القى تقرير صدر مؤخرًا عن هيئة شعبية اسرائيلية، الضوء على جوانب شتى من معاناة المواطنين العرب البدو في اسرائيل. واستعرض التقرير الذي اعدته منظمة "اطباء من اجل حقوق الانسان" صورًا وامثلة تجسد في شكل خاص الانعكاسات والاوضاع الصحية الخطيرة الناجمة عن المعضلة المزمنة التي يعيش في ظلها اهالي القرى "غير المعترف بها" في النقب والتي يقارب تعداد سكانها 80 الف نسمة.
القى تقرير صدر مؤخرًا عن هيئة شعبية اسرائيلية، الضوء على جوانب شتى من معاناة المواطنين العرب البدو في اسرائيل. واستعرض التقرير الذي اعدته منظمة "اطباء من اجل حقوق الانسان" صورًا وامثلة تجسد في شكل خاص الانعكاسات والاوضاع الصحية الخطيرة الناجمة عن المعضلة المزمنة التي يعيش في ظلها اهالي القرى "غير المعترف بها" في النقب والتي يقارب تعداد سكانها 80 الف نسمة.
ويقول التقرير ان الطريق الترابي المؤدي الى "أم بطين" احدى هذه القرى، يعوم بمياه المجاري التي تتدفق منذ سنوات عديدة ودون اية عوائق على هذا الطريق الذي يشكل المدخل الرئيسي الوحيد للقرية. ويعيش في "أم بطين، وهي واحدة من 46 قرية بدوية غير معترف بها في النقب، اكثر من خمسة آلاف نسمة، وفي كل دقيقة تقريبا تعبر الطريق الترابي سيارة، تغوص في وحل مياه المجاري الآسنة، الذي سرعان ما يغطي عجلاتها وتمضي لتفوح منها روائح كريهة.
ومضى ميرون رابابورت مراسل "يديعوت احرونوت،" في اعقاب التقرير وكتب في صحيفته (3/8): "توقفت احدى السيارات بالقرب منا، قال لنا السائق بانه يقيم في "أم بطين" وانه كان قد سافر بالأمس الى بئرالسبع مصطحبا طفله الرضيع الى مشفى "سوروكا" اثر تورم وانتفاخ جسم الطفل باكمله جراء لدغات البعوض..."
"ام بطين" ليست القرية البدوية الوحيدة التي تكابد مثل هذه المعاناة. فقد اجرت منظمة " اطباء من اجل حقوق الانسان"، على مدى سنة كاملة تقريبا بحثا حول الوضع الصحي في القرى البدوية غير المعترف بها في النقب، تطل منه صورة قاسية ومقلقة للغاية. ففي هذه القرى يعيش زهاء 75 الف نسمة، من المفروض انهم يتمتعون بمواطنة كاملة في اسرائيل، غير ان الدولة تتعاطى معهم كأناس مجردين من الحقوق الصحية.
سكان هذه القرى غير موصولين بشبكة المياه، والمياه التي يحصلون عليها - هذا اذا نالوها – تكون غالبا بنوعية رديئة. كما انهم غير مربوطين بشبكة الكهرباء، الامر الذي يبقي المريض البدوي الذي يحتاج لعلاجات بالتبريد او لاجهزة كهربائية، دون حل. وهم بطبيعة الحال غير مربوطين بشبكة تصريف، ولذلك تجد مياه المجاري تتدفق بحرية بجانب البيوت. في سبعة فقط من اصل 46 قرية غير معترف بها، توجد عيادة صحية، وهذه العيادات لا تعمل الا في ساعات الصباح فقط فضلا عن ان نشاطاتها وخدماتها محدودة جدا.
الصراع على الارض !
عندما تتحدث الدولة عن "الشتات" البدوي وهو اصطلاح رائج في وصف تلك القرى البدوية ذاتها، يتولد انطباع بان الحديث يدور عن خيم ومضارب مؤقتة ينصبها البدو اثناء ترحالهم في الصحراء.
لكن هذا الوصف بعيد جدا عن الواقع، فالغالبية الساحقة من المباني في هذه القرى البدوية، هي مبان ثابتة، جزء منها مبني من حجارة، فيما شيد القسم الاكبر بواسطة الطوب، وليس هناك سوى جزء ضئيل من بيوت الصفيح لكنها ايضا بيوت ثابتة.
الى ذلك فان العديد من هذه القرى البدوية قائمة منذ ما قبل قيام دولة اسرائيل. وعلى سبيل المثال فقد شكلت قرية "أم بطين" مركزا اقليميا للسلطة البريطانية ابان فترة الانتداب. في اعقاب حرب العام 1948 وقيام اسرائيل جرى تجميع غالبية بدو النقب في منطقة تنحصر حدودها بين شارع بئر السبع – ديمونا في الجنوب وشارع لاهفيم - عراد في الشمال. البدو الذين عاشوا في اماكن اخرى بالنقب، وخاصة النقب الغربي، نقلوا ( او طردوا) الى هذه المنطقة اوائل الخمسينيات.
وطبقا لمعطيات المجلس الاقليمي للقرى غير المعترف بها في النقب، فان المساحة الاجمالية التي تقوم عليها هذه القرى تبلغ 130 الف دونم، وهي مساحة لا تتعدى ال 1% من مساحة كامل النقب. ربما ان هذه المساحة ليست بالشيء القليل، لكنها اقل بكثير من التوصيفات الدراماتيكية التي تتحدث عن "سيطرة" البدو على النقب.
وتشكل مسألة ملكية الارض احدى اعوص المشاكل التي يعاني منها سكان القرى البدوية غير المعترف بها في النقب.
وفيما يعتبر البدو ان ملكيتهم لهذه الاراضي لا جدال فيها، بحكم استغلالهم لها ابا عن جد، تدعي دولة اسرائيل ان معظم هذه الاراضي تعود لها، ولعله لهذا السبب تم تغييب القرى البدوية كليا من قانون التنظيم والبناء الذي سن في العام 1965. وهكذا تحولت قرى قائمة منذ عشرات، بل ربما مئات السنين، بين عشية وضحاها الى "قرى غير معترف بها".
خطط "توطين" بدو النقب التي عمدت سلطات الدولة الى اتباعها عن طريق اقامة بلدات منظمة مثل رهط وكسيفة وغيرهما، حتى الآن لم تفلح في اغواء غالبية البدو على الانتقال الى مثل هذه البلدات، التي تتصدر جميع قوائم آفات التخلف في الدولة من بطالة وفقر وغيرها. فاليوم هناك 45% فقط من اصل 130 الف مواطن بدوي في النقب، يعيشون في البلدات الدائمة التي اقامتها الدولة، في حين يقيم الباقون (55%) في " القرى غير المعترف بها" في النقب.
ويؤكد تقرير "اطباء من اجل حقوق الانسان" بان لهذه المشكلة – مشكلة عدم اعتراف الدولة بالقرى البدوية في النقب – انعكاسات خطيرة على الصحة العامة والشخصية للسكان. فلأن القرى غير معترف بها، ترفض الدولة ربطها بشبكة المياه القطرية، والنتيجة اضطرار عشرات الآلاف من السكان للعيش في قلب الصحراء على كميات هزيلة جدا من الماء. في "ام بطين" على سبيل المثال يستهلك الفرد المتوسط 24 متر مكعب من المياه في السنة، وهذا اقل بكثير من معدل استهلاك الفرد في العالم الثالث. اما في بلدة "عومر" – اليهودية - المجاورة فيصل استهلاك الفرد المتوسط الى 151 متر مكعب في السنة.
ولا يتمكن السكان البدو من الحصول على مياه الشرب الا بطرق عسيرة تكلفهم مالا ووقتا، فضلا عن ان جودتها رديئة جدا. وكنتيجة مباشرة لذلك يعالج سنويا خلال اشهر الصيف في مشفى "سوروكا"، 16 الف طفل بدوي بسبب اعراض الإسهال، ويشكل هؤلاء 80% من مجمل الذين يعالجون من هذه الأعراض في المستشفى، هذا علما ان البدو يشكلون 25% فقط من سكان النقب.
ولأن القرى غير معترف بها، ترفض وزارة الداخلية ربطها بشبكة الكهرباء. ظاهريا لا تبدو هذه المشكلة مشكلة صحيحة، ولكن مولدات الكهرباء التي تعمل بالسولار، والتي يضطر السكان البدو لشرائها على حسابهم، تسبب ضجيجا وتلوثا يجعلان من الامر مشكلة صحية من الدرجة الاولى حسبما يؤكد تقرير "اطباء من اجل حقوق الانسان".
اضافة الى ذلك فان طاقة انتاج هذه المولدات الصغيرة للكهرباء محدودة جدا ولا تكفي للاستهلاك المنزلي الاعتيادي، وبالتأكيد ليس لمنازل توجد فيها احتياجات طبية خاصة.
خطط وميزانيات لـ " تطبيق القانون"
مؤخرا قررت الحكومة زيادة "اهتمامها" بمعالجة قضية البدو في النقب.. ربما لأن الموضوع "قريب الى قلب رئيس الوزراء" ارئيل شارون الذي يقيم شخصيا في النقب الغربي. ففي نيسان من هذا العام صادقت الحكومة على خطة خاصة لهذا الغرض وخصصت لتنفيذها حوالي مليار شيكل وفق جدوله تمتد لست سنوات.
ظاهريا يبدو الامر جيدا، غير ان هذه الخطة الحكومية التي لم تلق اي ترحيب من جانب السكان البدو، لا تهدف في حقيقة الامر الى حل مشاكل هؤلاء السكان او تخفيف معاناتهم وتحسين اوضاعهم، وهو ما يتضح اذا علمنا ان اكثر من 40% من الميزانية الخاصة التي اقرتها الحكومة (اي حوالي 400 مليون شيكل) مخصصة لما سمي بـ "فرض حقوق الدولة في الاراضي".
وباختصار فان هذه الاموال الضخمة مخصصة – كما يقول السكان البدو - لطردنا واقتلاعنا من ارضنا وليس من اجل تحسين اوضاعنا.
ويبين تقرير منظمة "اطباء من اجل حقوق الانسان" ان السلطات قامت منذ بداية العام الحالي بهدم 19 بناية في الوسط البدوي في النقب، وهو رقم يساوي عدد عمليات الهدم التي تمت في الوسط ذاته طوال السنة الماضية. اضافة لذلك تم مؤخرا اصدار اوامر هدم لـ 95 بيتا في قريتين بدويتين عتير و الضاحية) مما يهدد بمحو هاتين القريتين كليا اذا ما تم تنفيذ اوامر الهدم هذه.
وهكذا فان الهدف الحقيقي المباشر لخطة الحكومة هو اخلاء السكان البدو من القرى غير المعترف بها توطئة لبسط سيطرة الدولة على الاراضي التي تقوم عليها تلك القرى البدوية في النقب.