المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • وثائق وتقارير
  • 1594

 يحفل تاريخ الحركة الصهيونية بعشرات جرائم الإرهاب والقتل السياسي التي وقعت داخل صفوف وبين المنظمات والأجنحة المختلفة في الحركة الصهيونية ذاتها ومجتمعها الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وخاصة في فترة ما قبل قيام دولة إسرائيل.

  

وتشير الوثائق والأدبيات السياسية الإسرائيلية الرسمية إلى العديد من عمليات القتل وحوادث الاغتيال السياسي التي وقعت في إطار الصراعات والخصومات بين المنظمات والأجنحة السياسية والعسكرية الرئيسة في الحركة الصهيونية (منظمات "الهاغاناه" و"إيتسل" و"ليحي") خلال العقود الثلاثة التي مهدت لقيام إسرائيل في العام 1948. وتذكر هذه الوثائق والأدبيات خمس حوادث اغتيال سياسي بارزة في تاريخ الحركة الصهيونية ودولتها (إسرائيل) اثنتان منها وقعتا قبل قيام إسرائيل (قتل يعقوب ديه هان في العام 1924، وقتل حاييم أرلوزوروف في العام 1933) وثلاثة اغتيالات بعد قيام الدولة (اغتيال يسرائيل كستنر في العام 1957، اغتيال الناشط اليساري في حركة "السلام الآن" إميل غرينتسفايغ في العام 1983، واغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين في العام 1995)، بالإضافة إلى العديد من عمليات الاغتيال التي طالت مسؤولين سياسيين وعسكريين في حكومة الانتداب البريطاني حتى العام 1948، وكذلك حادث اغتيال موفد الأمم المتحدة إلى فلسطين الكونت فولك برنادوت (سويدي) في 17 أيلول 1948 على يد منظمة "شتيرن" الصهيونية وذلك بسبب قيامه بإعداد تقرير بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة يخالف رغبة الحركة الصهيونية وإسرائيل.

 

يتضمن التقرير التالي عرضاً لأبرز حوادث ومحاولات الاغتيال السياسي وخلفياتها منذ بداية تنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني وحتى العام 1948.

 

 

· محاولة اغتيال يوسيف ليشنسكي (1917)

  

ولد يوسيف ليشنسكي في روسيا عام 1886 وهاجر إلى البلاد وهو في السادسة من عمره. امتدت فترة نشاطه من العام 1910 وحتى 1917. وكان يوسيف قد وصل مع أبيه إلى "المطلة" ثم فقد والده في ظروف غامضة فنشأ وتربى عند عمته في "المطلة" حيث تلقّى هناك تعليمه في المدرسة المحلية. تخصص يوسيف في لغة وأنماط حياة الجيران العرب وامتلك خبرة عالية في ركوب الخيل والرماية، وعمل في الحراسة. خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1917) انتقل مع عائلته إلى مستوطنات جنوبي البلاد، حيث أقام هناك جمعية حراسة مستقلة أسماها "همغين". أثناء مكوثه في مزرعة "روحماه" تعرف على أبشلوم فاينبرغ وأقام صلات مع التنظيم الإرهابي السري "نيلي" الذي تزعمه أهارون أهارونسون. خلال رحلتهما المشتركة إلى مصر في مهمة تجسس لصالح البريطانيين قُتِلَ أبشلوم (قبره موجود قرب رفح). بعد عودة يوسيف ليشنسكي من رحلته أخذت السلطات التركية، التي كشفت أنشطة منظمة "نيلي"، تتعقبه بهدف اعتقاله، ونجحت في نهاية المطاف في إلقاء القبض عليه، مع باقي المجموعة التي عرفت بـ "سجناء دمشق". اقتيد يوسيف إلى السجن وبعد عمليات تحقيق وتعذيب خضع لها تم إعدامه شنقاً مع نعمان بلقيند، في ساحة مدينة دمشق.

