المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما حققه الشاعر محمود درويش والروائي اميل حبيبي والممثل محمد بكري هو طموح أدباء وفناني عرب اسرائيل جميعاً: ان يعرف القارئ أو المشاهد العربي أعمالهم ويتفاعل معها وأن يتواصل معهم المهتمون في أوروبا وأميركا فيروا من خلالهم معاناة سكان فلسطين الأصليين وحيويتهم.
لكن عرب اسرائيل لا يمكن أن يبرزوا جميعاً كأفراد وانما ككتلة تؤكد هوية مستمرة ومتطورة. ونقطة الانطلاق من معنى الهوية: هناك من يتمسك بالتعريف "عرب اسرائيل"، معتبراً ان الدولة العبرية تضم شعوباً متعددة (وافدة) ومن بينها العرب (الأصليون).

ويعترض كثيرون مفضلين التعريف بأنهم "فلسطينيون" فيرتبطون بامتدادهم الطبيعي مع اخوانهم فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، فيما يرى آخرون أنهم "مسلمون" للانتماء الى عالم أوسع يساعد على الموازنة مع اليهود، لأن اليهودية أساس ايديولوجية دولة اسرائيل على رغم شكلها القانوني العلماني. وثمة قلة من المثقفين تدعو الى هوية قديمة جداً فتجاهر بأن فلسطين الكنعانية تواجه الغزو اليهودي كما واجهت من قبل "الغزو" العربي الإسلامي.

وفـضـلاً عن مسـألة الهـوية (في المـمارسة لا في النقاش) هناك لدى أدباء عرب اسرائيل مسألة اللغة، فإذا استـثنينا محـمود درويش المتفاعل مبكراً مع لغة الحداثة اللينة الرهيفة المختزلة القصيرة الجُـمل كمـا بـرزت في مـدرسة بيـروت (أدونـيس ونزار قباني ومن قبلهما سعيد عقل)، نجد أن الشعراء والكتّاب الذين برزوا مع درويش وقبله كانت لغتهم ولا تزال كلاسيكية جانحة نحو الصيغة الأدبية التراثية، ولهذا سببان: الأول أن المقاومة الثقافية تستدعي التأكيد على النص الثابت المعترف به والمجمع عليه والذي لا يحتمل أي مغامرة (فالمغامرة اللغوية هنا تشبه المغامرة بمصير مجتمع وهـوية شـعب)، والـسبب الثاني هو أن عرب اسرائيل عاشوا أكثر من أربعة أجيال في عزلة، فلم يقرأ أكثرهم سوى كتب قديمة كان صلتهم الوحيدة بالثقافة العربية، ما أثّر في كتابتهم وجعـلها تجـنح بشـكل عفوي الى الكلاسيكية، وهذا ما نراه في لغة اميل حبيبي الروائي وتوفيق زياد الشاعر وكذلك في لغة سميح القاسم الشاعر أيضاً. فلما انفتح عرب اسرائيل على مصر والأردن والضفة الغربية وغزة بعد معاهدتي السلام واتفاق أوسلو، تعزز تواصلهم مع جديد الثقافة العربية، وترافق الانفتاح مع انتشار الانترنت الذي يتحقق من خلالها التواصل عبر الحدود أياً كانت درجة إقفالها.

بذلك يتعزز الوعد بأن النص الأدبي لدى عرب اسرائيل سيكون أكثر انفتاحاً على الحداثة، لكن الدكتور فاروق مواسي يستصعب هذا الوعد، فقد أنشأ وزملاء له مجمعاً للغة العربية في اسرائيل يهدف بشكل خاص الى حفظ هذه اللغة لدى الأجيال الجديدة، تلك التي يدفع بها المجتمع الاسرائيلي الكوسموبوليتي الى اعتماد الانكليزية في الكتابة والتعبير والابتعاد عن العربية الفصحى والاكتفاء بالعامية صلة وحيدة بالأهل، والى هجرة في مستويين، هجرة اللغة أو نحو أماكن اقامة أخرى كبريطانيا والولايات المتحدة. وقابل مواسي وزملاؤه الدكتور شوقي ضيف (رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة) فأثنى على عملهم وزودهم أبحاثاً ودليلاً الى العمل المجمعي، لكنه رفض لأسباب سياسية السماح بحضورهم اجتماعات المجمع المصري وتلك التي تعقدها في القاهرة المجامع العربية مجتمعة.

وربما يشكل فاروق مواسي نموذجاً للمثقف العربي - الفلسطيني في أراضي 1948، فهو مثل الكثيرين من زملائه يمارس مهنة التعليم، ويجهد ليصبح استاذاً جامعياً (وقد تحقق له ذلك)، وهو وثيق الصلة باليهود القادمين من العراق الذين يشغلون مراكز بارزة في الجامعات الاسرائيلية، خصوصاً في مجال الدراسات العربية والإسلامية، وهو يزور سنوياً معرض القاهرة الدولي للكتاب فيحمل معه صناديق من الكتب العربية لتكون في متناوله ومتناول زملائه في اسرائيل، وهو يحاول عقد صلات مع الأدباء العرب وفي الوقت نفسه يتفهم تحفظهم لأنه يحمل الهوية الاسرائيلية. وفي كتابه "أقواس من سيرتي الذاتية" فصول عن تلهفه لمقابلة أدباء كنجيب محفوظ ويحيى حقي وتقصيه بعض الكتب المفقودة وحضوره مناقشات رسائل للدكتوراه وزيارته معالم مثل منزل عباس محمود العقاد في أسوان، كل ذلك كناية عن الخروج من العزلة وسعي للاتصال بـ"أهل اللغة العربية وحضارتها".

في معرض الكتاب في القاهرة هذا العام كان فاروق مواسي يتعجل عودته الى قريته "باقة" في منطقة المثلث، هناك يأنس الى التراب والنبات وما تبقى من البيوت القديمة، وليس له سوى انتظار نهضة في العالم العربي لينهض. إنه عيش المنتظرين وانتاج أدب الانتظار لا غير. "الحياة" – لندن، 5 آذار

المصطلحات المستخدمة:

دولة اسرائيل, المثلث

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات