كيف تأخذ العراق الراهن من "الأنين تحت وطأة جزمات العسكر"، كما جاء في افتتاحية عدد صيف/2003 الأخير من "مشارف"، الى ما كان عليه وما سيكونه، دجلة زاخرة بالثقافة وفراتًا يحمل في انسيابه أصوات التاريخ؟
صدى هذا السؤال يتبدى في نصوص تؤلف فسيفساء من الهمّ والهاجس صاغها مثقفات ومثقفون عراقيون، في محاولة لاستنهاض الذاكرة واستشراف الآتي. ففي ملف بعنوان "العراق/البيت" نقرأ كل من: سعيد فرحان، سميرة المانع، فوزي كريم، هاشم شفيق، شمعون بلاص (ذي الأصل العراقي)، عواد ناصر، سنان أنطون وفاضل العزاوي. يطلون على العراق من الذاكرة أو يعيدون صياغة شيء من ذاكرة هذا المكان.
هذا العدد يواصل أيضًا طرق أبواب فنية كتابية عدة، فيُستهلّ بالشعر منفردًا بنشر قصيدة جديدة مخصوصة للشاعر أدونيس، إذ جاء في الافتتاحية: "أدونيس، الذي لا تنقصه الاحتفاءات طولاً وعرضًا، أفقيًا وعموديًا، يحتفي بـ "مشارف" على طريقته فيخصها بقصيدة مخطوطة بيده".
النصوص التي تشكلت ما بين القصيدة والقصة والشهادة والمقالة موقّعة بأقلام منها: مؤيد الراوي، محمود شقير، طارق الطيب، عز الدين المناصرة، واسيني الأعرج، دنيا ميخائيل، محمد حسيب القاضي، بن سالم حميش وغيرهم من مثقفين لا تزال "مشارف" تدأب على نشر مساهماتهم التي تؤلف نسيجًا إبداعيًا تتوخّى فيه التنوّع والتميّز في آن واحد.
"العراق/ البيت"
في الملف الذي بادرت اليه المجلة، تأخذنا نصوصه وقد تناولت العراق الذاكرة، العراق المدينة، والعراق الذي لم ينفكّ يعتبر مساهمًا أساسيًا في القول الفصل الثقافي العربي، والانساني العام. فتحت عنوان "المنزل" يكتب الكاتب والتشكيلي العراقي المقيم في سويسرا، سعيد فرحان: ".. في ذلك المنزل كانت هنالك قلوب من أقمار فضية، ترتفع بي الى مصاف حلم اكثر فضية، كلما اسودّت الدنيا. وكان عليّ، حينها، أن أتشبّث بكل موروثٍ صوريّ، حكائيّ، إيحائيّ، تجريديّ، دينيّ، خرافيّ لكي ألاحق ما يحدث في هذا الكون المسوّر بجدار من الطين أيضًا..".
سميرة المانع، الروائية العراقية، تكتب من لندن: "طيلة دراستي الابتدائية في تلك الناحية استجمعت الحياة تناقضاتها وتنوّعها، فبمجرّد قطع مسافة قصيرة وفي ظرف ربع ساعة فقط، نصل مبتعدين من فضاء عري الصحراء وجفافها، الى غابة نخيل باسقة تزنّر مدينة البصرة حيث مسقط رأسي".
أما الشاعر فوزي كريم فيبحث عن الوعي في جدليّة الدفلى والتوت: "المسافة بين الدفلى والتوت مسافة بين عالمين: خارجي هو امتداد لأغصان التوت الى الافق، وداخلي دون امتداد، لأن عالم الدفلى الداخلي يبدأ مباشرة من "ما وراء" القشرة. إنه لا يعتمد مقياس المكان والزمان الأرضيين، ولذلك تعيش عمقه ما ان تتجاوز القشرة". هذا التأمل المتعمّق تبثّه ذكرى الشجرات في فناء البيت القديم. تظل أسئلة غاية في الوجودية تعود الى هناك، الى البيت الأول.
من "تل محمد" يرسم الشاعر هاشم شفيق "المرتقى الصعب" : "كنا إذن فتية وفي الخطوات الأولى على سلّم صعب المرتقى، لا نعرف الى أين سيؤدي بنا. آنها تعرفت عبر نار الشعر المندلعة في أعماقي الى أصدقاء مثلي يكتبون الشعر، وهم يسكنون الحيّ نفسه الذي كنت أسكن فيه..". هذا هو حي "تل محمد" الذي يصفه شفيق: "شعبي متواضع ويعود تاريخ موقعه الى سبعة آلاف عام".
الروائي والباحث الاسرائيلي من أصل عراقي شمعون بلاص يستعيد الأيام البعيدة "على شكل صور متحركة"، ليخلص الى أن "بغداد تغيرت وتوسعت وشوارع شُقت في حواريها التاريخية. ومن يدري، ربما الدار التي قضيت فيها سني طفولتي وصباي قد اندرست تحت عجلات السيارات. إن حقًا اندرست، فهي قائمة ما تزال في ذاكرتي، رقمها 6/182، مثبت فوق بابها الخشبي ذي المصراعين". من هنا ننتقل الى "تحولات المكان" لدى الشاعر عواد ناصر: "المكان الأول كأسطورة الحب الأول. كثيرًا ما نقيس قلوبنا وذاكرتنا بتلك العاطفة المبكرة بكل ما تتضمنه من اندفاعات ومخاوف واكتشافات. أحيانًا، تعبر قصيدتي كلمة أو عبارة أو علامة تشي بمعنى المكان أو ضروراته فأتمسك بها كبخيل لا يتخلى عن أسماله..".
أما سنان أنطون، الشاعر والروائي، فيختار "نبش المكان"! ما هي بغداد؟ "إنها الموشور الذي أحمله ويحملني. قاموسي الروحيّ والحسيّ الذي أقرأ به الدنيا. أضيف اليه وأدوّن بين سطوره المفردات الجديدة وتضاريس مدن الغربة. أنام في مدن أخرى. لكنّي دائمًا أستيقظ مبتلا بأحلام بغداد ولاهثًا من كوابيسها".
ختام الملف يحلّ مع "أصدقاء السوء". فالشاعر فاضل العزاوي يوثّق تجربة "جيل الستينات"، ذلك الجيل الذي انحفظ متمردًا ثقافيًا وتحوّل الى معلَم. يقول: "بدت الثورة، لنا، نحن الذين كنا لا نزال في بداية حياتنا الأدبية، شيئًا يشبه المهرجان الدائم الذي ظلّ قائمًا طيلة عام. فجأة احتلت السياسة حيّزًا بارزًا في حياتنا". ومن كركوك الى بغداد "هناك في وسط بحر جديد من الأصدقاء والمبدعين القادمين من كل مكان في العراق أسهموا في إشعال نار تلك الغامرة الأدبية التي أطلق عليها اسم "الستينات"".
"سيكون الشعر"
ملف الشعر حظي بالصدارة هذا العدد، وقد تصدّره أدونيس الذي يسأل: "كيف يُكتب تاريخ هذي الغيوم؟"، في قصيدة بهذا العنوان:
"أفتح الباب. يأتي هواء يزور الرسوم
التي تتدلّى
ويداعب أطرافها.
بغتة يتثاءب، يمضي
حانيًا ظهره.
لم يكن حبنا هنالك. أطيافه
حملت كل ما رسمته
في السرير، وفي الوسائد، في قبضة الباب،
في قفله وغابت.
أتخيّل؟ لكن
كل هذا تؤكده غيمة.
غيمة تعبر الآن. غابت.
لا هواء يزور، ولا من يقول لتلك الرسوم
كيف تروى أساطيرنا
كيف يُكتب تاريخ هذي الغيوم."
الملف يشمل أيضًا، قصائد للشاعر الفلسطيني المقيم في المغار الجليلية سامر خير في "لا تطل على الخوف"، "استراحة المحارب" وغيرهما. والى جانبه قصيدة الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل "تحت شجرة الزيتون نفسها أو مشهد جديد". ويختتم الملف الشاعر العراقي مؤيد الراوي في "جليل القيسي: حارس المدينة". الراوي يخاطب القاص والمسرحي القيسي، الذي لم يحمل نفسه الى غربة غربية فبقي في مدينته كركوك:
"رأيتَ
ما لا نر:
(في محجريك عينان من عقيق)
أبصرتنا، نرحل بريح خفيفة تضرب قلوعنا.
آملين الدهشة، نحمل جمر ما سيأتي".
نصوص من المنافي والأوطان
من غزة، يقدم الشاعر والكاتب الفلسطيني محمد حسيب القاضي شهادة أسماها "مريم، أو النسيان". من لحظة التحرر من سجن الاحتلال "أنصار" حيث "كان المساء شديد الوطأة ومعتمًا أكثر مما يجب"، حتى "مريم".. "كان الفجر شاحبًا في المحطة كما لو كان هو الآخر يتأهب للسفر والفراق، وأنت تتكئ على عمود النار، بالكاد تتبيّن أوجه المغادرين في الغبش وتشعر بلسعة برد خفيفة تسري في أطرافك فترفع سحّاب السترة الجلدية الى أعلى الرقبة، وتفرك يديك في قلق وحيرة. اليوم تسافر مريم في رفقة ذلك الرجل الى بلاد النفط". وتظل الأسئلة: "هل من حقي أن أذكرك لأنساك أو أن أنساك لأذكرك، مريض الحنين أن".
الكاتب والشاعر السوداني طارق الطيّب، الى جانب القاص الفلسطيني نصار ابراهيم يؤلفان باب "كتابة المنفى" لهذا العدد. الطيب يتمرد على المنفى منذ البداية عبر عنونته بـ "المنأى". فبعد أن يروي رحلة الوالد الى منفى حرمه من "المباركة والميراث الضخم" يفسّر: "خرجتُ باختياري وكان يمكنني أن أبقى اذا شئت. رأيته قرارًا صائبًا مني وما زلت. أعود أدراجي إن شئت أو أبقى في منزلي الشمالي الذي أحببت. لا بطولة هنا ولا أسى. لم اترك الا بعض الحنين لذكريات في خزائن الزمن لا علاقة لها بتغيير المكان، وحنينًا لأمكنة غارت أيضًا مع الزمن".
أما نصار ابراهيم فيجعل من كتابة المنفى "حلم الوطن". وخلافًا لرؤية سابقه، نراه يبحث عن وطن لا بل يصوغه: "لماذا وكيف يتحول الوطن الى هدف، أيديولوجيا، فكرة. حينها يغيب الوطن/ المكان بتفاصيله الدقيقة، ويحضر كفضاء وأداة، وعنوان توحيد لمقاومة المنفى".
ملف النصوص يجمع اقلامًا يمتد أصحابها من الفلسطيني المقيم حتى العائد والمهجّر، وصولا الى المغرب. فنقرأ بأقلام دنيا الأمل اسماعيل (غزة) "تمر وقهوة سادة"، زياد خداش (رام الله) "خذيني الى موتي" و "بقايا شتاء قديم"، فؤاد سليمان (حيفا) "واقف بجانب ظلي"، عدنان كنفاني (دمشق) "حبيبتي بيسان"، محمود شقير (القدس الشرقية المحتلة) "إحساس ما"، بن سالم حميش (الرباط) "قصة بوسميات". ويختتم الملف الكاتب والشاعر معتز أبو صالح (هضبة الجولان السورية المحتلة) عبر الفصل الأول من روايته المعدّة للنشر "حكاية عطرية".
مذكرات جندي في جنين
باب الثقافة العبرية المترجمة، أو المستعرضة في تناولات وقراءات نقدية، يضم قصتين لكاتب اختار عدم نشر اسمه. وهما بمثابة توثيق يومي دقيق الى حد العبث، لما تعرض له مخيم اللاجئين جنين خلال الاجتياح الاحتلالي الاسرائيلي المسمى "السور الواقي" في نيسان 2001. فتحت الاسم المستعار "بمبي" ، شارك هذا الكاتب في مسابقة القصة القصيرة التي تنظمها صحيفة "هآرتس" سنويًا، وكانت نصوصه من ضمن ما أوصت به الصحيفة، كنصوص متميّزة. الكاتب كان جنديًا في سلك الاحتياط إبان الاجتياح وعاد من هناك بما يشبه الوثيقة. ففي قصة "خراء فنكلشطاين" يرسم فضاء مدرسة اقتحمها الجند جاعلين منها ثكنة عسكرية. فيما يلي الصورة القاتمة التالية: "بعد لحظة سأغوص في الدبابة ونغادر تاركين خراء فنكلشطاين، مما سيسمح لي بالقول لناتان بعصبيّة ودون أي دافع للمناطحة، إن مدير الاعدادية قد يحاول إقناع تلاميذه بأننا وحوش، ولكن بعد قليل سيأتي التلاميذ وعندها سيجدون الدليل على ذلك بواسطة الأنف. وهل يوجد أفضل من ذلك الدليل؟".
وتحت عنوان "لأن النياشين العسكرية ليست عصية على الصدأ"، يستعرض هشام نفاع كتابًا بالعبرية بعنوان "من جنين الى بيروت" هو بمثابة توثيق لروايات جنود شاركوا في حرب اسرائيل على لبنان، ومنه يتبدى القاسم المشترك القاتم بين حربيّ أرئيل شارون، 1982 على لبنان والحالية على الفلسطينيين. المؤلفتان عيريت غال وإيلانه هامرمان تقولان في المقدمة عن الشهادات المجموعة لدى الاستماع اليها: "كنا نُقذف مصعوقتين بين واقع اليوم وواقع الأمس، شيء ما شدّنا بعنف الى الواقعين ولم نصدّق بسهولة: فهما يمتزجان الى واقع واحد، ولشدة الشبه المضلل بينهما، يتحول الواقع الى حلم، حلم سيء لا يمكن الاستيقاظ منه". في المقال جاء ما يلي: "الكلام يسير كالماء، يتسرب منحدرًا الى الشرخ. الشرخ الأخلاقي الذي لم ينشأ عام 82، فقد انطلق قبله بكثير، لكنه أصاب هنا بأتربته المتناثرة مساحة واسعة من مغروسات الفخر القومي والكلام المغطى بالنياشين اللامعة. فمن قال إن هذه ليست معرّضة للصدأ. الوقت كفيل بكل شيء".
تكتب الباحثة الفلسطينية وفاء درويش في باب "رؤى" عن "شفافية الاغتراب" لدى الكاتب الفلسطيني محمود شقير في مجموعته "مرور خاطف". تقول عن القصص انها "تفتقد الى الحبكة القصصية المعقدة أو الحدث المشوّق لكنها بمعظمها تشكّل لوحة فنية يلخّص بها الكاتب مواقف انسانية أو لحظات تأملية لا علاقة لها بواقع فلسفي ما". أما الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة فيكتب عن علي فودة وعلي حسين خلف تحت العنوان: "مثقفان من فلسطين"، فيقول عن فودة: "كان غجريًا صعلوكًا في حياته اليومية، وكان ذئبًا في معاركه. وكان طيّبًا ضاحكًا لم يعرف الحقد ولا التآمر. وظل شعبيًا بروليتاريًا شوارعيًا حتى لحظة استشهاده". أما عن خلف فيكتب: "مثقف عصامي أعطى شعبه أكثر مما أخذ، وترك روايات وقصصًا وأبحاثًا تضعه في موقع متقدم من أبناء جيله.. وهكذا رحل وهو ممسك بجمرة الكتابة".
الباحث الفلسطيني نعيم ناصر يقدم قراءة تأريخية لرواية "اللاز"، رائعة الكاتب الجزائري الطاهر وطار. وهو يختار، بالذات، تلك الاسئلة الهامة بشأن علاقة الشيوعيين وبين ثورة الجزائر. فنقرأه يلخّص مقتبسًا المؤرخ محمد حربي الذي قال في كتابه "جبهة التحرير الوطني" (1983) : "لا جدال في أن الشيوعيين كانوا مقاتلين أماجد، وأحيانًا مقاتلين نموذجيين، عندما توفرت لهم الفرصة، بمن فيهم الشيوعيون الاوروبيون، الذين انقطعوا عن أصولهم، دون أن يعترف بهم الشعب الجزائري كليًا.. كانوا عظيمين في مأساتهم".
غياب
وضمن توثيق ذكرى مبدعين غابوا عن ساحة القلم والفكر، وهو نهج يجري اتباعه في المجلة تكريمًا لمن يغيبون عنا خلف الموت، تخصّص "مشارف" مساحة لذكرى الكاتب والروائي الفلسطيني عزت العزاوي، بقلم الباحث موسى م. خوري الذي يقول: "خرج عزت عن الدوزان العام لذبذبات الذاكرة الجماعية في خطابها الذي عمّ حتى خمّ، وزلزل مقام الركوز في النص الفلسطيني الحديث والمعاصر".
أما عن الروائي الجزائري محمد ديب فيكتب الروائي واسيني الأعرج عن ابن بلده الذي بحث عن فضاء له في باريس، قائلا: "عندما استحال على ديب أن يجد وطنًا وخرج في مساء قائظ لم يلتفت وراءه، لأن الالتفات أحيانًا يقوي شهية العودة الى الوطن. ولكنه التفت نحو الكتابة والعزلة.(...) مات في وقت كانت فيه الجزائر وما تزال تحتفل بسنتها في باريس حيث يقيم الكاتب. فضّل أن يبقى بعيدًا عن الأضواء وحتى عن الندوات التي خُصصت له: بلطف وبجملة ظل يكررها كلما وُجهت له دعوة رسمية: لم يعد العمر يسعفني، فقد شخت ولم أعد ممتعًا للرؤية. اهتموا أكثر بأعمالي فهي أحسن مني".
رئيسة تحرير "مشارف" سهام داوود، هيئة تحرير "مشارف" تضم الناقد أنطوان شلحت، دكتور سلمان مصالحة، دكتور محمود رجب غنايم، بروفيسور رمزي سليمان، الشاعر محمد حمزة غنايم وبروفيسور أنطون شماس. ويتولى هشام نفاع مسؤولية سكرتير التحرير. يصممها شريف واكد. المجلة من 256 صفحة.
عنوان المجلة الإلكتروني
العناوين البريدية والهاتفية:
P.O.Box 6370 Haifa 31063
Fax: 972-4-8233849
Phone: 972-4-8233478