نسمع في الآونة الأخيرة عن لقاءات في العواصم الأوروبية بين مثقفين ومبدعين فلسطينيين واسرائيليين، معظمها يجري التحضير له بالخفاء كي لا يعركسها من يعارض هذه اللقاءات في هذه الظروف، بحق أو بغير حق.
وما رشح من هذه اللقاءات أو أعلن عنه يبدو أنه تكرار للتجربة القديمة في هذه اللقاءات ولكن مع صياغات جديدة في صلبها مبادرة وثيقة جنيف أو / و مبادرة سري نسيبة وعامي أيلون، لكن قليلة أو نادرة هي اللقاءات التي تتم على أساس الاعتراف بحق العودة واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة استقلالا كاملا.
ويبدو أن البعض من المثقفين الاسرائيليين الذين فقدوا صوابهم قبل أربع سنوات بدأوا يعودون الى ذواتهم ويصحون من الحالة التي اوقعوا أنفسهم فيها، مع فقدان الأمل في أن رجلا قويا مثل أريك شارون يعرف كيف يلقن الفلسطينيين درسا في السياسة . مرت ثلاث سنوات على حكومتي شارون وأربع سنوات على الحرب الفلسطينية الرابعة التي أعلنتها حكومة ايهود براك وواصلتها حكومة شارون الى اليوم، وما زال الوضع على حاله، لا بل يزداد خطورة لأن الوصول الى طريق مسدود لا ينذر الا بالانفجار، وقد أصبح جدار الفصل العنصري أمرا واقعا وخطة شارون للفصل لا تتحرك الى الأمام ولا الى الوراء وهمشت المشاريع الأخرى من خطة تينيت والمبادرة العربية وخارطة الطريق الى المبادرة المصرية الأخيرة لتجديد المفاوضات، وهذا ما يدركه المثقفون الاسرائيليون القلقون على مشروعهم القومي ومجتمعهم ولذلك فان مبادراتهم لعقد لقاءات مع المثقفين الفلسطينيين تفتح أمامهم منافذ لحساب النفس أولا وللخروج من المأزق ثانيا.
اللقاءات التي تجري في الآونة الأخيرة بين مثقفين اسرائيليين وفلسطينيين في عواصم أوروبية، وأماكن مختلفة في العالم تبدو نباتية أي أنها مجرد تعارف ورحلة أوروبية وحديث حول المتفق عليه ورومانسية لأنها تلغي المتنازع عليه وبؤرة الخلاف وهي: حق العودة.
هكذا ذهب ايهود براك الي كامب ديفيد عام 2000، ليقول لياسر عرفات تنازل عن حق العودة وعن الحرم المقدسي وعن الدولة المستقلة وهيا نتحدث عما تبقى.
معظم المثقفين الاسرائيليين الذين يدعون أنهم يساريون ولكنهم في الوقت نفسه صهيونيون هم من المعارضين ليس فقط لحق العودة بل لمجرد طرح هذا الموضوع للبحث كمسألة سياسية وما عدا ذلك فهو قابل للبحث وهذا لا يعني أن المطلب الفلسطيني مقبول عليهم، اذن حول ماذا يجري اللقاء؟
الحوار مع المثقفين الاسرائيليين ضروري في هذه المرحلة الحرجة فلسطينيا واسرائيليا ويجب أن تقدم مبادرات فلسطينية للقاءات من أجل الحوار لأن في ذلك أهمية كبرى للتأثير على الرأي العام في اسرائيل والعالم، ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح: من يضع الأجندة للقاءات؟ هل تترك للاسرائيليين ليقولوا في نهايتها ما قاله براك في حينه: لقد قدمنا لهم كل شيء ولكنهم رفضوا؟
المثقفون من كلا الجانبين ليسوا مكلفين باجراء مفاوضات لانهاء الصراع، حتى وان اتفقوا على كل شيء، ففي نهاية الأمر القيادات السياسية هي التي ستحسم وتقرر بأدواتها الخاصة، ولذلك فان التفاصيل ليست من شأن المثقفين ولا كل ما يتعلق بتكتيك الحلول المطروحة. المثقفون يتحاورون على القضايا المبدئية القائمة على قيم أخلاقية مثل السلام والمساواة والحرية للجميع، واللقاء مع المثقفين الاسرائيليين ينبغي أن يتمحور حول المسائل الأخلاقية الجوهرية.
نطرح أمام هؤلاء المثقفين مسألتين جوهريتين. الأولى: هل توافق على احتلال شعبك لشعب آخر؟ والثانية: قيام دولتك سبب مأساة للشعب الفلسطيني ما زالت مستمرة حتى اليوم، ماذا تفعل من أجل انهاء هذه المأساة؟
في الحوار مع المثقفين لا يجدي الحديث حول انهاء الانتفاضة او وقف اطلاق النار او قبول تقرير ميتشل أو اقتراحات تينيت ولا حتى وثيقة جنيف ولا يجدي الحديث حول رغبة الناس في السلام، فكل الناس تريد السلام، ولكل سلامه الذي يصبو اليه وقد أصبح الحديث العام عن السلام رومانسيا في معظم الأحيان، كما أن الدخول في تفاصيل الحلول الآنية يشعب الحديث ويصرف النظر الى متاهة البحث عن ترتيبات أمنية (لضمان أمن الاسرائيليين) في واقع ليس عادلا من أساسه، وفي هذه الحالة يتحول المثقف الى سياسي، أو يريد أن يحل محل السياسي.
تصفية الاحتلال بكافة أشكاله هي المسألة التي ألتقي حولها مع المثقف الاسرائيلي، ماذا تفعل أيها المثقف من اجل تصفية هذا الاحتلال الذي يمس بشعبك وشعبي، ويجعلني ضحيته الأولى وانت تأتي بعدي، انا أدفع ثمنا باهظا وأنت ايضا، أنا اناضل ضد الاحتلال بوسائلي ومن موقعي ومن حقك أن تطالبني بان يكون نضالي مشروعا أخلاقيا مثلما انه من واجبك ان تعترف بحقي في هذا النضال العادل والمشروع، لكي نلتقي اخلاقيا كيف تناضل أنت أيها المثقف الاسرائيلي ضد هذا الاحتلال.
ان نضالي من شأنه أن يخلصني من هذه الحالة اللاأخلاقية وهو كفيل بان يخلصك أنت ايضا، فناضل أنت لتخلص نفسك وتخلصني. نلتقي في هذه الظروف ليس فقط لنطرز أحلاما غيبية ولا لنغرق في الرومانسية بل لنبحث عن قاعدة أرخميدس التي نقف عليها سويا مناضلين ضد هذا الاحتلال. اذن سنلتقي كمناضلين ضد الاحتلال. هذا هو موطىء القدم الذي نقف عليه مع بعض.
النضال ضد الاحتلال كموقف أخلاقي هو ايضا نضال ضد الغبن التاريخي. لقد قامت اسرائيل، دولة لليهود، على أنقاض شعب آخر، الأرض التي قامت عليها هذه الدولة لم تكن قاحلة ولا مهجورة. كان يسكنها شعب ناضل ضد الاحتلال الأجنبي (الانتداب البريطاني) وناضل ضد الصهيونية والاستيطان اليهودي الذي هدد وجوده، وما كاد الاحتلال البريطاني ينصرف حتى وجد هذا الشعب نفسه في صراع مميت وقاتل ضد الصهيونية التي شردته من وطنه وسيطرت على أرضه وهدمت مدنه وقراه وأقامت الدولة اليهودية في حدود لم يعترف بها وعلى أرض في معظمها ليست ملكا لليهود. فهل يستطيع المثقف اليهودي الأخلاقي التعايش مع هذا الواقع المستمر منذ أكثر من نصف قرن؟
مأساة اللاجئين الفلسطينيين من عام النكبة لا يمكن أن تبقى خارج الحوار، فما هو استعداد المثقف الاسرائيلي للتحدث في هذه القضية؟
ما يخيف الاسرائيليين، وعلى رأسهم المثقفون، في الحديث عن حق العودة هو ان يفقدوا دولتهم اليهودية، أي أن عودة أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني الى حدود الدولة اليهودية يعني تحويلها الى دولة ثنائية القومية من جهة، ومن جهة أخرى فان اعادة البيوت الى أصحابها تعني فقدانهم لمساكنهم، أي اقتلاعهم من البيوت التي يسكنونها. وهذا يعني بالنسبة لهم تهديدا لمجرد وجودهم.
هكذا يفهم معظم الاسرائيليين ، وعلى رأسهم المثقفون وقوى اليسار، حق العودة.
العودة حق مشروع، قانونيا واخلاقيا، وهذا الخوف مشروع أيضا، فمن حق كل انسان ان يخاف على مصيره ووجوده، فكيف يمكن التسوية بين الحق المشروع والخوف المشروع؟
كيف يمكن التسوية بين حالة سياسية وبين حالة سيكولوجية؟
لم ينجح السياسيون من كلا الطرفين، في الوصول الي معادلة تؤدي الى هذه التسوية، ولذلك هيمن في السنوات الأربع الأخيرة خطاب الطريق المسدود الذي ادى الى حالة اليأس وتفجير كل المحاولات التي من شأنها أن تقود الى تفاهم.
في حوار المثقفين الذي ينبغي أن يقوم، بطبيعة الحال، على قاعدة أخلاقية يجب أن تطرح هذه المسألة كقضية لا تعني طرفا واحدا فقط، بل تعني الطرفين، تماما مثل تصفية الاحتلال.
مأساة الانسان الفلسطيني المشرد هي في صلب عذاب الاسرائيلي الذي يسكن في بيته. لكي يكون هذا الاسرائيلي انسانيا عليه ان يعترف أولا بلاانسانيته، لا انسانيته في خلق الحالة التراجيدية للآخر.
حق العودة ليس مسألة من شأن الفلسطيني فقط، بل من شأن الاسرائيلي أيضا، اذا كان يريد الوصول الى سلام مع ذاته. الاعتراف بحق العودة هو خلاص من حالة التشرد عند طرف والخلاص من عذاب الضمير عند الطرف الآخر.
أي لقاء بين المثقفين الاسرائيليين والفلسطينيين، اذا لم يعنون بأحد عنواني: تصفية الاحتلال وحق العودة، أو الاثنين معا، فلن يكون مجديا.