المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في مطلع الثمانينيات التقت الراديكالية الأميركية (رونالد ريغان) بالراديكالية الإسرائيلية (مناحيم بيغن) في ظل تجدّد الحرب الباردة على صعيد عالمي وانكسار موازين القوى مع إسرائيل بعد كامب ديفيد. حوّل أرييل شارون هذه المعطيات إلى مشروع إمبراطوري صغير. سعى إلى طرد منظمة التحرير من لبنان، وتنصيب سلطة موالية، وإضعاف سوريا، وإلقاء القبض، نهائياً، على الضفة الغربية المحتلة. لم يكن يمانع في اقتتال أهلي في الأردن.


أخفقت الخطة في جوانبها الطموحة جداً. نهضت ضدها قوى دولية وإقليمية ولبنانية وأحبطت المغالي فيها. غير أن إسرائيل نجحت في إبعاد الفلسطينيين ودخلت عاصمة عربية.

إن هذا <<الإنجاز>> الإسرائيلي، في شقه الفلسطيني، وجد، بعد سنوات من يعتبره إنجازاً فلسطينياً. فالمعروف أن محمود عباس (أبو مازن) شكر شارون لأنه، بحملته اللبنانية، حرّر القضية الفلسطينية من ضغط الأنظمة العربية.

بعد عقد من الزمن وفي 1991 وقعت حرب الخليج في لحظة تحوّل في الوضع الدولي. أسفرت عن تصاعد ملموس في النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. اختارت واشنطن إتباع سياسة من شقين: الاحتواء المزدوج لإيران والعراق وعقد مؤتمر مدريد من أجل تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.

لم يكن هذا التوجه جذرياً كفاية في رأي اليمين الأميركي. ففي عرفه، منذ ذلك الوقت، أن المجال مفتوح، دولياً وإقليمياً، للذهاب أبعد ولاستغلال أشد فظاظة لنافذة الفرص من ذلك الذي نظّر له مارتن إنديك.

غير أن الوضع العربي المتفكّك فاق التوقعات الأميركية. لقد مارس البعض تخلياً عن الفلسطينيين شجع الأكثر <<انعزالية>> بينهم ولعب دوراً في الدفع نحو <<اتفاق أوسلو>>. وبعد <<وادي عربة>> سادت المنطقة تنويعات عديدة على دعوة <<شرق أوسطية>> تحتل فيها إسرائيل موقعاً راجحاً وتضبط المنطقة تحت سقف أميركي شديد الانخفاض.

إن <<غزة أريحا أولاً>> الذي ارتضته القيادة الفلسطينية هو تعبير عن <<نحن أولاً>>. غير أن هذه القيادة التسووية الوطنية استمرت تظهر ممانعة تجعلها تبتعد عن خيار الدوران الكامل في الفلك الإسرائيلي. ولقي هذا الخط دعماً من معسكر عربي تقوده مصر. فلقد بدت القاهرة مهتمة بدولة فلسطينية تشكل سداً يمنع التمدّد الإسرائيلي، عبر الأردن، نحو الشرق. كما أن مصر تصرفت على قاعدة أن كياناً فلسطينياً يؤمّن لها ركيزة مهمة في المشرق العربي باعتبار ذلك جزءاً من فهمها للأمن الوطني.

لقد بادرت إسرائيل إلى محاولة الخروج من أسار التسوية. ولكنها عادت إليها في ظل إصرار واشنطن على تسوية <<لا تفني الغنم العربي>>. لقد انتهت هذه الحقبة، عملياً، في مفاوضات كامب ديفيد وفي ظل قنابل دخانية كثيفة عن <<العرض السخي>> الذي قدمه إيهود باراك.

بعد عقد آخر من الزمن، وعند مفصل الألفية الثالثة، عادت الراديكاليتان الأميركية والإسرائيلية إلى الالتقاء وقد ازدادتا جذرية. ويحصل ذلك في ظل غياب الرادع الدولي، وفي ظل استكمال الوضع العربي انحداره برغم التماعات مهمة (الصمود الفلسطيني، الانسحاب من جنوب لبنان). وها هو شارون يتحوّل إلى مجرد لاعب في مشروع إمبراطوري يتجاوزه كثيراً وتتولاه الولايات المتحدة نفسها. فواشنطن لا تخفي رغبتها في إعادة هيكلة الشرق الأوسط كله من أجل حسم نفوذها فيه، وكسر العلاقات الدولية تماماً.

وحتى قبل المباشرة الأميركية في التنفيذ أقدم شارون على أداء القسط الخاص به فعاد إلى احتلال الضفة ملغياً بعض آثار ما تحقق في العقد الماضي. إلا أن المهمات الكبرى أميركية. والحرب على العراق خطوة أولى وشديدة الأهمية في الخطة الكبرى. فهذه الحرب، بدورها، وقياساً إلى نتائج 91 توحي بالمدى الذي يُراد الذهاب إليه.

ويأتي في سياق المشروع الجديد الاصطدام بكل ما عرقل الموجتين السابقتين اللتين ضربتا المنطقة بمعدل واحدة كل عقد. وبما أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً فإن هذه القوى المعرقِلة هي التيارات المقاومة في لبنان وفلسطين طبعاً، ولكنها، أيضاً، الممانعة السورية، والقيادة التسووية الوطنية الفلسطينية، والمفهوم المصري المعروف للأمن القومي، والتحفظ السعودي، ومفاعيل المؤسسة العربية الجامعة، وفكرة اللجوء إلى مجلس الأمن، والدور الأوروبي..

ليس غريباً، والحالة هذه، أن توظف الولايات المتحدة انتصارها العراقي من أجل تحويله إلى منصة انطلاق لمشروع إمبراطوري يستعيد شارونية الثمانينيات ويزيد عليها ويعطي لصاحبها دوراً تكميلياً مؤكداً.

لا يمكن النظر إلى التغيير في تركيبة السلطة الفلسطينية إلا من هذا المنظار. إن المقصود، هنا، ليس تشجيع من يتحمّس للتسوية بأي شروط، وينتقد الانتفاضة، ويرفض استخدام السلاح... إن المقصود، أكثر من ذلك. إن الهدف هو الاطمئنان إلى أن أي كيان فلسطيني جديد، خاصة إذا كانت واشنطن قابلته الوحيدة، لن يكون سداً يمنع إسرائيل من التمدّد، ولا رأس جسر لمصر، ولا دولة وطنية تبحث عن مستقبلها في الرهان على نهضة عربية ما، ولا تهديداً للأردن، ولا حائلاً دون اتصال حيفا أو تل أبيب ببغداد أو الموصل.

ليست المشكلة مع أبو مازن الموقف من <<عسكرة الانتفاضة>>، فهذه وجهة نظر. وليست المشكلة مع بعض المعارضة العراقية موقفها من النظام السابق، فربما تكون على حق. المشكلة هي أن الولايات المتحدة ترعى، في الحالتين، نزعة <<نحن أولاً>> التي لا ترجمة واقعية لها إلا تشديد الارتباط بالمركز الإمبراطوري على حساب أي شيء آخر. ومن يسترجع ما أخذته وتأخذه واشنطن على العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، ومصر، والسعودية، وإيران، سيلاحظ أنها تقاتل بشراسة كل اتجاه يغالب <<نحن أولاً>> أو يحاول ممارسة لا تقود، في مرحلة أولى، إلى الاستفراد الأميركي أو الإسرائيلي، من أجل أن تصل، في مرحلة لاحقة، إلى إعادة هيكلة لا يرتبط فيها عربي بعربي أو بمسلم إلا عبر الشروط الأكثر ضماناً للمصالح الأميركية.

لقد حاول شارون قبل عشرين عاماً مشروعاً إمبراطورياً كان فوق قياسه. إنه، اليوم، جزء من مشروع إمبراطوري يكاد يستعيد العناوين نفسها. أي أن المشروع الحالي أشد عتواً ولا تنبع القابلية على مقاومته إلا من كونه رافضاً لأي حل وسط أو، حتى، لربع حل!

(السفير، بيروت، 26/4)

المصطلحات المستخدمة:

مؤتمر مدريد, دورا, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات