المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1525

يمكن أن نضيف إلى جوانب المأزق، الذي يضيق خناقه يومًا تلو يوم حول إسرائيل، جانباً يتمثل في تآكل قوتها الردعية (أو ردعها القوي) الى درجة تقارب العدم.

 

يمكن أن نضيف إلى جوانب المأزق، الذي يضيق خناقه يومًا تلو يوم حول إسرائيل، جانباً يتمثل في تآكل قوتها الردعية (أو ردعها القوي) الى درجة تقارب العدم. وتُواتر تطورات الأحداث، بصورة شبه يومية، شواهد على هذا الجانب، في موازاة الشواهد على جانب آخر، غير منفصل عنه، متمثل في عدم مقدرة سياسة القوة المتبعة ميدانياً ضد الإنتفاضة الفلسطينية على الإتيان بأية نتيجة، لناحية فرض البرنامج السياسي والعسكري لحكومة أريئيل شارو.
في هذا الصدد لا بُدَّ من إستقراء وقائع ما يمكن اعتباره “مناخاً من الكمد”، طغى على منطوق وسائل الإعلام الرئيسية المركزية غداة العمليتين في كينيا )ضد فندق يؤمه عادة سياح إسرائيليون في مومباسا وضد طائرة إسرائيلية مدنية تابعة لشركة “أركيع” (والعملية في بيسان ضد مقرّ فرع “الليكود” في يوم الانتخابات لرئاسة هذا الحزب).

لقد اعتبر معلق الشؤون الإستراتيجية في صحيفة “هآرتس”، أمير أورن، هذه العمليات الثلاث منطوية على بعد إستراتيجي جليّ، شديد الأهمية. وكتب، في تسويغ ما يقصده من وراء ذلك، يقول (الجمعة 29/11/2002) : “العمليات الاستراتيجية في كينيا وبيسان تنذر، وليست هذه هي المرة الأولى )حرب “يوم الغفران”، الإنتفاضة، مقتل يتسحاق رابين(، بفشل الردع. وهذه العمليات تستحق التوصيف “إستراتيجية” لكونها معدّة لصياغة واقع آخر، لزعزعة المنظومة الاسرائيلية الى درجة تكون معها مضطرة لتغيير إتجاه. في هذا السياق يجدر التعامل مع طائرة “أركيع” كما لو أنها لم تتملص من الصواريخ التي أطلقت صوبها، أي كما لو أنها أسقطت، على الاسرائيليين ال 270 الذين كانوا على متنها (...) أما العملية في فرع الليكود في بيسان، في ذروة الانتخابات الداخلية لهذا الحزب، فربما لم تستهدف تخفيض نسبة التصويت الى حدّ تهديد تفوّق أريئيل شارون على خصمه، لكنها بالتأكيد تغيَّت الإثبات بأن شارون غير فالح في الحفاظ على الأمن حتى في أوساط مؤيديه”.

ولئن كان أورن يتعاطى مع الموضوع، ربما بحكم تخصصه، من زاوية المترتبات الاستراتيجية للنزاع فان غيره من المعلقين الاسرائيليين تعاطوا معه من أخرى لا تقل أهمية، هي زاوية “الروح القومية”، في مستوييها المادي والمعنوي

. سأنمذج على هذا التعاطي من خلال الأمثلة التالية

: * تحت عنوان “شعور بالاختناق” كتب المعلق السياسي في “معريف”، بن كسبيت، ان العمليات في كينيا وبيسان، كلا على حدة، حطمت شيئاً ما أساسياً في نمط الحياة الاسرائيلي، ومسَّت بأحد أكثر الأسس أهمية في الثقة الذاتية (الجمعة - 29/11/2002). ومضى قائلاً : الشعور الرئيسي الذي يلازمنا، بعد تلك العمليات، هو الشعور الشديد الوطأة بالاختناق. نحن أمام طريق موصود، بلا مخرج، بلا حل، وما من ملاذ. الآن لا يمكن السفر حتى الى الخارج. إنهم يبحثون عنا هنا، هناك، في كل مكان، في كل ساعة، وفي أية حالة من أحوال الطقس. ذات مرة كان ممكناً، على الأقل، إنتظار السفرة الجوية بشعور من الإفتتان الساحر. أما الآن فان كل ما تبقى هو رائحة الخوف. ما ثبت في كينيا أنه إذا كان لا بدّ من عملية تفجيرية فمن الأفضل أن نتعرّض لها هنا، على مقربة من البيت، مع سيارات إسعاف منظمة ومستشفيات. يتضح إذاً أنه حتى العمليات التفجيرية مريحة هنا أكثر... وإذا كنا راغبين بتصديق ما يقوله مصدر أمني واسع الإطلاع على ما يدور ميدانياً، فان الاسوأ لا يزال أمامنا. ووفقاً لما يقوله هذا المصدر فقد كان ما حصل هو “أول الغيث، الذي ما يلبث أن ينهمر”.. أريئيل شارون يعد العدّة لتولي ولاية إضافية. وهي لن تكون ولاية سهلة : يتعين عليه أن يجتاز بسلام الحرب على العراق، ويتعين عليه أن يوقف الإرهاب الفلسطيني، وهو يَعد بأن يجلب السلام، ويتعين عليه أن يهدىء “حزب الله” كما يتعين عليه أن ينقذ الإقتصاد. وها هو ذا الآن يضيف الى القائمة أسامة بن لادن، الشخص الذي قلب ظهر المجن للولايات المتحدة ولا يزال (في هذه الأثناء) حيًّا يرزق..

