المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قبل وصوله الى باريس في زيارة رسمية استمرت ثلاثة ايام، قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ان بلاده تنظر الى «عملية» التفاوض مع الاتحاد الاوروبي نظرة مهمة جدا، ولا تعارض اذا طالت المفاوضات عشر سنوات. كان في ذلك يرد على تصريح للمستشار الالماني غيرهارد شرودر، الذي قال ان الاتحاد الاوروبي قد يعطي موافقة مشروطة على انضمام تركيا الى عضويته.

وتزامن وصول اردوغان الى باريس مع الازمة التي افتعلها رئيس الوزراء الاسرائيلي، اريئيل شارون، مع فرنسا عندما دعا اليهود الفرنسيين للهجرة الى اسرائيل ومغادرة «البلاد المعادية للسامية»، مما حمل الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى القول ان زيارة شارون الى باريس غير مرحب بها.


صبت هذه الازمة في الخط السياسي الذي يتبعه اردوغان تجاه اسرائيل، وبدا وضوح هذا الخط الاسبوع الماضي عندما وصل ايهود اولمرت نائب شارون الى انقرة، في زيارة مؤجلة من شهر مايو (ايار) ورفض اردوغان استقباله متذرعا بقضاء عطلة قصيرة، رغم ان اولمرت صرح انه يحمل رسالة من رئيس الوزراء الاسرائيلي الى نظيره التركي، غير ان اردوغان فضل ان يبعث برسالة الى اسرائيل من خلال استقباله لرئيس الوزراء السوري ناجي العطري، الذي كان وصل الى انقرة قبل ساعات قليلة من وصول اولمرت. وقال اردوغان في مؤتمر صحافي مشترك مع العطري: ان حلا عادلا للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي هو الشرط الاساسي للسلام في الشرق الاوسط.


ولا يبدو ان اولمرت استطاع ان يهضم هذه المعاملة فصرح قبل مغادرته انقرة، انه ليس في استطاعة تركيا او اي دولة اخرى في هذه المرحلة، ان تساهم في رعاية السلام ما بين اسرائيل وجيرانها في الشرق الاوسط «لأن تل ابيب ليست في صدد التفاوض مع الفلسطينيين ولا ترى ان خلافها مع سوريا يحتل اولوية الاهتمامات»، ثم دافع عن بناء الجدار الذي انتقدته انقرة وقال: ان قرار محكمة العدل الدولية كان «نصيحة سيئة»، قررت اسرائيل عدم الاخذ بها.


كم تغيرت الظروف والاوضاع خلال الستة اشهر الماضية، فعندما قام الرئيس السوري بشار الاسد بزيارة انقرة في بداية هذه السنة، رأى في الحكومة التركية استعدادا للقيام بمهمة تسهيل السلام بين دمشق وتل ابيب، لكن الاسبوع الماضي ومع وجود اولمرت والعطري في انقرة، فإن هذه لم تأت على ذكر اي كلمة تتعلق بتسهيل المفاوضات بين دمشق وتل ابيب، لا بل تسرب ان اردوغان ينوي زيارة دمشق قبل انتهاء العام.
لقد شعر المسؤولون الاتراك ومعهم الرأي العام التركي، انهم غير قادرين على استيعاب الاجراءات المتعسفة التي تقدم عليها اسرائيل ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، والذي اثار غضب اردوغان كان اغتيال الشيخ احمد ياسين، فهو كان يعتبره زعيما دينيا وسياسيا، وازعجه جدا اغتيال رجل مقعد لحظة مغادرته المسجد. ووصف اسرائيل في حديث اعطاه لصحيفة «هآرتس»، بـ«الدولة الارهابية».


والذي اثار انقرة اكثر، كان ما لاحظه بعض مسؤوليها الامنيين في شمال العراق من وجود مجموعة صغيرة من الضباط الاسرائيليين يشرفون على تدريبات عسكرية هناك، فاتصل مكتب وزير الخارجية التركي عبد الله غول بالصحافي سيمور هيرش ووجه اليه دعوة لتناول الفطور مع الوزير في السابع والعشرين من شهر مايو الماضي، وهكذا صدرت مجلة «النيويوركر» في نهاية شهر يونيو (حزيران) وفيها تفاصيل التحركات الاسرائيلية في شمال العراق.


اسرائيل نفت الخبر، لكنها لم تستطع ان تخفف من القلق التركي من عودة اشتعال جبهتها الجنوبية بالمتمردين الاكراد. بالمقابل، اعلن اردوغان اثناء زيارة العطري ان سوريا سلمت تركيا 59 مقاتلا من اعضاء حزب العمال الكردي خلال السنتين الماضيتين. وحسب مصدر تركي، فإن المسؤولين بحثا سبل تعاون اضافية لمحاربة المجموعات المتمردة واتفقا على اجراءات تتعلق بالحدود بينهما. وحسب محدثي، فإن سوريا المتوترة علاقتها مع فرنسا بالذات، رأت ان تحسن علاقاتها اكثر مع انقرة قبل توجه اردوغان الى باريس، فقررت ان تقلص من مطالبتها بمياهها الاقليمية في المتوسط من 35 ميلا الى 12 ميلا، «لتخفيف التوتر مع انقرة»، التي اعلنت عن خطة لفتح اربعة ممرات جوية بين تركيا وسوريا. ويضيف محدثي، ان القلق من عودة التمرد الكردي/التركي يحرك اتصالات تركيا مع كل من سوريا وايران والعراق، وهي نجحت في التوصل الى تعاون حقيقي مع هذه الدول، «وقد لا يعني هذا ان حزب العمال الكردي قد ضعف، فهو نجح أخيرا في تجنيد 2000 مقاتل داخل تركيا لاستئناف المعارك، لكن انقرة ترى انها اذا استطاعت ضمان تعاون الدول الثلاث، فإنها تحرم الحزب الكردي من ايجاد ملاذات آمنة له مما يسهل الامر على جيشها في العمليات العسكرية المتوقعة».


كل هذه الاهتمامات لا تخفف من ان التركيز التركي الاساسي يبقى على اوروبا وعلى فرنسا بالذات. ورغم ان دعم بريطانيا والمانيا لعضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي قيم جدا، الا ان فرنسا ضرورية لأنها ما زالت تقول ان تركيا ليست جاهزة بعد. اما لماذا الاصرار التركي على قبول عضويتها في الاتحاد الاوروبي، فيقول لي مرجع فرنسي، ان الحكومة التركية في صدد تغيير تحالفاتها الجيو ـ سياسية بعيدا عن الولايات المتحدة، والهدف هو زيادة نفوذها في العالم العربي والدخول الى النادي الاوروبي. «هذا لا يعني ان تركيا ستدير ظهرها نهائيا للولايات المتحدة، فالدولتان ستحافظان على مستوى معين من التعاون، الا ان الحكومة التركية المعتدلة اسلاميا في حالة تطور لتصبح لاعبا مستقلا». ويتوقع محدثي انه في السنوات المقبلة ستصبح اوروبا هي البديل لاميركا بالنسبة الى تركيا، «صحيح ان اوروبا لا تتمتع بالقوة المالية الاميركية، وحرصها على حقوق الانسان قد يجعلها شريكا غير مريح، الا انها توفر زخما سياسيا اكثر لتركيا وتدريجيا تخفف من اعتماد تركيا على الولايات المتحدة».


لم تعد الحكومة التركية ترى ان مصالحها الوطنية متداخلة بالمصالح الاميركية، اذ برزت ضمن المؤسسة العسكرية اجيال شابة جديدة من الضباط، ولم تعد هناك اخطار مباشرة من الدول المجاورة، ثم ان وجود حكومة اسلامية غير متطرفة في انقرة، وبروز قوة الاكراد في العراق، يجعلان تركيا والولايات المتحدة على مفترقي طرق. لقد زالت تقريبا اسباب التقاء الدولتين، انتهت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وتغيرت ايران الشاهنشاهية وجاءت حكومة اريئيل شارون في اسرائيل وانتهت العداوة مع سوريا ايضا.


عندما شنت الولايات المتحدة «عاصفة الصحراء» عام 1991 على العراق ورغم دعم انقرة وترحيبها بإضعاف العراق، الا انها تعرضت لخسارة بلايين الدولارات ولم تلق تعويضا من واشنطن، كما ان الملاذ الآمن لشمال العراق ساعد حزب العمال الكردي على شن عمليات داخل الاراضي التركية، الامر الذي ادى بالجيش التركي الى التوغل في الاراضي العراقية واقامة قاعدتين له هناك.
وهناك تطوران لافتان في تركيا الآن، حسب ما يقول المصدر الفرنسي، الاول هو ان تأثير كمال اتاتورك بدأ يخفت «فعندما حوّل اتاتورك ما تبقى من الامبراطورية العثمانية الى الدولة التركية فعل ذلك على اساس العلمانية وفكرة الهوية التركية/ المعارضة للكردية. وعلى مر السنوات اطاح العسكر بكل الحكومات المدنية التي زاحت قليلا عن مفهوم اتاتورك. لكن بعد مرور 64 سنة على وفاة اتاتورك، قرر الرأي العام التركي التطلع الى المستقبل وكذلك شريحة كبيرة من العسكر انفسهم، وهذا يطرح للنقاش الآن مرحلة الاتاتوركية، التحالف مع اميركا، العلمانية المطلقة وحقوق الاكراد.
التطور الثاني ان حزب العدالة والتنمية وصل الى الحكم عام 2002، بانتصار ساحق، وتختلف هذه الحكومة عن حكومات الائتلاف التي كان العسكر يطيح بها. ونجح اردوغان في تثبيت الاقتصاد التركي، ثم انه حارب الفساد ـ وقد سمعنا أخيرا احالة رئيس الوزراء السابق مسعود يلماظ الى المحاكمة بهذه التهمة ـ واقام علاقات قوية مع اوروبا، واقنع العسكر بأن حزبه لا يهدد العلمانية، وبدأ يحيد عن سياسات تركيا «الجامدة»: العلاقة الوثيقة مع اسرائيل والنفور من العالم العربي، ثم ان الحرب على العراق كشفت ان واشنطن لا تأخذ المصالح التركية في الحسبان.

في ظل افضل الظروف، فإن عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي لن تتحقق قبل عام 2010، وتركيا لا تريد ان تنسف علاقاتها مع الولايات المتحدة، لأن التقارب مع واشنطن يوفر لها دعما اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، والقواعد العسكرية الاميركية في تركيا ستبقى لسنوات، لكن التعاون الحيوي بين الدولتين سيخف تدريجيا. اما بالنسبة الى اسرائيل، فيختصر محدثي الفرنسي مستقبل العلاقة بين تركيا واسرائيل بـ«الطلاق»، خصوصا ان تركيا بدأت تلغي صفقات عسكرية مع اسرائيل لصالح الدول الاوروبية، وتخفف من مستوى التمثيل الديبلوماسي، ورغم المعارضة الصامتة للمؤسسة العسكرية الا ان حكومة اردوغان واثقة ان التأييد الشعبي لسياساتها وبروز طبقة جديدة من الضباط غير المتأثرين بهوس الحرب الباردة والمصالح مع اسرائيل، ستجعل من الممكن التحكم وبهدوء بمعارضة المؤسسة العسكرية للتحولات الجديدة.

(عن "الشرق الأوسط")

المصطلحات المستخدمة:

اريئيل, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات