أمضت إسرائيل شهوراً تطالب الولايات المتحدة بتأجيل الإعلان عن <<خريطة الطريق>>.
أوحى ذلك أن القبول مبتوت ولكن المشكلة في التوقيت. ولكن بعد الحرب على العراق، ولإسرائيل فوائد جمّة فيها، وبعد الإعلان عن <<الخريطة>>، باتت واشنطن هي التي تطالب أرييل شارون... بعدم الرفض. وبهذا المعنى يمكن القول إن مهمة كولن باول ناجحة
. لقد انتهى <<القطوع>> دون أن تصدر كلمة <<لا>> حاسمة من تل أبيب!
لم يكن في وسع وزير الخارجية الأميركية تحقيق الأكثر. فلقد سبقه إلى إسرائيل إثنان من ليكوديي البيت الأبيض. وتحدد موعد لشارون مع جورج بوش بما يقلّل من أهمية المحطة الإسرائيلية في الجولة. وتكفّل الرئيس الأميركي بالباقي إذ انتظر وصول باول إلى المنطقة من أجل إلقاء خطاب تفصيلي لم يخلُ إلا من ذكر <<الخريطة>>.
عندما يدقق شارون في الخريطة فهو لا يرى إلا نصاً ملأه الأوروبيون والروس وموظفو الأمم المتحدة بالسموم، ووجدوا فيه طريقة مبتكرة لمواصلة رهانهم على تدمير إسرائيل والتعبير عن <<لا سامية>> متأصلة فيهم. ولكن التوقيع الأميركي يجعله يتبع خطة ملتوية للتهرّب من التنفيذ. وتقضي هذه الخطة بتحويل <<ولكن>> إلى استدراك قاتل لل<<نعم>>. ولعل <<التراجع>> الذي أقدم عليه هو بذل الجهد المطلوب من أجل <<حشر>> المئة تعديل المطلوبة في خمسة عشر عنواناً. وزاد على ذلك بالسماح لوزير خارجيته سيلفان شالوم بأن يصرّح في لندن بأن ما يراه البعض <<تعديلات>> ليس أكثر من <<مساهمات>> يُراد لها <<إغناء>> الخريطة!
استبشر بعض السذج خيراً عندما أوحى شارون قبل شهر أنه مستعد لصفقة. غير أنه تراجع تماماً عن كل ما قاله. فهو، إذ يوافق على <<تنازلات مؤلمة>> يترك لنفسه تحديد اللحظة التي يبدأ يشعر فيها بالآلام. وبما أن كلمة <<تنازلات>> توحي بالطوعية فإن من حق شارون أن يرفض مطالبة الآخرين له بإنزال الألم بنفسه. فالرجل يعتبر، في قرارة نفسه، أن اجتماعاً يعقده اليوم مع أبو مازن هو <<تنازل مؤلم>> ولذا يمارس حقه بالإصرار على تخفيف الألم. لا يريد أن يرى صائب عريقات حتى لا يتذكر ياسر عرفات. يريد من الوفد الفلسطيني أن يأتيه مستعداً، ودفعة واحدة، لإعلان حرب أهلية، ولإلغاء حق العودة، ولمنع التحريض، ولبدء تحرير الشعب الفلسطيني من عرفات... لكنه يرفض، في المقابل، التلفظ باسم <<خريطة الطريق>> (هل هي شتيمة؟ كما تساءل وزير الخارجية المصرية أحمد ماهر). وعندما يفاتحه أحد بضرورة وقف الاستيطان يرد معلناً معارضته ل... الإجهاض! ويعني ذلك أنه لا ينوي مخالفة تعاليم دينية عزيزة على قلب بوش وتقضي بتحريم تحديد النسل للمستوطنين والمستوطنات. يطالب شارون الفلسطينيين بتطبيق التزاماتهم في <<خريطة الطريق>> وكأنها تعهدات مقدسة. ولكنه يتصرّف، حيال الخريطة نفسها، وكأنها غير موجودة. يفعل ذلك لإدراكه أن الوثيقة المشار إليها تملك <<وظيفة>> لا علاقة لها بوضعها موضع التطبيق.
الوظيفة الأميركية الإسرائيلية للخريطة، كما مارسها باول ويمارسها شارون، هي الضغط على الآخرين للتراجع. فباسمها تتوجه المطالب إلى سوريا ولبنان وإيران والسلطة الوطنية من أجل تنفيذ جدول أعمال كثير البنود. وباسمها يُصار إلى تجديد الدور المصري. وباسمها يمكن لوزير خارجية قطر لقاء نظيره الإسرائيلي. وباسمها يتمكّن الأوروبيون من الإيحاء لأنفسهم أنهم يلعبون دوراً فيحملون نسخاً منها، ويروحون يوزعونها، ويجرون الحوارات حولها.
وللخريطة وظيفة عراقية. فالنقاش الدائر في مجلس الأمن حول موضوع رفع العقوبات، وإعادة رسم الأدوار، وتقسيم العمل، وجرّ روسيا وفرنسا وألمانيا إلى الموافقة على الموقع الدوني الجديد، إن هذا النقاش يكون أسهل، من وجهة نظر واشنطن، إذا جرى التظاهر بأن دوراً ما ينتظر هذه القوى في عملية التسوية في الشرق الأوسط. إن طوني بلير وخوسيه أزنار سيكونان أقوى حيال جاك شيراك وغيرهارد شرودر في ما يخص العراق وهما يلوّحان ب<<خريطة الطريق>>.
وكذلك بوش حيال فلاديمير بوتين. لذا فإن المطلوب ليس أكثر من تقطيع الوقت وتوفير أفضل مناخ ممكن للمهمة الأميركية الراهنة في العراق: تشريع الاحتلال عبر تدويل شكلي. وإذا كان صمت شارون مطلوباً في فترة الحرب فإن المطلوب الآن ليس أكثر من الامتناع عن إطلاق رصاصة الرحمة على <<الرباعية>> و<<وليدتها>>.
لا يمكن استبعاد خطوات جزئية وتجميلية يقدم عليها شارون. ولكن لا يجوز توقع ضغط من بوش عليه في اجتماعهما بعد أيام (الثامن!). فالرئيس الأميركي ليس في وارد مكافأة <<الإرهاب>> الفلسطيني ثم أنه قد يكتفي، الآن، باستكمال عملية تحرير الشعب العراقي (بعد الأفغاني) وليس في وسعه، عشية انطلاق الحملة الرئاسية، أن يمضي جلّ وقته بإسعاد شعوب المنطقة على حساب ناخبيه.
<<إن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني قضية أمنية أساسية نتقاسمها على ضفتي الأطلسي. ومع انتهاء الجزء الرئيسي من المعارك في العراق فإن على الرباعية التي تجمع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأيضاً، روسيا والأمم المتحدة، إن عليها إعادة إطلاق العملية السلمية التي حددها الرئيس بوش في حزيران 2002. إن مفتاح النجاح... يكمن في الإجراءات التي لا تضمن أمن إسرائيل فحسب وإنما تحدد شكل الدولة التي يطمح إليها الفلسطينيون في نهاية الجدول الزمني الذي حدده الرئيس>>.
هذا مقطع من مقال عريضة كتبه مسؤولون أميركيون سابقون من الحزبين بينهم: مادلين أولبرايت، زبغنيو بريجنسكي، وارن كريستوفر، وليام كوهن، سام نان، فرانك كارلوتشي، روبرت دول، لورنس إيغلبرغر، ألكسندر هيغ، لي هاملتون، بول أونيل، جيمس شليسنغر، إلخ... المقال مخصص للدعوة إلى إعادة ترميم العلاقات الأوروبية الأميركية والحفاظ على الروابط الأطلسية المهددة. وهو يستحق نقاشاً في ذاته ولما يتضمنه من سجال ضمني مع <<غلاة>> أميركيين يتوزعون بين تقسيم أوروبا إلى <<قديمة>> (معادية) و<<جديدة>> (حليفة) وبين الدعوة إلى انفراد أميركي كامل لا يقيم وزناً للقارة القديمة كلها.
إن زيارة شارون، الثلاثاء، إلى واشنطن مناسبة لاكتشاف قدر التأثير الذي تمارسه هذه النخبة على إدارة بوش. وليس من المستبعد أن تتحول الزيارة إلى مناسبة تساعد كل متردد على الحسم: نحن أمام ولايات متحدة جديدة لا مكان عندها لأي توازن ولو في حده الأدنى.
(السفير، بيروت 17 ايار)