* تحت عنوان “لا نهاية” كتب إيتان هابر، مدير مكتب رئيس الحكومة الأسبق يتسحاق رابين تعليقاً في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، سخف فيه من ردود الفعل التظاهرية على تلك العمليات والتي صدرت عن شارون وعن وزير “أمنه” الجديد، شاؤول موفاز، وحاولت أن تجعل الحقيقة مرة أخرى منحصرة في المعادلة القليلة الحيلة أن “المزيد من الضغط في مقدوره تصفية الإرهاب”. وتابع يقول : هاكم الحقيقة :عشرة شارونات، مئة موفازات وألف نتنياهو ليس في مقدرتهم سحق الارهاب بوسائل عسكرية فقط. في كل صباح وكل مساء تعلن الإذاعة عن مطلوب آخر تم اعتقاله، وعن اثنين آخرين تم القبض عليهما، وعن مختبر أسلحة آخر، وسيارة مفخخة أخرى، وعن انتحاري تم كشفه وعن عملية تفجيرية أخرى تم إحباطها، ولا نهاية للإرهاب. ويقول خبراء إنه في الإنتفاضتين اعتقل حتى الآن 400 ألف شخص، ما يوازي جميع سكان تل أبيب تقريباً، وما زلنا لا نرى النهاية (الجمعة - 29/11/2002). * رأت معلقة الشؤون الحزبية في “يديعوت أحرونوت”،سيما كدمون، أن الانتخابات لرئاسة “الليكود” جرت تحت وابل من النيران وأن هزيمة بنيامين نتنياهو تعتبر إنتصاراً شخصياً لشارون. أما دلالة هذا الانتصار فانها توجزها بالتعابير التالية :”حظي شارون بثقة كبيرة لا بفضل إنجازاته في السنتين الأخيرتين، فعلى إنجازات كهذه لا يحظى المرء بسنوات إضافية، كما أنه حظي بتأييد جارف لا بسبب ما كان وإنما بسبب ما سوف يكون. لقد قال منتسبو “الليكود” نعم ليس فقط لشارون، وإنما قالوا نعم أيضاً لكل ما سمعوا شارون يقوله في الأشهر الأخيرة :نعم لدولة فلسطينية، نعم لتنازلات مؤلمة، نعم للخروج من جميع الأماكن التالية : نابلس وغزة والخليل وجنين” (الجمعة - 29/11/2002).

في واقع الأمر لا يعني ما تقوله كدمون أن هناك صيرورة إنزياح عن غلواء التطرف اليميني في إسرائيل، كما قد يستشف أيضاً للوهلة الأولى من إستطلاع الرأي، الذي أظهر عشية الانتخابات لرئاسة “الليكود” أن 52 بالمئة من مؤيدي هذا الحزب مع قيام دولة فلسطينية. لكن يعني، ببساطة متناهية، أن التصويت لصالح شارون هو، في الوقت ذاته، تصويت ضد المواقف التي عبّر عنها منافسه بنيامين نتنياهو. وهذا الأخير حاول أن يقلب الأمور رأساً على عقب بواسطة موضعة نفسه الى يمين شارون اليميني، من خلال إصراره على معارضة قيام دولة فلسطينية وعلى ضرورة طرد الرئيس ياسر عرفات.. وما الى ذلك.

بكلمات أخرى، هزم يمين نتنياهو أمام يمين شارون.

غير أنه في هذه الاثناء اقتحمت المشهد العمليات في كينيا وبيسان، وسرعان ما أخذت منزلة مرآة أخرى تنعكس فيها، ببريق أخّاذ، دلالات حدود القوة التي ليس في مقدرة أية حكومة إسرائيلية مقبلة أن تتجاوزها. والسؤال : هل ثمة بدائل يجري طرحها لمواجهة الحالة الجديدة التي خلفتها تلك العمليات والتي سبق توصيفها بأنها تغلّل قوة الردع الاسرائيلية، الى درجة الاستنفاد؟

في حدود ما هو معلن حتى الآن في المستطاع الإشارة الى بديلين :

يتحدَّد البديل الأول في ما ذكره زئيف شيف، المعلق العسكري الواسع الإطلاع (”هآرتس” 29/11/2002)، الذي قال إن العمليات في كينيا وبيسان، وبشكل خاص في الأولى، تستوجب من إسرائيل وتحديداً من جهازي “الموساد” و”الشاباك” التنظم من جديد في النشاط المعمول به خارج حدود إسرائيل، وليس فقط في المجال الدفاعي.

وأضاف شيف ان التقدير الاسرائيلي يشير الى أن تنفيذ عمليتي كينيا قام به أحد فروع منظمة “القاعدة” (برئاسة أسامة بن لادن)، لكن يجري أيضاً فحص إمكانية أن تكون العمليتان نتاج تعاون مشترك بين “القاعدة” و”حزب الله”، فالصلة بين المنظمتين هي صلة معروفة. من هذا يخلص شيف الى ضرورة أن تلتفت إسرائيل، من الآن فصاعداً، الى نشاط أفراد “القاعدة” الذين يزعم أنهم أتوا من أفغانستان الى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين قرب صيدا اللبنانية. “يجب التعامل مع هؤلاء - قال شيف- كما لو أنهم مسدس محشو ستنطلق منه الرصاصات في نهاية الأمر صوب إسرائيل”. كما لفت الى أن “حزب الله” كان مسؤولاً، بمساعدة من إيران، عن عمليات تفجيرية سابقة ضد “أهداف يهودية وإسرائيلية” في الخارج، مثل التفجيرات في الارجنتين، ولذا فإن مثل هذه العمليات الخارجية تحتاج الى “مكان أكثر تقدماً وبروزاً في الأجندة الأمنية الاسرائيلية”.

وفي التحصيل الأخير يقول هذا المعلق العسكري، الذي يعكس توجهات المؤسسة الاسرائيلية الأمنية، إن “جبهة محاربة الإرهاب في الخارج لا تقع داخل دائرة صلاحيات الجيش الاسرائيلي وإنما تقع مسؤوليتها على الموساد والشاباك. ويتركز هذان الجهازان في توفير الحراسة والدفاع. ومن الواضح الآن أن مواجهة هذا الخطر ينبغي ألا تبقى منحصرة في نطاق الدفاع ولا مهرب من أن تحمل أبعاداً هجومية”.

يقتضي الخوض في البديل الثاني التذكير بأنه قبل فترة وجيزة تواتر الحديث في إسرائيل عن مقدرة قوة ردعها على درء هجوم عراقي مفترض عليها، قد يكون بالأسلحة غير التقليدية، حسب المزاعم الاسرائيلية نفسها. في ذلك الوقت برزت آراء متطابقة تقول إنه في حال ردّ عسكري ضد العراق، يكون ضمن أهدافه توكيد قوة الردع التي في حوزتها، يتعين على إسرائيل ألا تكتفي بـ “زيارة” إعتباطية في غرب العراق وإنما ينبغي بذل كل شيء كي تترك العملية الانتقامية بصمات واضحة على “الذاكرة العراقية والعربية عموماً”، من خلال الالتجاء الى أسلحة ترسانتها النووية. وفي آراء أخرى، على النسق ذاته، ورد الحديث عن “بصمات” الرد الاسرائيلي مقروناً بالأيلولة الى “محو العراق كدولة عن الخارطة”!

لكن يظل الفارق هنا، في حالة عمليتي كينيا، أن الخصوم المفترضين إسرائيلياً محصنون أمام إمكانية ضربة ساحقة ماحقة لا تبقي ولا تذر. وفي غياب مشروع سياسي ستبقى إسرائيل أسيرة الشعور الشديد الوطأة بالاختناق.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات