بالشعارات أوّلاً يهيّء الحزبان الكبيران في إسرائيل، "الليكود" و "العمل"، فُرصَهما المحتملة بالفوز في انتخابات يناير 2003. هذه صناعة شاقة وباهظة، تتداخل فيها مختلف التجارب الإنتخابية في العقد المُسيّس الأخير بالذات، مع تجارب الناس الذين كانوا "يتخوزقون" طيلة الوقت، ومع ما يمرون به في "الوقت الحقيقي"، الآن، كلٌّ بطريقته ودوافعه.
بالشعارات أوّلاً يهيّء الحزبان الكبيران في إسرائيل، "الليكود" و "العمل"، فُرصَهما المحتملة بالفوز في انتخابات يناير 2003. هذه صناعة شاقة وباهظة، تتداخل فيها مختلف التجارب الإنتخابية في العقد المُسيّس الأخير بالذات، مع تجارب الناس الذين كانوا "يتخوزقون" طيلة الوقت، ومع ما يمرون به في "الوقت الحقيقي"، الآن، كلٌّ بطريقته ودوافعه. مصير هذه المهمة يتقرر وفق ما يمكن ان تستخلصه الأطراف جميعا من هذا التقاطع.
وفي السياق الانتخابي الاسرائيلي العام، دلتنا التجارب على أن الفرصة المحتملة الأولى التي يمكن للشعار الانتخابي الناجح أن يهيئها لأي حزب ذاق طعم السلطة، كامنة في قدرته على اكتشاف مقدار ما استخلصه الناس من عبر حول أدائه عندما كان فيها. وعن ذلك يمكن القول إن "العبرة – في الناس - لمن اعتبر"!
في مطلع الاسبوع نشرت الصحف العبرية شذرات من شعاراتٍ ومشاريعَ شعاراتٍ انتخابية يعتزم الحزبان الرئيسيان المتنافسان على رئاسة الحكومة طرحها في الحملة الإعلامية القريبة. وبموجب "هآرتس" (2 ديسمبر)، اختارت طواقم "العمل" الإستراتيجية والإعلامية اسلوب التصعيد في صياغة شعارات الحزب في المعركة القريبة، تجاوباً مع ما يوحي به شخص وبرامج مرشحه عمرام متسناع، بتصريحاته وسلوكه العام، من تحديات على الصعيد القومي العام، هناك من يرى أنها قد تكون سببا رئيسيا في إضاعة فرصته المنشودة في إعادة "اليسار الصهيوني" الى الحكم.
"مباشرة، وفي صُلب الموضوع"، تؤسس طواقم متسناع استراتيجيتها السياسية حيال الفلسطينيين. وقد قالت ذلك بوضوح بعد اعلانه الترشيح، وبعد فوزه برئاسة "العمل" ايضا، في ختام صراع مرير وإن كان قصيراً مع وزير الدفاع المستقيل في حكومة شارون، بنيامين بن اليعيزر. وبنفس الشعار الصريح والمباشر يخطط اعلاميو متسناع "اكتساح" الساحة الانتخابية الإسرائيلية ، وابتداء مشروع "عودة اسرائيل الى الذات".
"القطع في اللحم الحيّ" هو ما تحمله برامج متسناع وتقوله شعاراته الانتخابية الى الإسرائيليين في هذه المعركة، في عملية مكاشفة تبدو للوهلة الاولى غير محسوبة انتخابياً، ولكنها على ما يبدو شرط وجوده الأساسي فوق اسطح مشبعة بالتناقضات والمفارقات.
وإلا – ما هو المعنى أو الفائدة من انتخابات يساق اليها الاسرائيليون مجدداً للتصويت على نفس النهج، وللوقوف مرة اخرى أمام نفس الأزمات، ومواصلة تجاهل "مصدر الشر" كله فيما يجري من حولهم من دهورة طالت مختلف جوانب الحياة؟
قد يسأل سائل: ما دامت للإسرائيليين تجارب مريرة كثيرة مع أحزابهم وحكوماتهم، فكيف تجدهم يصوّتون مع من "يخوزقهم" كل الوقت؟
وحقا: العاطلون عن العمل وابناء الطبقات الفقيرة، ابناء المليون وربع المليون فقير في اسرائيل، لماذا يصوّتون مع اليمين كل الوقت، ولماذا لا ينجح اليسار في التقرب من هؤلاء؟
ان مراجعة سريعة لتاريخ الحركات الاجتماعية في اسرائيل تبين ان جميع الاحزاب الاسرائيلية اعتادت ان تتوقف عند محطات واجراءات اجتماعية وخطوات وتحركات تخص هذه الفئات المسحوقة، ولكن ليس أمام بشر من لحم ودم! الناس جميعا – والمسحوقون منهم بالذات – بدوا لهذه الاحزاب "مستودعات" اصوات لا بشراً يمكن ان يتألموا ويحتجوا ويصرخوا ويحاججوا في شأن استمرار اقتيادهم الى كل معركة (انتخابات او غيرها) "كالشياه الى الذبح"!
كان اليمين اول من اكتشف وجود هذه الحاجة العاطفية لدى ابناء الطبقات والفئات الفقيرة في اسرائيل، ومن المفارقات المثيرة ان نجد حزبا يحمل اسم العمل والعمال لا يفعل شيئا لأجل هذه الطبقة سوى أنه يقوم بفقدان طريقه اليها باستمرار. وفي انتخابات 1977 عرف مناحم بيغن واستراتيجيوه ورؤساء طواقمه الانتخابية كيف يؤسسون على "هفوة" بحق "ابناء الشارع" المسحوقين صدرت عن احد رموز المجتمع الأشكنازي، المتنفذ والمسيطر على جميع المقدّرات، التي جعلت قسمتُها غير العادلة ابناء هذه الفئات في حالة تقهقر متواصل للوراء.
في إسرائيل يصفون "العمل" خطأ بأنه "يسار". وقد جاءت هذه "التهمة" للنَّيل من فرصه الانتخابية الحقيقية (لا الاستطلاعية فقط)، باستغلال الاوضاع المأساوية الناجمة عن تواصل الصراع الدامي مع الفلسطينيين، بديماغوغية معروفة عن اليمين، من اجل كسب المعركة.
لكن الشعارات الديماغوغية، مهما نجحت في شد الناخبين "البسطاء" اليها، لا يمكن ان تنفي حقيقة كون "العمل" الصهيوني، وليس اليسار الحقيقي وحده، بحاجة الى استراتيجية تضامن عاطفية اكثر منها عقلانية مع هذه الفئات المجتمعية المسحوقة، التي باتت تشكل ربع السكان في اسرائيل. دائما كانت الطريق الى هؤلاء مؤسسة على المشاعر قبل العقل، ربما بحكم الأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية التي يعيشونها، والاصول الاثنية والطائفية التي يتحدرون منها. وبالعاطفة اولا تجاههم يمكن ان تتوصل الى التضامن العقلاني المطلوب من جانبهم، وهو تضامن تتم ترجمته في ساعة الامتحان الى اصوات حقيقية في صناديق الاقتراع.
في مستوطنة "نتسريم" وسط قطاع غزة تبلغ التكاليف السنوية للمصاريف العسكرية لحماية عائلة واحدة مليونا ونصف المليون شيكل. لكن الدولة الرسمية المستعدة لبسط يدها بسخاء لتثبيت المستوطنين في مواقعهم، ليست مستعدة لأن تصرف نفس القيمة في كريات غات، على سبيل المثال.
على ما تحمله هذه المعادلة من خلل يؤسسون في "العمل" في انتخابات 2003: أن يدرك الناس الناس تدريجيا انها معادلة غير متكافئة، وأن يتعمق وعيهم بضرورة التصعيد في التصدي لها، لاستعادة "دولة الرفاه" التي سلبوهم اياها، مع انهم باسمها يحصلون دائما على اصواتهم في الانتخابات.
وفي انتخابات 2003 – مهما كانت زائدة عن الحاجة - لا يمكن ان تقول لشخص معين ان عينيك جميلتان وفمك جميل وانفك جميل وكل شيء فيك جميل - فلماذا انت بشع؟ وفي ذلك لا يمكن لليسار (المزيف او الحقيقي) ان يخطب ود المسحوقين في مهمات انتخابية محددة فقط، ليواصل التنكر بعدها لحقيقة الأوضاع المأساوية "البشعة" التي يعيشونها في اسرائيل 2003.
*
في دولة اسرائيل 2003 لا يوجد شخص واحد تتحكم فيه اعتبارات ليست ساخرة تجاه الاشياء. من هنا يبدو أن الشعارات الانتخابية الناجحة لدى اليسار في هذه المعركة ستقول للاسرائيليين بكل وضوح وبلا مواربة او محاباة ان الطريق الى استعادة دولتهم بالانتخابات تمر هذه المرة بالذات عبر تمكين الفلسطينيين من استعادة فرصتهم في بناء دولتهم القومية، لا بالتأسيس على "الشخص المجرَّب والمتزن"، كما تقول دعاية اليمين في هذه الأيام.
جيب الناخبين الاسرائيليين المثقوب (وليس مستقبل المستوطنات وحده) سيلعب دور "بيضة القبان" في هذه الانتخابات.