 

قصة هرب يوسيف والقبض عليه مرتبطة بمحاولات لتصفيته من جانب أعضاء منظمة "هشومير" (العمالية الصهيونية). ففي خريف العام 1917 اعتقلت "هشومير" ليشنسكي واحتجزته لفترة من الوقت حاول خلالها أعضاء منظمة "هشومير" إعدامه على مقربة من المطلة. في شهر تشرين الأول 1917 أُمِرَ عضوا "هشومير" مئير كوزلوفسكي وشبتاي إيرليخ بقتل يوسيف ليشنسكي، وقاما بالفعل بإطلاق النار عليه، لكنها لم تكن طلقة الموت. فيما اتهم المذكوران بأنهما لم يمتلكا الجرأة الكافية لقتل ليشنسكي، وتقرر في اجتماع داخلي لمنظمة "هشومير" تقديمهما لمحاكمة داخلية. وقد شكل هذا الحدث أول محاولة اغتيال سياسي في تاريخ مجتمع الاستيطان اليهودي (الييشوف) على أرضية الخصومة بين منظمة "هشومير" والمنظمة الانفصالية "نيلي".

 

· محاولة اغتيال رونالد ستورس (1921)

 

بعد الأحداث التي وقعت في العام 1921، ألقى يسرائيل شوحط، من زعماء "هشومير" و"الكيبوتس السري"، على عاتق ثلاثة من رجاله هم يوسيف حريط، طوفيا هوروفيتس وموشيه إيليوفيتس، تدبير عملية اغتيال لرونالد ستورس، بعدما اعتبر الأخير مسؤولاً عن سفك الدماء في العام 1920. وقد تعقب الثلاثة ستورس طوال أربعة أشهر، محاولين معرفة مكان سكنه، وقام الثلاثة بالإعداد والتخطيط لعملية الاغتيال بكل تفاصيلها. وكان من المفروض أن يكون منفذو الاغتيال فعلياً أشخاصًا آخرين. غير أن اسحق بن تسفي (من زعماء منظمة "الهاغاناه" العسكرية) استدعى المكلفين الثلاثة بعملية الاغتيال إلى مقره في القدس وأبلغهم أنه تقرر عدم تنفيذ الخطة المعدة بهذا الشأن.

 

· اغتيال توفيق بيه نائب قائد شرطة يافا (1923)

 

في العام 1921 اندلعت اضطرابات في يافا في أعقاب شجار وقع بين متظاهري الأول من أيار (عيد العمال) ومتظاهري حركات تنتمي إلى "حركة العمل" من جهة، ومتظاهرين شيوعيين يهوداً وعرباً من جهة أخرى. في أعقاب هذه الاضطرابات هوجم "بيت المهاجرين" المجاور للمستشفى الفرنساوي في يافا و"بيت يتسكار" الذي قتل فيه الكاتب يوسيف حاييم برينر ويهودا يتسكار وتسفي شاتس ويوسيف لويدور وتسفي غوغينغ برغنرين. على أثر ذلك قام يسرائيل شوحط، زعيم "الكيبوتس"، وإلياهو غولومب وزليغ شترومان، من أعضاء منظمة "الهاغاناه"، بالتحقيق في الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاضطرابات وتوصلوا إلى استنتاج بان "توفيق بيه" (نائب قائد شرطة يافا) مشتبه في حادث قتل برينر، أو على الأقل كان باستطاعته منع قتله. وقررت مُنية شوحط وجوب قتل توفيق بيه. شاؤول أبيغور قال إن قائد "الهاغاناه" يوسيف هيخت هو الذي أمر باغتيال توفيق بيه. هيخت نفسه نفى إدعاء أعضاء "هشومير" بأنه هو الذي اقترح تصفية ضابط الشرطة العربي. وادعى (دافيد) بن غوريون و(الياهو) غولومب في إفادتهما في لجنة التحقيق أن اغتيال توفيق بيه تم دون التشاور معهما ودون إذن من مركز الهاغاناه. أعضاء "هشومير" كرروا إدعاءهم بأن حادث الاغتيال تم بعلم قادة "الهاغاناه" وموافقتهم وحتى بمساعدة كل من الياهو غولومب ويوسيف هيخت. وكانت مُنية شوحط قد كلفت اثنين من أعضاء "هشومير" وهما طوفيا هوروفيتس ويعقوب أبرامزون بمراقبة وتعقب توفيق بيه، فيما كلف يرحمئيل لوكاتشر (لوكا) وبنيامين بيخمن، بتنفيذ عملية الاغتيال. قبل يوم واحد من تنفيذ الاغتيال ذهب الاثنان إلى يوسيف هيخت وأخبراه عن نيتهما، فلم يبد من جهته أي احتجاج أو اعتراض. وبالفعل قام لوكاتشر بإطلاق الرصاص على توفيق بيه قرب متجر لبيع الخمور يعود لمختار حي نافيه شالوم. أثار حادث الاغتيال اضطرابات في يافا غير أن الشرطة البريطانية قامت بإخمادها.

 

· اغتيال يعقوب يسرائيل ديه هان (حزيران 1924)

 

عمل د. يعقوب يسرائيل ديه هان بمثابة "وزير خارجية" الطائفة اليهودية الحريدية (الأرثوذكسية) المتعصبة في القدس. وكان أعضاء الطائفة ينتمون إلى إطارين تنظيميين "مجلس المدينة الاشكنازي" والفرع المحلي لحركة "أغودات يسرائيل". كان ديه هان شخصية مثيرة للجدل، وهو صهيوني قومي سابق تحول إلى ألد خصوم زعماء حركة "العمل" الصهيونية. في مطلع القرن العشرين استطاع ديه هان، بكونه كاتباً وشاعراً وصحافياً (حاصل أيضاً على شهادة الدكتوراه في الحقوق) وباحثاً وسياسياً أن يفتح (بعد "توبته الدينية") أمام المتدينين الحريديم في القدس أبواب الملوك والشخصيات الرفيعة التي ولجها حتى ذلك الوقت كبار قادة وزعماء الصهيونية فقط. وقد رأت فيه زعامة "الييشوف" خائناً خاصة بعد لقاءات منفصلة عقدها مع ملك الأردن (الملك عبد الله) ولقاءات دبلوماسية في لندن. وكان ديه هان، الذي ولد في بلدة هولندية صغيرة، قد أنهى دراسته في "هارلم" وواصل دراسة الحقوق في الجامعة وفي العام 1903 صار واحداً من زعماء حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي. وفي العام 1912 توجه إلى روسيا حيث حقق في وضع السجناء في الدولة، وفي العام 1913، الذي بدأ فيه رحلته الثانية، اتجه إلى "التوبة إلى الدين اليهودي". في 4 كانون الثاني 1919 كان "أول طليعي يهودي هولندي" يهاجر إلى فلسطين/ أرض إسرائيل، حيث عمل مراسلاً محلياً لصحيفة هولندية. خلال ذلك تقرب ديه هان إلى زعيم التيار اليميني الإصلاحي زئيف جابوتنسكي، وكان معجباً به كزعيم سياسي، كما جمعته في الوقت ذاته علاقة صداقة مع الحاخام يوسيف حاييم زوننفلد، زعيم "الييشوف القديم". وكذلك مع الحاخام مناحيم مندل فرنكل، مؤسس مجموعة دينية مناهضة للصهيونية عملت تحت اسم "هستدروت القدس". في حزيران 1923 التقى ديه هان مع الأمير عبد الله في عمان ومع الملك فيصل وتوصل معهما إلى اتفاق باسم الطائفة الحريدية اليهودية يقضي بالتنازل عن "وعد بلفور" مقابل اتفاقيات سلام مع العرب وذلك خلافاً لرأي الهستدروت الصهيونية. على أثر ذلك تعرض ديه هان إلى حملة هجومية متصاعدة من قبل الأحزاب والحركات الصهيونية، وأثارت لقاءاته وتصريحاته بشكل خاص غضب نائب قائد "الهاغاناه" في القدس أبراهام تهومي الذي شكل مع أبراهام غيورا (كرشفسكي) رأس حربة "المجموعة المركزية" في منظمة الهاغاناه برئاسة زكريا أوريئيلي الذي كان قائداً لفرع المنظمة في القدس. وخطط هؤلاء معاً لاغتيال ديه هان وذلك بعلم يتسحاق بن تسفي وراحيل يانيت. في البداية ألقيت المهمة على يرمياهو هلبرين (نجل ميخائيل هلبرين) وموشيه روزنبرغ (الذي أصبح فيما بعد قائداً لمنظمة "إيتسل" اليمينية الإرهابية) غير أن المذكورين رفضا تنفيذ الأمر الصادر لهما. بدأ تهومي بمراقبة ديه هان في نطاق أنشطة "مجموعة المركز"، ثم جهز مسدسه وحشاه بالرصاص وانطلق إلى المكان المخطط لتنفيذ عملية الاغتيال. واعترف تهومي أنه أطلق على ديه هان "ثلاث رصاصات متتالية من أجل الإجهاز عليه". نقل ديه هان إلى غرفة العمليات في المستشفى إلا أنه كتب في تقرير الوفاة أنه "مات على الفور". غداة حادث الاغتيال، في الأول من تموز 1924 ذهب أوريئيلي وتهومي وغيورا إلى يتسحاق بن تسفي وقدموا له تقريراً عن تنفيذ الاغتيال. وقد أخذ يوسيف هيخت (مسؤول فرع الهاغاناه في القدس) على عاتقه المسؤولية الشخصية عن اغتيال ديه هان. غير أن الحادث أحيط بالغموض كما راجت روايات عديدة عن قتلته المحتملين.

 

· محاولة اغتيال الكسندر زايد (1925)

 

 

روى الكسندر زايد أن يرحمئيل لوكاتشر (لوكا) أتى إليه إلى الحقل يحمل سلاحاً بيده وأخبره أنه أُرسل لقتله، فأمسك زايد بذراعه وجرده من سلاحه. واعترف لوكا أن ناحوم هوروفيتس ويوسيف حريط أرسلاه لقتل زايد بسبب "خيانته" وذلك على أرضية خلافات نشبت بينه وبين زملائه في "كفار جلعادي" وتركه لكيبوتس "تل يوسيف". وكان زايد قد أُعتبر "يمينياً" في "كتيبة العمل" خلافاً لـ "لوكا" الذي كان محسوباً على الجناح اليساري ثم أُعتبر لاحقاً كشيوعي. وقد روى الكسندر زايد هذه الواقعة لـ "بن تسفي".

 

· محاولة اغتيال دافيد بن غوريون (تموز 1926)

 

وجه بن غوريون وغولومب حملة اتهامات شديدة للغاية ضد منظمة "هشومير" بدعوى أنها "تنظم دفاعاً مستقلاً" وبشكل منفصل عن باقي المنظمات الصهيونية، وأن أفرادها يحتفظون بمخازن أسلحة سرية، كما اتهما أعضاء "هشومير" بسرقة وسلب مبلغ 16 ألف ليرة ذهب. ودار اتهام آخر حول بعثة شوحط مع اثنين من زملائه في "كتيبة العمل" والتي توجهت في مهمة سرية إلى الاتحاد السوفييتي. كذلك اتهمهم بن غوريون بالتحريض وترويج إشاعات مفادها أنه وشى بأعضاء "هشومير" متهماً إياهم بالوقوف وراء حادث اغتيال ديه هان، واشتكى بن غوريون من أن أعضاء "هشومير" قالوا لـ يتسحق بن تسفي إنه إذا قام (بن غوريون) بزيارة "كفار جلعادي" أو إذا استمر بالعمل بطريقته فسوف يقومون بقتله. في 26 تموز 1926 عقدت جلسة اعتيادية لمجلس الهستدروت وجرى جانب من نقاش الجلسة خلف أبواب مغلقة. غير أن الأمور تسربت إلى "مُنية شوحط" التي تحدثت عن ذلك مع بن تسفي والذي سارع بدوره لإبلاغ بن غوريون بما تناهى إلى مسامعه. وكانت مُنية واثقة أن بن غوريون وشى بها فيما يتعلق بضلعها في قتل ديه هان. وفي لجنة التحقيق حول الحادث روى بن غوريون أنه قيل لـ بن تسفي في كفار جلعادي إنه "إذا استمر بن غوريون بالعمل بطريقته فسوف يقتلونه". وأكد بن تسفي بدوره صحة هذه الأقوال.

 

· محاولة اغتيال شيخ الجالية المغربية (1927)

 

على أثر اتهام السكان العرب في حي باب المغاربة في القدس القديمة بالتحرش بالمصلين اليهود (في "حائط المبكى")، تلقى أبراهام تهومي أمراً بزرع لغم قرب منزل شيخ عربي (شيخ الجالية المغربية) كان يسكن قبالة "حائط المبكى". وكان من المقرر أن تنفذ "عملية زرع اللغم" تحت ستار من السرية الشديدة، ولذلك قرر زكريا أوريئيلي وأبراهام تهومي أن يقتصر تنفيذ العملية عليهما فقط دون مشاركة أحد. وبالفعل قاما بإعداد اللغم بأنفسهما وزرعاه في منزل الشيخ. في مقابلة أجراها شلومو نكديمون مع أبراهام تهومي في 1983- 1984 في منزل الأخير في هونغ كونج، وصف تهومي محاولة الاغتيال هذه بالتفصيل.

 

· محاولة اغتيال دوغلاس داف (1929)

 

كان دوغلاس داف يشغل منصب نائب القائد البريطاني للواء القدس، والذي اتهم بلعب دور فاعل في الصدامات العنيفة التي وقعت قرب "حائط المبكى" في العام 1929. على أثر ذلك قرر زكريا أوريئيلي وأبراهام تهومي اغتياله. وكلف أوري الفرات بمراقبته حيث قام بجمع كافة التفاصيل والمعلومات اللازمة. وقد خططا لاغتياله أثناء ركوبهما على الدراجة النارية العائدة لقائد الفرع، لكن الدراجة تعطلت فتم العدول عن فكرة الاغتيال.

 

· اغتيال حاييم أرلوزوروف (1933)

 

كان حاييم أرلوزوروف (المولود العام 1899 في أوكرانيا) قد أصبح، بعد هجرة عائلته إلى ألمانيا العام 1905، ناشطاً ثم أحد القادة الشبان في حزب "هبوعيل هتسعير" الصهيوني في ألمانيا. ثم هاجر إلى "أرض إسرائيل" في العام 1924 بعد ما حصل في نفس العام على لقب الدكتوراه في جامعة برلين. انخرط أرلوزوروف عقب هجرته في زعامة حزب "هبوعيل هتسعير" في البلاد، وقد برز بشخصيته القوية ونضجه السياسي وثقافته المتعددة (أجاد العبرية والروسية والألمانية). عقب إقامة "حزب بوعالي إيرتس يسرائيل" (مباي) في العام 1930 أصبح أرولوزوروف أحد زعماء الحزب (ترأسه بن غوريون). في الكونغرس الصهيوني الـ 17 الذي عقد العام 1931 انتخب عضواً في إدارة الوكالة اليهودية ورئيساً للدائرة السياسية فيها، وبالتالي يمكن القول إنه كان وزيراً لخارجية الدولة اليهودية العتيدة، وهو الكيان الذي سمي في تلك الفترة "الييشوف". أقام أرلوزوروف علاقات طيبة مع المفوض السامي البريطاني الأعلى في فلسطين وساهم في تحسين وتوطيد العلاقات بين سلطات الانتداب و"الييشوف" اليهودي، كما كتب مقالات عكست وجهة نظره المعتدلة بشأن ضرورة التعاون مع الشعب العربي في البلاد.

 

الاغتيال والخلفية

 

عقب صعود هتلر إلى السلطة العام 1933 شرع أرلوزوروف بحملة استهدفت تهجير يهود ألمانيا وإنقاذ ممتلكاتهم وجلبها إلى البلاد. في نفس العام سافر إلى برلين لتفحص إمكانية إجراء مفاوضات مع الحكومة الألمانية للهدف ذاته، وقام برحلات مكوكية لهذا الغرض بين برلين ولندن، مقترحاً أن يتولى غير يهود (بريطانيون) إجراء المفاوضات باسم الهستدروت الصهيونية، وحصل على موافقة وزير المستعمرات البريطانية بشرط أن لا تتدخل بريطانيا رسمياً في المفاوضات. لكن خطته هذه اصطدمت بالذات بمعارضة من جانب يهود ألمانيا الذين عبروا عن خوفهم من السلطات النازية. وتشاور أرلوزوروف مع د. روبرت وولش، من زعماء يهود ألمانيا، إذا ما كان يجدر التوجه حول نفس الموضوع إلى زوجة جوزيف غبلز وزير الدعاية والإعلام في الحكومة النازية بغية استخدام نفوذها الشخصي لدى زوجها لإنقاذ الممتلكات اليهودية. غير أن زوجة غبلز، التي كان لأرلوزوروف علاقة وثيقة بها، رفضت مقابلته. خلال رحلته إلى ألمانيا شُنت في البلاد ضده وضد خططه حملة تحريض في صحيفة "حزيت هعام" (جبهة الشعب) الإصلاحية وهي لسان حال الجناح اليميني المتطرف في الحركة الإصلاحية، استخدمت فيها ضده تعابير من قبيل "تحالف ستالين- بن غوريون- هتلر" و"طعنة في ظهر الأمة" و"الدبلوماسي الأحمر" الذي ذهب لبيع شرف الشعب اليهودي وكرامته لقاء حفنة من الأموال. وفيما اشتدت هذه الحملة أكثر فأكثر عاد أرلوزوروف إلى البلاد في 14 حزيران 1933 وبعد يومين، أي في 16 حزيران، وبينما كان يجلس أرلوزوروف وزوجته "سيما" الساعة التاسعة والنصف مساء في بنسيون في تل أبيب على الشرفة المطلة على الحديقة لاحظا أن هناك جمعاً من الفضوليين يحيط بهما فقررا الذهاب في نزهة على الأقدام على امتداد شاطئ البحر باتجاه نهر اليركون وعندما اقتربا من مصب النهر لاحظت "سيما" رجلان كانا يسيران في أعقابهما فأخبرت زوجها بذلك وتوجها إلى حي صغير مجاور ولدى اقترابهما من المقبرة الإسلامية (المكان الذي يوجد فيه اليوم فندق هيلتون) اقترب الرجلان من أرلوزوروف وزوجته وامتشق أحدهما مسدساً وأطلق النار على أرلوزوروف، ثم لاذ المهاجمان بالفرار. نُقل أرلوزوروف إلى مستشفى "هداسا" ليفارق الحياة هناك بعد وقت قصير نتيجة نزيف دموي حاد. وقد أثار حادث الاغتيال صدمة كبيرة في "الييشوف" سواءً بسبب شخصية المغدور المهمة أو بسبب ملابسات جريمة الاغتيال. وقعت الشبهة الرئيسة على أعضاء الحركة الإصلاحية اليمينية، واعتقل مشبوهان من أعضاء الحركة على ذمة التحقيق هما تسفي روزنفلت وأبراهام ستافسكي. كما اعتقل الكاتب الصحافي الإصلاحي ذو الميول المتطرفة آبا أحيميئير للاشتباه بضلوعه بالتحريض على القتل، وخلال محاكمة المشبوهين الرئيسين بالقتل ظهر فجأة مشبوهان آخران أحدهما عربي يُدعى عبد المجيد، حيث أدلى الأخير بإرادته اعترافاً للشرطة بأنه قام مع صديق له يُدعى عيسى درويش بقتل أرلوزوزوف. غير أن الأخيرين تراجعا عن اعترافهما وقالا إن المشبوهين ستافسكي وروزنفلت وعداهما برشوة مالية مقابل اعترافهما. المحكمة العليا الانتدابية التي بحثت اغتيال ارلوزوروف كهيئة استئناف أكدت وجود مؤامرة وشهادة زور في القضية. وفي نهاية المحاكمة في محكمة الجنايات الخطيرة في 8 حزيران 1934 برئت ساحة روزنفلت، فيما أدين ستافسكي بناءً على شهادة زوجة أرلوزوروف وحكم عليه بالإعدام شنقاً. وفي استئناف للمحكمة الانتدابية العليا في 20 تموز 1934 بُرِئ أيضاً ستافسكي استناداً لعدم جواز إدانة شخص بجريمة قتل بناءً على شهادة شخص واحد فقط. كذلك تقرر عدم تقديم آبا أحيميئير كمشبوه بالتحريض على القتل، للمحاكمة بتهمة مرتبطة بجريمة القتل.

 

لقد ظلت هذه القضية موضع جدل داخل الحركة الصهيونية والدولة اليهودية طوال عشرات السنين، حيث كان أعضاء حركة العمل على اختلاف أحزابها واثقين بأن ما جرى هو جريمة اغتيال سياسي وان ستافسكي وروزنفلت، هما المتهمان الحقيقيان بارتكابها، فيما اعتقد في المقابل أعضاء المعسكر الإصلاحي (اليميني) على اختلاف أحزابهم أن إلقاء التهمة على المذكورين كانت مجرد فرية. وفي شهر آذار عام 1982، خلال ولاية رئيس الحكومة مناحم بيغن، وهو من زعماء الحركة الإصلاحية، قررت الحكومة إقامة لجنة تحقيق قضائية برئاسة القاضي السابق في المحكمة العليا دافيد بخور. غير أن اللجنة لم تجد منذ ذلك الوقت الأدلة المادية، كما أن الكثير من الشهود انتقلوا إلى العالم الآخر، وقدم آخرون لأسباب مختلفة إفادات متناقضة. على ضوء ذلك قررت لجنة التحقيق بالإجماع أن أبراهام ستافسكي (الذي قتل على ظهر سفينة "الطلينا") وتسفي روزنفلت ليسا قتلة حاييم أرلوزوروف وأنه ليس لهما أي ضلع في جريمة الاغتيال، كما قررت المحكمة بأنها لا تستطيع التأكيد إذا ما كانت عملية القتل هي اغتيال سياسي. ومع ذلك فإن هذا القرار لم يضع حداً للخلاف حول جريمة قتل أرلوزوروف، التي لا زالت أصداؤها وتداعياتها تتفاعل حتى اليوم.

 

 

اغتيالات سياسية بين وداخل صفوف التنظيمات السرية اليهودية

 

 

انتهجت "المنظمة العسكرية القومية" الصهيونية ("إيتسل") التي لم تمتثل لإمرة الزعامة الصهيونية، وعلى غرارها أيضاً منظمة "ليحي" ("المحاربون من أجل حرية إسرائيل")، نمط العمل (الإرهابي) العنيف، الذي أطلق عليه "تغوفاه" (الرد) وذلك في مقابل أسلوب ما يسمى بـ "ههبلغاه" (ضبط النفس) الذي ادعت منظمة "الهاغاناه" إتباعه. وقد لجأ أعضاء المنظمتان "إيتسل" و "ليحي" إلى تنفيذ عمليات إطلاق نار عشوائية وألقوا قنابل وعبوات ناسفة باتجاه مقاه ومداخل مدن مزدحمة بالناس واعتدوا أيضاً على زعماء سياسيين عرباً وبريطانيين ويهود.

 

· في 16 تشرين الثاني 1944 اغتال (إرهابيان يهوديان) وهما الياهو بيت تسوري ("زبولون") والياهو حكيم (بيني) الوزير البريطاني الدائم لشؤون الشرق الأوسط، في القاهرة، اللورد موين.

 

· في 17 أيلول 1948، قتل الوسيط من طرف الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت، وذلك في عملية اغتيال خطط لها يهوشواع زلتر، قائد منظمة "شتيرن" (منشقة عن "ليحي") في القدس، ونفذها عضو المنظمة يهوشواع كوهين. وكانت قد وقعت بين فترة وأخرى عمليات إرهابية عديدة نفذها إرهابيون يهود ضد شخصيات سياسية مسؤولة في السلطة المدنية وضد ضباط في الجيش والشرطة. وقد بدأت عمليات القتل الإرهابية ضد القادة والمسؤولين في سلطات الانتداب البريطانية في العام 1939. ففي 26 آب من هذا العام أصدرت التنظيمات الإرهابية الصهيونية حكما بالإعدام وقامت باغتيال الضابط البريطاني كرنس وضابط آخر يدعى بركر بواسطة تفجير لغم كهربائي. وفي ربيع العام 1939 قتل أعضاء منظمة "إيتسل" آرييه بولوفسكي الذي كان مجنداً من طرف "الهاغاناه" في صفوف الشرطة السرية البريطانية.

 

· في آب 1944 حاول أعضاء "ليحي" في (7) مرات قتل المفوض السامي البريطاني في فلسطين اللورد مكمايكل، وحاولت المنظمات العسكرية الصهيونية تنفيذ اغتيال سياسي ضد قائد شرطة حيفا ريموند كابرتا. كما وقعت عملية اغتيال أخرى ضد الجنرال أولين بركر، الذي كان يسكن في حي الطالبية بالقدس. إلى ذلك فقد وقعت عمليات قتل واغتيال سياسية عديدة داخل المنظمات العسكرية الصهيونية وذلك على خلفية النزاعات على الزعامة وبتهم التعاون والتخابر... الخ. عملية الاغتيال الأكثر شهرة هي قتل الياهو جلعادي (شاؤول) على يد اسحق يزرنيتسكي (شامير) من زعماء منظمة "ليحي". وفي أيلول 1943 اغتيل يسرائيل فريتسكر رئيس شعبة المعلومات (الاستخبارات) في منظمة "الايتسل"، وذلك قرب بيته في تل أبيب على يد أعضاء في "ليحي" الذين نفذوا بذلك حكماً بالإعدام كانت المنظمة قد أصدرته بحقه بتهمة تسليم أعضاء فيها إلى البوليس البريطاني. وخلال فترة الأربعينيات وقعت العديد من عمليات القتل والاغتيال لأعضاء ومسؤولين في المنظمات الصهيونية والتي نفذت على خلفية مشابهة. وقد أعدمت منظمة "الهاغاناه" أيضاً في محاكمات ميدانية العديد ممن وصفتهم بالمتعاونين، بينما كانت الخلفية الحقيقية سياسية، كما حدث في إعدام مئير طوبيانسكي في حزيران 1948 والذي كان قائداً في "الهاغاناه" ورئيساً لجهاز استخباراتها (شاي) في القدس.

 

خلاصة...

 

 

أصبح العنف وجرائم القتل السياسية المنظمة منذ العقود الأولى من القرن العشرين نهج عمل وطريقة لحل وتسوية الخلافات السياسية في صفوف المجتمع اليهودي ومنظماته وأحزابه السياسية والعسكرية في أرض إسرائيل/ فلسطين، ومن الأسباب التي تعزى إليها هذه الظواهر طابع العسكرة للمجتمع اليهودي- الإسرائيلي والتوترات والتناقضات التي نشأت في شبكة العلاقات بين الأجيال، الزعامة الأيديولوجية القديمة من جهة، والمحاربون الشبان الذين سعوا إلى الارتقاء في سلم القيادة والزعامة، من جهة أخرى.

 

وقد ظلت عمليات ومحاولات القتل السياسية تصاحب المجتمع اليهودي حتى بعد قيام الدولة اليهودية، وكان من أبرز هذه الحوادث محاولة اغتيال مئير فلنر أحد زعماء حزب "ماكي" (الحزب الشيوعي الإسرائيلي) في العام 1967 وقتل يسرائيل كستنر في العام 1957 واغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين في العام 1995.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات