المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مرة أخرى تحلّ بالعرب هزيمة نسمّيها نكبة، فجيعة، كارثة، مأساة، زلزال، بل يُقال كأن ما كان، كان إكذوبة كبرى. وها نحن ندخل في حالة إحتلال آخر تذكّرنا بأننا نعيش تراجيديا متواصلة لا نعرف متى تنتهي وماذا ستكون نتائجها. ومهما كان، لا بدّ لنا، كما حدث إثر كل فجيعة، من التساؤل: كيف نفهم ما حدث وما أسباب هزائمنا وما العمل للخروج من الحالة التي وصلنا إليها؟


أفهم الحرب على العراق وما تبعها من تهديدات لسورية على أنها جزء من عملية فرض الإستسلام على العرب، وهي في صيغتها الحالية بداية لتحقيق خطة إستراتيجية طويلة الأمد أعدّ لها منذ زمن المحافظون من يمينيين أصوليين وصهاينة، أو من نسميهم صقور أميركا وصقور إسرائيل مجتمعين. برز اليمين الإسرائيلي المتطرف بشخص نتانياهو أولاً ثم شارون باعتبار أن كلاً منهما يجسّد فكرة "الغولم المنقذ" الذي يَعِدُ بأن يضمن لإسرائيل الأمن والتوسّع باستعمال وسائل البطش في أبشع أشكاله وأكثره وحشية، كما تمكّنت حركة أميركية منظّمة من اليمينيين المتدينين متحالفة مع الصهيونية العالمية من توظيف "روبوت" مبرمج بشخص جورج بوش الإبن الذي هو بين أقرب ما يكون إلى كائن آلي في الكثير من تصرفاته وتصريحاته واسلوب إدائه للصورة التي يُفترض أن يبرزها لنفسه. في كل هذا يبدو واضحاً أنه لا يملك القدرة على التفكير المستقل بحيث تتمكّن من خلاله من شنّ حرب على العراق، للقيام بترتيبات تؤمّن لها فرض هيمنتها الكلية على المنطقة. وفي نهاية المطاف، يُراد للعرب الرضوخ الكلي للمشيئة الأميركية والإسرائيلية.

وكان أن إختار بعض الحكّام العرب قبل الحرب طريق الإستسلام والتوسُل فرضخوا مسبقاً للإرادة الأميركية وتعاونوا، كما طلب إليهم. ومهما كانت مسوّغات سلوك طريق الإستسلام، تفاجأ بعض هؤلاء الحكام بأن عدداً من بلدان وشعوب أوروبا كانوا أكثر غِيْرَة منهم على مصير العراق وشعبه، فبدوا أمام أنفسهم بالتالي كما لو انهم يحضرون مسرحية تدور حول أوضاعهم وحياتهم هم بالذات وهم لا يدرون ما يحدث. يدخلون المسرح، يراقبون المسرحية التي تعرض عليهم دون معرفة بمن المؤلف والمخرج والمنتج، ويخرجون منذهلين ليستأنفوا حياتهم كما إعتادوا وفُرِضَ عليهم أن يتخلّوا عن مسؤولياتهم التاريخية. لقد سُلبتْ عقولها من القدرة على التفكير المستقل ومن إرادتها الحرة فقبلت أن تضع نفسها في سجن الخوف وأغلقت النوافذ على نفسها وعلى شعوبها.

إختارت كل من إدارة بوش وحكومة شارون طريق الحرب لا طريق السلم إنطلاقاً من مبدأ فرض إرادتهما بوسائل القوة وليس مبدأ التوصّل إلى تسوية سلمية عادلة. ولم يعد من المعروف هل أميركا صورة للعنف الإسرائيلي، أم إسرائيل صورة للعنف الأميركي. إن علاقة أميركا بإسرائيل هي علاقة إستراتيجية، ومن قواعد هذه الاستراتيجية إعتماد سياسة الحرب الإستباقية. ولهذا لا يشعر الصهيوني الأميركي أن عليه أن يختار بين الولاء لأميركا والولاء لإسرائيل. هذا تماماً ما شجّع وزير الدفاع الإسرائيلي لأن يصرّح في منتصف إبريل (نيسان) لصحيفة "معاريف" في تل أبيب بقوله: "لدينا لائحة طويلة بالقضايا التي نطالب بها السوريين، ويكون من الأفضل تحقيقها من خلال الأميركيين" (راجع مقالة روبرت نوفاك في الواشنطن بوست بتاريخ 17/4/03). ليس ما تتوقّعه إسرائيل من أميركا بالأمر الجديد. كثيراً ما حقّقت أهدافها من خلال أميركا، وليس غريباً أن يُعيّن الجنرال المتقاعد جاي غارنر حاكماً للعراق، وهو الذي زار إسرائيل بدعوة من المعهد اليهودي لشؤون الأمن ووقّع على رسالة من هذا المعهد تمتدح شارون ومعاملته للفلسطينيين. كلاهما، الإدارة الأميركية والقيادة الإسرائيلية، تمارسان نزعة الهيمنة التسلطية وفرض حلول لا تقبل النقاش.

كنتُ قد أظهرت في مقالة سابقة قبل سنة تماماً كيف خلقت إسرائيل "غولم" متوحش يتمثّل بشارون الذي وعد بأن ينقذها باللجوء الى إستخدام وسائل البطش كافة (الحياة 11/4/2002)، وعليّ هنا أن أوضح كيف تمّ خلال هذا الوقت في أميركا إختراع الـ "روبوت" المبرمج بهدف شنّ الحرب على العراق للإستيلاء على موارده وإعادة رسم خريطة المنطقة وتمكين إسرائيل من فرض الإستسلام على الفلسطينيين. وفي كلامي عن اختراع هذا الـ"روبوت" في المجتمع الأميركي، أريد أن أشير خصوصاً إلى أن الكثيرين ممن إنتخبوا جورج بوش الإبن رئيساً كانوا يدركون في حينه أنه ليس مؤهلاً لهذه المهمة خصوصاً في مجال السياسة الخارجية، ولكنهم كانوا يسوّغون عزمهم على إنتخابه بقولهم بأن نواة من الخبراء في الشؤون السياسية الخارجية ستحيط به وتوجّهه في الطريق السليم، من وجهة نظرهم.

وفعلاً، تكوّنت نواة من هؤلاء الخبراء تجمع بين يمينيين إنجيليين وسياسيين تقليديين محافظين لا يترددون في إستعمال وسائل فاشية في الأزمات، من أمثال وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس تشيني. وقد إستولت على مهمات التخطيط نواة من الصهاينة في البنتاغون ومنهم ريتشارد بيرل وبول ولفوفيتز ودوغلاس فيث وروبرت ساتلوف وإدوارد لوتويك ودوف زاخم، وعدد آخر في البيت الأبيض بينهم إليوت أبرامز ومارك غروسمان وآري فلاتشر، فانتقل مركز الثقل في رسم السياسة الخارجية من وزارة الخارجية الى وزارة الدفاع والبيت الأبيض. ومما سهّل هيمنة هؤلاء الصقور ميل وزير الخارجية كولن باول الى التردّد في إتخاذ موقف حازم. يلعب يوماً دور حمامة ويوماً دور صقر، ويوماً لا هذا ولا تلك. ولم يكن غريباً أن يصل الى حيث هو الآن، فليس معروفاً عنه أنه إهتم بشؤون شعبه من الإفريقيين الأميركيين وإنما أقام صرح مجده الخاص على حسابهم. إنه كائن عاجز لا يخرج عن طاعة سيده. وتفوقه كوندوليزا رايس في تنكّرها لقضايا شعبها.

هذه القوى مجتمعة هي التي إخترعت الـ"روبوت" المبرمج الذي يتمثّل بأحسن حالاته في الرئيس جورج بوش الإبن، فنجد انه يردّد في خطبه السياسية ما أملوا عليه من دون أن يكون له معرفة معمّقة بتعقيدات المشكلات السياسية الخارجية التي يتحدّث عنها. وبدعم من هذه الجماعات أمر بوش بشنّ حرب على العراق ليس من أجل تحريره، كما يتردّد في الإعلام الأميركي، بل لإحتلاله وتهديم بنيته ومؤسساته وفرض حكم أميركي مباشر لسنوات غير محدّدة. ومن الأكيد أنه لن يسعى الى إقامة دولة ديموقراطية في الوقت الذي بدأ يتخلّى عنها في أميركا نفسها بتركيزه على مسائل الأمن على حساب الحقوق المدنية، وببدء حملة ضد حركة الاحتجاج الأميركية بإتهامها أنها غير وطنية.

ومن خلال إعتماد بوش سياسة الحرب على العراق بدلاً من التقيد بقرارات مجلس الأمن يتبيّن واضحاً أنه في واقع الأمر مُوجَّه، كما قالت إفتتاحية لـ "نيويورك تايمز" (9/3/2003)، إلى "وضع نفسه في زاوية لا يمكن الخروج منها حتى أصبحت الحرب هي البديل الأخير المتاح للإدارة الأميركية ولم يعد بالإمكان التراجع عنها". وكما قيل له أن يفعل، كرّر مراراً من دون أن يقنع شعبه بأن هناك علاقة بين العراق و11 سبتمبر، وأصرّ على أنه أصبح من واجبه تدمير العراق كي يعيد بناءه.

وبهذا تصرّف على أن الحرب، لا الحلول الديبلوماسية، هي الخيار الأول. ومن الأدلة على أنه كان في كثير من الحالات أقرب إلى الـ "روبوت المبرمج " منه الى الإنسان المنفتح الذهن على إحتمالات إعادة النظر بمواقفه - على خلاف بعض رؤساء أميركا السابقين الذين كانوا يظهرون بمظهر المتأكدين من آرائهم علناً بينما كانوا أكثر تردّداً وتساؤلاً بينهم وبين أنفسهم وفي مجالسهم الخاصة. إن بوش هو هو علناً كما هو في خلوته بنفسه. (راجع مقالة تحليلية في الصفحة الأولى من "نيويورك تايمز" في 9/3/2003)

ولأن الرئيس بوش هو من النوع الذي لا يدخل في نقاش مع نفسه ولا يمارس التساؤل لكونه أيضاً ينطلق من مرجعية فكر ديني مطلق، لم يكن غريباً أنه صنّف مجتمعات العالم إلى متحضرة وغير متحضرة، وخيّرة وشريرة، وعليها أن تختار أن تكون ضده أو معه، وتوعّد من ليس معه بالعقاب الشديد. ومن هذا المنطلق الديني الأصولي يرى أن الأحداث التاريخية تتمّ، كما قال الكاتب جاكسون ليرز، على "يد إله عادل ومخلص" وأن "رئاسته جزء من خطة مقدّسة"، حتى أنه قال لصديق له عندما كان حاكماً لولاية تكساس أن "الله يريده أن يترشّح للرئاسة... وأوعز للولايات المتحدة بأن تقود حملة صليبية تحريرية في الشرق الأوسط"، (نيويورك تايمز في 11/3/2003). بل ذهب جاكسون ليرز في هذه المقالة الى القول بأن اللغة الدينية الأصولية كثيراً ما تستعمل في الثقافة السياسية الأميركية خصوصاً بين أنصار بوش الذين يؤمنون بأنهم يعملون بإرشاد إلهي و"ينفذّون إرادة الله". هذه هي بالذات الأصولية المسيحية التي تحرّض، بالتحالف مع الصهيونية العالمية، على الحرب في فلسطين وكانت وراء الحرب على العراق. هؤلاء الأصوليين يرون أنفسهم مسيّرين بقانون القوة المستمد من خارج التاريخ والإرادة البشرية.

ولذلك إستطاع بوش أن يتجاهل ما لا يتفق مع معتقداته ويمضي في غيّه في طريق الحرب ضد مشيئة الأسرة الدولية بمعزل حتى عن حلفاء أميركا التاريخيين. وفي هذا السياق قال الكاتب الإلماني غانتر غراس أن جورج بوش "أصولي يُقحم الله في الوقوف إلى جانبه. وبهذا يشكّل بوش خطراً على بلاده ويسيء إلى صورتها" (نيويورك تايمز في8/4/03).

وبقيادة بوش تصبح أميركا مسألة "قضاء وقدر"، ويبلغ الجبروت الأميركي حداً يمكّنه من التخلي عن أسس أخلاقية في شنّ حرب ظالمة تسيء الى الإنسانية جمعاء بما فيها إنسانية المجتمع الأميركي. وعزّز من هذا الإعتقاد الواسع الإنتشار أن الرئيس بوش لا يفرض عليك إحترامه لا بذكائه ولا بإطلاعه على أحداث العالم. ومما يثبت ذلك أن اللغة التي يجيدها هي أقرب إلى لغة الغطرسة المفرغة من أية مرجعية أخلاقية وإنسانية. لقد عرفت الإدارة الأميركية مسبقاً ان هذه الحرب ستؤدي إلى وقوع عدد كبير من الضحايا الأبرياء. ومع هذا تجاهلت الأمر لإعتقادها إن ما سيحدث هو في نظرها من مقتضيات الضرورة. مرة أخرى يعتمدون مبدأ الشر الضروري والمقولة الواسعة الإنتشار في الثقافة الأميركية بأن على الإنسان أن يفعل ما يكون عليه أن يفعله في تحقيق أهدافه.

كيف يكون، إذن، التعامل العربي مع هذا الوضع وقد إحتلت أميركا العراق وها هي تهدّد سورية وتتوقّع من الحكومات العربية التعاون في فرض هيمنتها؟ هذا سؤال بحاجة إلى دراسات معمّقة، خصوصاً أنه أصبح من الواضح في هذا السياق أن الحكومات العربية في غالبيتها العظمى معطّلة كلياً. تجاه هذا الوضع الذي أصاب الأنظمة العربية بالشلل، أصبحت المسؤولية التاريخية تقع على عاتق الشعوب العربية وأصبح من واجبها القومي أن تبادر من دون إبطاء إلى تحديد ما يمكنها أن تفعله لإنقاذ الأمة من النكبات التي تعانيها في الصميم. بكلام آخر، بعدما تخلّى الحكام العرب عن مسؤوليتهم واختاروا طريق الرضوخ، أصبح من واجب الشعب نفسه أن يملأ الفراغ ويحددّ دوره المطلوب في التغلّب على الأزمات التي تعصف بالعالم العربي قاطبة. وبمقدار ما يستمر وجود القوات الأميركية في العراق سيتعمّق الاقتناع بأنها قوات غازية ومحتلة ولا بدّ من مقاومتها. وفعلاً رفض رامسفيلد وضع جدول زمني للإنسحاب من العراق.

• روائي وعالم إجتماع - واشنطن.

الحياة، لندن، 2003/04/24

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, مركز

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات