رام الله- صدر حديثا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، كتاب "النضال الشرقي في إسرائيل 1948-2003"، للباحث الدكتور سامي شالوم شطريت، ترجمه عن العبرية سعيد عياش، ويقع في 562 صفحة.
ويُعد كتاب شطريت، على ما جاء في كلمة التقديم التي كتبها أنطوان شلحت، الكتاب الأنضج والأشمل ضمن دراسات عديدة نشرت خلال السنوات الأخيرة، تحاول تقديم رواية اليهود الشرقيين، أو اليهود العرب الذين جيء بهم إلى أرض "السمن والعسل"، سواء من باب الاستئناف على الرواية الرسمية المؤدلجة أو إلى ناحية التضاد معها وتعريتها.
يقرأ المؤلف النضال الشرقي في إسرائيل، وفق ما يؤكد، باعتباره حركة، سيرورة، وذلك بالمفهوم نفسه الذي تنظر فيه الأكاديمية والسياسة الأميركية إلى مجمل النشاط السياسي للسود في الولايات المتحدة إبان الخمسينيات والستينيات باعتباره حركة حقوق مدنية، تقاس إنجازاتها بناء على الحصيلة الكلية لمجموع أجزائها. ومن خلال الاستعانة بهذا المفهوم، فإنه يشخص إنجازين رئيسيين ينطويان على قدر من الأهمية للحركة الشرقية، أولهما إجبار الدولة على الاعتراف بسياسة اللامساواة المنتهجة من قبلها، والثاني تحقيق الشرعية للحركات الشرقية ونضالها في إسرائيل.
يتوقف شطريت، بشكل خاص، في هذا الكتاب طويلا أمام الظروف الرئيسية التي أدت إلى شل وتعطيل النضال الشرقي، ويلخصها في:
أولاً، لم يكن النضال الشرقي في أي وقت على الإطلاق نضالا مشروعا في نظر النظام السياسي ووسائل الإعلام الإسرائيلية والمؤسسة الأكاديمية، رغم أنه كان دوما في معظم أهدافه نضالاً اجتماعياً مألوفاً لا يشذ عما هي عليه الحال في أماكن أخرى من العالم.
ومن هنا فإن السلطة ووسائل الإعلام، وفي كل مرة قمعت فيها النضال الشرقي، إنما عطلت عملية النضال الاجتماعي برمته في إسرائيل، ذلك لأنه لم يكن هناك من نضال اجتماعي عداه. يضاف إلى هذه العملية، عملية نزع شرعية النضال الشرقي، والأزمة التي واجهتها حركة النضال العربية-الإسرائيلية، التي رأت السلطة في سائر احتجاجاتها الاجتماعية نشاطاً معادياً يهدد أمن الدولة، وبناء عليه جوبهت بقمع عسكري، فيما تعرض قادة هذه الحركة للملاحقة من جانب النظامين السياسي والقضائي.
ثانياً، نالت أيديولوجية "الليكود" الاستيطانية المسيحانية "صفقة" دعم وتأييد من جانب الشرقيين عندما تحول هؤلاء إلى تأييد "الليكود" في نطاق تمردهم ضد "مباي" وليس كتحول أيديولوجي وفق الاعتقاد السائد. وقد تحولت هذه الأيديولوجية، التي توفر المسوغات لقمع الفلسطينيين والتي تقوم طوال الوقت بتصعيد الصراع الدامي العنيف خلال العقد الأخير، إلى وسيلة خداع وتلاعب شديدة التأثير تشل وتعطل أية بادرة احتجاج أو أية دعوة للتغيير الاجتماعي. لكن كل ذي بصيرة يدرك أن المسائل الاجتماعية والمدنية ستعود لتفرض نفسها بقوة على رأس جدول الأعمال السياسي في إسرائيل حالما ينتهي الاحتلال والقمع ضد الفلسطينيين.
ثالثاً، من ناحية عملية تحولت حركة "شاس"، التي طرحت نفسها بالنسبة للكثيرين من الشرقيين كبديل لـ"الليكود" و"المفدال"، مستخدمة عناصر رمزية من خطاب النضال الشرقي، إلى صمّام تنفيس لهذا النضال و"اسفنجة امتصاص" للاحتجاج الاجتماعي، فقد كانت "شاس" لغاية العام 2003 شريكا في جميع حكومات اليمين الاقتصادي، بل وساندت سياسة تقويض مؤسسات الرفاه في إسرائيل، وهذا في الوقت الذي واصلت فيه الحركة امتصاص واحتواء كل مظاهر التوتر والغليان الاجتماعي لدى التجمعات الشرقية.
ويرصد الكتاب في أحد محاوره الرئيسية سير تطور الخطاب الشرقي الانتقادي، الذي أنتج وصاغ عمليا الخطاب الاجتماعي الراديكالي في إسرائيل عامة، وأثر كثيراً على تطور الخطاب الأكاديمي النقدي الذي يسمى أحيانا "ما بعد صهيوني".
غير أن جلّ الكتاب ينصب على وصف وتحليل ردود فعل الشرقيين السياسية تجاه سياسة القمع الثقافي والاقتصادي التي مورست ضدهم منذ اللحظة التي وطئت فيها أقدامهم هذه الأرض. وقد تدرجت ردود الفعل هذه، سواء تجاه السلطة أو تجاه "الزعامة الشرقية" المحسوبة عليها، من أعمال وأنشطة التمرد والاحتجاج الواسعة التي اتخذت طابعا محليا، مرورا بأعمال التمرد المنظمة وانتهاء بإقامة حركات اجتماعية ومنظمات تعليمية وثقافية وأحزاب سياسية. وتشكل العلاقات بين حركات الاحتجاج وقادة النضال وبين "الزعماء" الشرقيين الذين يعملون برعاية الأحزاب الأشكنازية، أو بعبارة أخرى، بين الراديكاليين والمعتدلين، المسألة المركزية الموجهة للنقاش والبحث في هذا الكتاب.