شارون القوة، هذا إذا كانت لديه أصلاً الرغبة في ذلك، التي تسنده في الانتقال إلى المرحلة المقبلة. وعليه فإن الاحتمال الأقوى، بموجب هذه الرؤية "الإستراتيجية"، هو أن تظلّ الأمور معلقة إلى أن تحسمها القيادة التي ستخلفه في سدة الحكم.

المصطلحات المستخدمة:

الليكود, نائب رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات